عدي الحربش - اختفاء الحاكم بأمر الله

1
في صباح الثامن و العشرين من شوال سنة 411 للهجرة، استفاقت القاهرة المحروسة على خبرٍ هزّ شوارعها و بيوتها و جعل الناس يلهجون طويلاً و الخوف لا يزايلُ عيونهم. بدأ الخبر أولَ ما بدأ في القصر الشرقي الكبير، ثم انحدر في غضون ساعات عبر الأزقة و الشوارع ليصلَ كلَ بيتٍ و كلَ أذن: خليفة الله، أبو علي المنصور، الحاكم بأمر الله، اختفى! هكذا و بكل بساطة، خرجَ إلى قرّافة المقطّم غيرَ أنه لم يرجع. بعدَ ساعةٍ أو ساعتين اكتسبَ الخبرُ مزيداً من اللحم، فحُكي أن الحاكم بأمر الله ركب على حماره تلك الليلة، و خرجَ إلى جبلِ المقطم و بصحبته رجل و صبي لم يستطع أحدٌ أن يسميهما. خرج كي يتدبر النجوم كما جرت عادته، ثم حين شارف القرّافة أمرَ تابعيه بمغادرته، و منذها و هو مفقود لا يُعلم عنه خبر. يتزيد آخرون فيقولون أنّ ستَّ الملك –أخت الحاكم- أرسلت رجالاً إلى المقطم كي يتبينوا جليّة الأمر. هناك، و تحديداً في موضعٍ يُطلق عليه بركة القصب، عثر الرجال على حمار الحاكم و هو يعرجُ مجروحاً بضربة سيف، كما عثروا على جبة الحاكم معفرةً بالتراب، و قميصه ممزقاً ملقىً على الأرض.

سرعانَ ما عمّت الفوضى و تعقدَ الأمرُ، إذ خرجَ رجلٌ صعيدي من بني الحسين، و أخذّ يطوّف بالأسواقِ حاملاً في يدهِ اليمنى جلدة رأسٍ، و في يده اليسرى قطعة فوطة، زاعماً أنهُ قتل الحاكم بأمر الله إحقاقا للحق و انتقاماً لحرمات الله. قبض رجال الدركِ على الرجل، إلا أنه غافلهم، و سحب سكين لحمٍ طويلة كان يخفيها في مئزره، ليغرزها سريعاً وسط عنقه. بعد صلاة العصر، خرجت جماعةٌ من رجالِ حمزة بن علي الزوزني من مسجد ريدان، و أخذوا يطوفون و يصرخون مهتاجين، زاعمين أن الحاكم بأمر الله لم يُقتل و إنما احتجب، غادر مصر بفسادها و شرورهها قاصداً ما وراء الهند. اختلطَ الأمرُ على العامة، و لم يدروا ما الصحيح و ما المُلفق، و بقيت الأخبار تزيد و تتعقد و تتشابك و تتناقض إلى أن هبطَ الليل. جماعة لا تُحصى من سكان القاهرة سجدوا لله شكراً تلك الليلة أن سمع نجواهم و استجاب دعاءهم و أراحهم من ذاك المأفون الذي حرقَ مدينتهم و قتل رجالهم و رمّل نساءهم و زرع الرعبَ في قلوبِ عيالِهم.

في صباحِ اليوم التالي، و مع أوائل أشعة الشمس، اجتمع ثلاثة من غلمان القصر في أحدِ الدهاليز المظلمة، و أخذوا يتهامسون بحذرٍ عن القضية المُلغِزة التي أصبحت الشغلَ الشاغل لكل قاطني مصر. أين اختفى مولاهم الحاكم بأمر الله و كيف؟ كانوا يعلمون أن الحديث في هذا الموضوع غير محببٍ وسطَ القصر، بل إنّ القهرمان المعني بشؤون الخدم توعد بالجلد كل من سُمع يلهجُ بالموضوع، إلا أنّ قلوبهم الفتية وجدت في هذه الحادثة الغريبة موضوعاً مثالياً يخرجهم من رتابة الخدمة اليومية و حياة القصر المُملة. كانت أعمارهم تتراوح ما بين العاشرة و الخامسة عشر، و كانت أعينهم تتفجرُ أسئلةً و فطنة. الأول يُدعى حسيناً، الابن البكر لسايس خيول القصر. الثاني أحمد، ابن الطباخ و المسؤول عن حمل أكياس الرزّ و الطحين. الثالث إسماعيل، أحد الغلمان المُلحقين بخدمة أم الحاكم. بعد محادثةٍ سريعة و هامسة، اتفق ثلاثتهم على أن يتفرقوا ليعودوا إلى أشغالهم، ثم يجتمعوا بعد ثلاث ساعات بعد أن ينهي كل منهم ما يتوجب عليه إنهاؤه من أعمال القصر. سموا باب النصرِ مكاناً للاجتماع، و من هناك سيشخصون إلى بركة القصب للتحقيقِ في موضوع اختفاء الخليفة الحاكم. تعهد كل واحدٍ منهم بإحضارِ شيء يستعينون به في رحلتهم القصيرة. حسين سيحضرُ مطيةً يتناوبون الركوب عليها، أحمد سيتكفلُ بالشراب و الطعام، أما إسماعيل فسيحضرُ فرشاً و معاولَ و أغطية.

اجتمع الثلاثة بعد انقضاء صلاة الظهر، و انطلقوا بحمارهم و متاعهم ميممين شطرَ المقطم. ما إن خرجوا من القاهرة حتى استقبلتهم الريح الشرقية و أخذت تعبثُ بعقص شعورهم و تنفخ جيوب قمصانهم. مشوا مُصعدين لمسافةٍ من الوقت، و أخذوا يتناوبون ركوب الحمار. عندما وصلوا بركة القصب ربطوا دابتهم و وضعوا لهم فرشا فوقَ الأرض و أوقدوا ناراً. أخذت الشمس تتمايلُ بأشعتها القرمزية ساقطةً نحو الغرب، إلا أنّ ذلك لم يكدرهم، إذ أنهم كانوا في غنىً عن نورها الكوني بما يمتلئون به من الأسرار و الخبايا. كان من الواضحِ أنهم لم يخرجوا إلى هذا المكان إلا لينأوا عن الآذان المستسرقة و عن الجواسيس، و حينها سيستطيعون أن يبتاحثوا الموضوع و يتبادلوا الأسرار كما يحلو لهم. أخرج أحمد من الخُرج ما جلبه من طعام، بينما دعكَ حسين راحتيهِ ببعضهما و قربهما من اللهب. افتتح حسين الحديثَ مخاطباً زميليه:

"لا بدّ أنكما سمعتما الشائعات التي تقول أن مولاتي ست الملك هي من قتلت مولاي الحاكم بأمر الله بمساعدة الأمير سيف الدين بن داوس! أنا أيضاً سمعتُ الشائعة، و كدتُ أن أرفضها كغيري، إذ أنّ الجميع يعلم مقدار الحب الذي تكنّه مولاتي ست الملك لأخيها الحاكم و كيف فعلت المستحيل لتحفظ ملك آبائها لأخيها الأصغر. نعم، قلتُ لا يمكنُ أن تعمل مولاتي ست الملك بغير صالح أخيها الحاكم، إلا أني بدلتُ رأيي ليلة البارحة بعد أن أخبرتني فجر –جارية مولاتي ست الملك- عن ما حدث بين الحاكم و أخته. هل تعلمان أن الحاكم بأمر الله اتهمَ مولاتي ست الملك بالزنا؟"

"معاذ الله! أحقاً ما تقول؟"

كانت تلك الشائعة قد وصلتْ كلاً من أحمدَ و إسماعيل كغيرهما من خدم القصر، إلا أنهما اصطنعا الجهلَ لأجل خاطر حسين، و لكي يحثاه على الاسترسال في الموضوع عله يبوح بخباياً و أسرار لا يعرفانها.

"نعم الزنا. كنتُ في حيرةٍ من أمري بخصوص الحاكم، أسمع عن أفعاله من العامة فأقول بجنونه، ثم أراه أمامي في القصر فيتبدل رأيي و أجزم بكياسته ، و لكن الآن، و بعد أن ثبتَ أنه اتهم أخته ذات الخمسين سنة بالزنا، و الله لا أستطيع أن أقول سوى أنه مخبول بالغ الخبال. تقول فجر أنّ الحاكم اقتحم جناح الأميرة ست الملك و هو يرغي و يزبد. كان هائجاً جاحظ العينين، تعلمان كيف يبدو مخيفا عندما يغضب. اقتحم جناحها، ثم أخذ يصرخُ متوعداً، قائلاً أنها زانية و ابنة نصرانية، و أنها تدخل الرجال و تعاشرهم، و أن بطنها لم يتكوّر إلا سفاحاً، إلى غير ذلك من ألفاظ الخنا."

"ماذا فعلت ست الملك؟"

"ماذا فعلت! أنا متأكد أنها اتفقت مع الأمير سيف الدين على البطش بأخيها الحاكم قبل أن يبطشَ بهما. هذا ما يجدرُ بها أن تفعله، و هذا ما أعتقد أنها فعلته. تقتله.." قالها حسين و هو يمررُ أصبعيه أمام عنقه.

"كل هذا لا يدخل العقل،" تمتمَ أحمد، "مولاتي ستّ الملك بريئة من دم أخيها براءة الذئب من دم يوسف. المستفيد الأول و الأخير من اختفاء الحاكم ليست مولاتي ست الملكّ و إنما جماعة الريدانيين و زعيمهم حمزة بن علي اللباد. هكذا يقول أبي. منذُ بدأ الحاكم بالاستماعِ إلى تخاريفِ الفرغاني و الزوزني و نشتكين و البلاد مقلوبة رأسا على عقب. أوهموه بأنهُ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا يفنى و لا يموت، ثم قتلوه و قالوا باختفائه كي تنتقل الإمامة إلى زعيمهم الزوزني. ها هم الآن يطوفون الأسواق قائلين أنه اختفى و أيديهم مصطبغة بدمائه."

"لحظة يا أحمد،" تدّخل إسماعيل، "أنتَ و حسين تطرحان آرائكما المختلفة بخصوص مقتل مولانا الحاكم، و لكن ما الذي يؤكد أنه قُتل؟ لماذا لا يكونُ قد اختفى كما يقول الريدانيون؟"

"اختفى! إلى أين؟ لا تقل أنكَ تصدق خرافة ما وراءَ الهند. هل اتبعتَ مذهب الريدانيين أنتَ أيضاً؟"

"ليسَ هذا، و إنما ما سمعته و ما شهدتهُ يدل على أن الأمرَ مصطنع و قد عُمِلَ له منذ مدة. فكرا باللهِ عليكما: لماذا يخرجُ الحاكمُ كل ليلة إلى المقطّم و هم يعلم أن آلافا من المصريين يتربصون به و يتمنون قتله؟ لماذا يدخلُ على أخته ست الملك و يتهمها بالزنا و يغضبها قبل أسبوع من اختفائه؟ أليس شيئاً يبعث الحيرة؟ كما أني رأيتُ بعينيّ هاتين مولاي الحاكم و هو يدخل على أمه ليقبل رأسها و يسمع منها و ليهبها مبلغاً من المال قبل مغادرته. أليس هذا سلوك شخص ينوي أن لا يرجع أبداً؟ أقولها لكم و خذوها مني الحاكم لم يُقتل و إنما اختفى. هناك شيء في داخلي يؤكد لي أن الحاكم كان ينوي أن يرحل منذُ مدة، و أنه دبر الأمر كي يظهرَ كما لو أنه اغتيل غدراً."

"أهذا سلوك شخص يريد أن يرحل أم سلوك شخص يُريد أن يُقتل؟ و أيم الله أنتَ المخبول يا إسماعيل و ليس الحاكم! لا تستطيعُ أن تشرحَ عقلياً سلوك شخصٍ لا يملك ذرةً من العقل."

"و لكنه ليسَ مجنوناً. لقد رأيتماه و سمعتما منه مثل ما رأيتُ و سمعتُ منه. كيف تصفانه بالجنون؟"

هكذا دارتْ عجلة الحديث بين الغلمان الثلاثة، و أخذت الآراء تقارعُ بعضها دون أن ترجح لأحدِها كفة. عندما هبط الليل أطفأ الثلاثة نارهم، و أيقظوا حمارهم، ثم انطلقوا صامتين باتجاهِ القصر الكبير شرقي القاهرة. لم يكن ليكدر خواطرهم أنهم يرجعون خائبين بلا حلٍ أو تفسير لقضية اختفاء الحاكم. كانوا شاكرين -على الأقل- هذه الفسحة التي ما كانوا ليسترقوها من وقتهم لولا اضطراب نظام القصر الناجم عن اختفاء الخليفة. على الحمار نام حسين، بينما أخذَ إسماعيل يقود الزمام و عيناه لا تبارحان ترابَ الأرض، أما أحمد فلقد أخذ يمشي متطلعاً إلى الأعلى، متأملاً النجوم المرصِعة لقبة السماء، متسائلاً عن سر ولعِ الحاكم بها و خروجه كل ليلةٍ من أجل مشاهدتِها.

في تلكَ الهدأةِ من الليل، في تلك الظلمة الغابشة الممتدة، كان هنالك صوت خافت لم يتمكن الغلمان من التقاطه. صوت متدحرج مذعور، صوت هزيل، لو أنهم سمعوه، لربما اهتدوا إلى إجابة لبعض أسئلتهِم. صوت من المستحيلِ أن تحدد كيف و من أين انبعث. لربما من تحت الأرض، حيثُ كان إسماعيل ينظر! لربما من عند النجوم، حيثُ كان أحمد يُحدِق! و لربما من جوفِ العتمة و الظلام و ما وراء الحُجُب حيثُ كان وعي حسين يسبحُ حالماً. صوت خافت، بالكاد يسمع، يتوقفُ ملياً ثم يعاودُ التدحرج. صوت يقول..

2
"أحاولُ أن أحدّق، فلا أرى سوى الظلام. أغلقُ حاجبيّ، فلا أرى سوى الظلام. هلِ الظلامُ أمامي أم أنه داخلَ كرةِ عيني؟ لا أرى سوى الظلام! ها! أين أنت يا عبكري؟ أينَ أنتَ كي تنهرني قائلاً بصوتك الأجشّ: 'الظلامُ لا يُرى، و إنما هو غياب الرؤى.' سفسطة و أيمَ الله! أكادُ أجزمُ أن الضياء الساطع و الظلام الدامس لهما نفس اللون. أكادُ أجزمُ أنني لو حدّقت في كوكبٍ دريّ بالغِ الضياء لبضع دقائق لاستحال ذاك الضياءُ ظلاماً. أهذا ما أفعله الآن؟ أحدقُ في نجمة! أين أنا يا رب الملكوت؟ أين أنا يا رحمن؟ أمعفّر الوجهِ، مكسورَ الهامة، ملقىً فوق التراب؟ أم أني أسيرُ في طريقٍ لانهائي، وسط الليل، باتجاهِ النجوم؟ أكادُ لا أحيرُ جواباً. كيف أجيب، و أنا لا أحسّ بأطرافي، و لا أسمع رجعَ نفسي، و لا أرى ما يحوّطني. ربما أنا ميت! أو في مرحلةِ ما بعد الموت! أو ما قبله بقليل! لا أدري! لربما عالقٌ في البرزخ! لا أشعر سوى بكينونتي. كينونتي المسكينة و هي مطروحة و مسحوبة من كل اتجاه حتى غدت باتساع الليل. هنالك حدسٌ في داخلي يشعرني أنني أمشي. وسط الظلام. نعم أمشي بلا انقطاع. منذ ساعات. بل أيام! أكاد أجزم. ربما هي روحي تنزعُ أو تكاد، بينما يسقط الوعيُ في قاعٍ بلا قرار. لا بدّ أن لهذا السقوط من نهاية! لا بدّ أنّ لهذا الخطوِ الحثيث منتبذ أخير! هناك نقطة ضوء تتراقصُ في الجانب الأيمن من بصري. هنالك أخرى على الجانب الأيسر. و أخرى. و أخرى. أهي نجوم؟ لا يمكن! أراها حتى بعد أن أغمضَ عينيّ. لا يمكنُ أن تكونَ النجوم داخلَ محجريّ! إلا أن أكونَ أنا و الليل شيئاً واحداً. يا لها من فكرة! أنا و الليل شيء واحد! ربما هذا الناسوت الذي حدثني عنه كلاً من حسين الفرغاني و حمزة الزوزني عليهما لعنة الله. ما الذي أتى بي إلى هنا؟ إلى هذا المكان؟ هذه الحالة؟ لا أستطيع أن أذكرَ أين كنتُ هذا الصباح. بل إن زمني الحالي هو قطعة منفصلة لا تتصل بزمن بشري، لا تتصلُ لا بصباحٍ و لا بمساء. أستطيع -على الأقل- أن أتذكر العبكري، و الفرغاني، و اللباد. ها هنا حبل أستطيعُ أن أتشبث به. العبكري. طفولتي. لربما قادتني البداية إلى نهاية، إلى ما أوصلني إلى وضعي اللعينِ ذا.

"أزقة القاهرة، قاهرة المعزّ، قاهرة أجدادي و طفولتي، نعم، أستطيع أن أسترجعَ أسواقها و أزقتها و تعرّجاتها و كأنها خطوط راحتي. أستطيع أن استروحَ ضوعَ التوابل و العطور، أن أسمع ضجيج الباعةِ و المتسولين. كم كنتُ أحبها! أحبها، و أخافُ أن أضيعَ في متاهتِها اللانهائية. القاهرة المحروسة، القاهرة التي أحببت، القاهرة التي أحرقت. كم كنتُ أودّ لو أنَّ والدي -العزيزُ بالله- تركني أجوبُ أزقتها و أسواقها حراً طليقاً كالطيرِ في جنانِ الفلكِ بدلَ أن يعهدَ بي إلى ذاك الكهلِ المحدودبِ الظهر أبي الجلاء العبكري. أتذكرُ جيداً كيفَ كان يضربُ براحتهِ فوق رأسي قائلاً: 'ركّز يا منصور، اجعل من الفوضى التي داخل عقلِكَ نسَقاً، اجعل من عقلكَ مرآةً تعكسُ نظام الكون و صَنعته.' تعلمتُ على يدِهِ فنوناً من العلومِ لم يكن غيره قادراً على التعرضِ لها أو تدريسها: الفلك و النجوم، الكيمياء و الرياضيات، الطبيعةِ و الفلسفة. كنتُ سأشكرُ له كل هذه الكنوز العقلانية التي أودعها رأسي لولا أسلوبه البغيض و تمارينه العقلية الطويلة التي استغرقُ فيها حتى يكادُ حاجبايّ أن ينعقدا تركيزاً. اجعل الفوضى نَسَقاً! استذكر نظام الكون! و من قالَ أن للنسقِ فضلٌ على الفوضى؟ و لمَ لا تكونُ الفوضى التي يزعم نسقاً لا يمكننا أن نتبينه؟ كنتُ أحاججهُ بمثلِ هذهِ الجدليات، و لكنه سرعان ما يوبخني قائلاً: 'يا منصور، إذا كنتَ لا تؤمن بنسق، فأنتَ لا تؤمن بخالق. و إذا عميت عن الجمال، عميت عن الله.' ذاك كان الشغل الشاغل لي أثناء طفولتي: الفوضى و النسق، الجمال و العلّة الأولى، كم أمضيت من الليالي ساعاتٍ طويلة و أنا أفكرُ في هذه المسائل و أحاول أن أتدبرَ لها حلولاً.

"كنتُ أظنُ أني أتقدمُ في الدَرس و التحصيل، حتى حدث ذلك اليومُ الذي صادف أن كنتُ ألهو فيه وراءَ ستار، و إذا بصوتِ العبكري يتناهى إلى أذني و هو يخاطب والدي بتلك الكلمات الكريهة: 'ولدكَ يا مولاي ضعيف عقل، و لا أدري إن كان حملي إياه فوقَ طاقته سيقود إلى خير!' حلّت علي هذه الجملة مثل الصاعقة، و أخذت أتهادى خائراً نحوَ الشرفة الغربية، تلك التي تطلُ على النجوم و الظلام و أحياء القاهرة. أخذتُ أتأملُ النجومَ و أنا أسترجعُ مذعوراً ما سمعت. ضعيف عقل! كيفَ و لماذا؟ و أنا الذي كنتُ أعتقدُ أنني أتقدمُ في سائر العلومِ و المعارف، و أرى في عينيه علائم الرضا و التشجيع! ضعيف عقل! لم يكدرني رأيه السلبي بحقيّ، و لا تلك الأقنعة التي سقطت بمجردِ أن أدار الأستاذ ظهره لتلميذه، و إنما ما أرعبني و جعلَ ركبتيّ تصطكان فَرَقاً هو عجزي عن إدراكِ هذا الحالة التي وصمني العبكري بها. ضعيف عقل! هل أنا حقاً كذلك؟ كيفَ لي أن أدركَ بواسطة عقلي أن ذاك العقل خائر ضعيف؟ أنا حبيس عقلي، و لا أستطيع أن أستخدمه كي أستدلَ على خوره. تلك الفكرة سببت لي هلعاً، و معاها تداعت كل دروس العبكري و فلسفته بخصوص الفوضى و النسق. إذا كنتُ داخل الكون، فكيفَ لي أن أخرجَ منه لأتبينَ فوضاه من نسقه؟ أتذكرُ جيداً كيفَ أخذت أراقب النجومَ و أنا أترقب مع كل لحظةٍ أن أراها تسقط متهاويةً إلى الأسفل و كأنها شهبَ غضبٍ من الرحمن.

"كتمتُ الأمرَ في باطني و لم أُطلعْ عليه أحداً. بعدَ أيام، فاجأتني والدتي بجرةٍ من الفخّار زعمت أنّ رجلاً ذا كرامات يُطلق عليه ابن الوشيع هو من صنعها. يبدو أن رأيّ اللعين العبكري قد وقعَ موقعاً صعباً على والدتي! موقعاً دفعها إلى أن تزور غياهبِ السجن، و أن تستجدي والدي كي يسمح لها بإطلاق سراح ذاك الرجل الصالح الذي كان حراسه قد قذفوا به في السجن، ابن الوشيع، و أن تطلب منه صنع تلك الجرة التي نقش في جوفها جميع آي الذكر الحكيم، و أن يقرأ عليها، و يبارك ماءها، علّها تشفي بمائها المبارك عقلَ ابنِها الخائر! شربتُ الماءَ من الجرة امتثالاً لأمر والدتي، و لأجل أن لا أكدرّ خاطرها، إلا أني لم أستطع أن أكمل الدرسَ على يد العبكري بعد أن سمعتُ منه ما سمعت. طلبتُ من والدي أن يضعني تحت جناح مدرسٍ آخر، و هذا ما فعل، إذ عهد بي إلى رئيس الخدم أبي الفتوح برجوان. لم يكن أمري مع برجوان بأحس حالٍ من العبكري، إذ أن الخبيث ما إن سمع بما وصمني به العبكري حتى بدأ يتجرأ عليّ و يهزأ مني، بل بلغت به الوقاحة أن أخذ يدعوني بالوزغة جهاراً هكذا!

"مات والدي، و أصبحتُ أنا الخليفة، العلة الأولى، ما عناه الشاعر الأندلسي حينما قال في مدح جدي المعزّ: 'ما شئتَ لا ما شائت الأقدارُ' هكذا خلتُ أولَ الأمر، إلا أن القوم كانوا يستخفون بي، و يتعامون عني، و يديرون الأمر باسمي دون أخذ مشورتي أو نصحي، بمن فيهم أختي ست الملك، و رئيس الخدم برجوان، و قائد الجيش الحسن بن عمار شيخ كتامة. ظنوا أن الصبيَّ السفيه ذا الأحد عشر عاما لا يحسن أمرَ الخلافة و لا يدري ما يدور حوله. بقيت كامناً أتربصُ مدة أربع سنوات، أبني خطتي العظيمة في هدوءٍ و تؤدة، أوهمت الجميع أنني المغفل الغبي الذي يحسبون، حتى إذا ما انقضت السنوات الأربع، إذا بي أكشرّ عن أنيابي، و أدعو اللعين برجوان إلى دّويرة التين و الأعناب. كان يوماً قائظاً، و كنتُ قد خرجت إلى البستان بدعوى أنني أتبرد، مصطحبا معي صاحب المظلة زيدان، و عشرة من الغلمان و الركابية. جلستُ على الكرسي وسط الدويرة، و وضعت الجند فوق رأسي، و جلبتُ غلاما أمرداً أردت أن أستعمله رسولاً. قلت له: 'اذهب إلى اللعين برجوان، و قل له أن الوزغة الصغيرة قد صار تنيناً عظيماً و هو يدعوك.' لا بدّ أن العبارة سقطت على برجوان سقوط الصاعقة، إذ أتى الخبيثُ متعثراً في ثيابه، يرتجف فَرقا، جثى بين يديّ، و أخذ يقبل قدميّ و طرف ثوبي. أشحتُ بوجهي عنه، و خرجتُ من البستان، لأسمع صرخته الأخيرة بعد أن عاجله زيدان بطعنة في عنقه. فعلتُ مع شيخ كتامة ما فعلته بغريمه برجوان، فأوغرت صدور المشارقة عليه، و أظهرت له الأمان، حتى إذا خرج من بيته، إذا بالأتراك يثبون عليه و يتناهبونهم بخناجرهم.

"هكذا أمسكتُ بأمر الخلافة، و بدأ الجميع يرتعدون أمام خليفتهم الأعظم، بمن فيهم العبكري، مدرسي السابق، صاحب القول المشهور عن خور عقل الخليفة، أخذ الوقح يقبّل الأرض بين يديّ، و ينافقني، و يعلي من شأن كل ما أنطق به، و كأنه لم ينبزني سابقاً بالأخرق الضعيف العقل! كان لزاماً أن تسقطَ رأسُ العبكري، و كذلك رأس ريدان الصقلبي، و ابن القائد جوهر، و القاضي حسين بن النعمان، و خمسين غيره من الركابية. هكذا يجبُ أن تُبنى الخلافة، فوق عرش من الجماجم و الجثث و الدماء. و لكن أين النسق من كل هذا؟ أين الصَنعة و أين التوازن؟ أين الجمال و أين العدل؟ أهذا هو الكون الذي خلقهُ الله على أحسن ما يكون؟ لماذا لا أسمع صوت الله؟ لماذا لا أرى أثر صنعته فيما يحدث من الأمور حولي؟ أتذكر جيداً –مذ أيام طفولتي- مشهد تلك الأرملة الفقيرة التي استفاقت صباحاً لتجد عنق ديكها مقطوعة، أتذكر كيف أخذت تبكي و تستغفر و تحوقل و تقول أنها تستحقُ ما حدث لها، ذلك أنها لم تراعِ حقّ زوجها الميت، و استرخت بالقول لرجلٍ بالأمس عندما عرض لها بالسوق. أريد أن أرى الأمر بهذا الوضوح. أريد أن أرى الصنعة، أن أقع على النسق، أن أفعل الخير فيدركني التوفيق و أقول لقد جازاني الله على حسن عملي، أن أفعل الشر فتصيبني طامة واستبين العلاقة بين العقوبة و الجرم. أي نسقٍ هناك إذا لم يكن المجرم يُؤخذ بجريرته؟ هناك الحياة الآخرة، أعرف هذا، يوم الحساب و الثواب، و لكن ما الفائدة من محو ما في الجدار بعد أن ينهار الجدار؟ أريد أن أرى النسق أثناء حياتي، قبل أن أموت، أن أشاهد يدَ الله في الكون. هكذا كنتُ أفكر تلك الأيام، و أنا أستشعر بفزعٍ كيف أن قوى عقلي بدأت تضعف و تتمنع، كنتُ أحتاجُ إلى أن أخرجَ إلى المقطم يومياً كي أتأمل الليل و النجوم. كنت أقضي ساعاتٍ طوال و أنا أتأمل قبة الفلك، مستشعرا ضعفي و خوري، إذ أنني كلما حاولتُ أن أنصرف بانتباهي إلى واحدة من النجمات، إذا بأخواتها يتمنعن على بصري، فيخبو نورهن، أو يضعف استشعاري لهنّ. كنتُ أريدُ أن آخذهنّ جميعاً في نظرة واحدة. مثل هذا التمرين من شأنه أن يعيد فوضى عقلي إلى سابق نظامِها، أن يريني نسقاً مؤقتاً أستمسك به إلى حين.

"هكذا، وصلتُ أخيراً إلى قراري الأكبر، خطتي الحاسمة، الفعلة التي ستجيبُ السؤال الذي بقي عالقا مستعصياً، ذلك التصميم الكبير الذي سيُسمعني صوت الله قبل أن أموت. 'لتتصرفْ كما لو أنك العلة الأولى يا منصور،' هكذا حدثتُ نفسي، 'لتبدأ سلاسل و سلاسل من الأفعال التي لا تخضع لتفسير و لا تتأثر بما حولها، لتبدأ تلك الدَفعة التي ستحرك التروس إثر التروس في آلة القدر الضخمة، تَبدأ و لا تُبدأ، تؤثر و لا تتأثر، تخفض و تعلي، تقتل و تحيي، تبني و تهدم، هكذا بلا سببٍ و دون نظام، مخلّفاً حولَك الخراب و الدمار و الفوضى، و لتسمِّ يوماً ترحل فيهِ مخلفّاً وراء ظهرك مصر و عرش مصر بأوصابه و وساخته و قبحه. إن كان هناك نسقٌ في الدنيا، إن كان هناك عدل و توازن و صَنعة، فلا بدّ أن آلة القدر هذه سوف تدركك في النهاية و ستسحقك تحت تروسها الضخمة قبل يوم رحيلك، أما إذا استطعت أن تنفذ بجلدك و تخرج من أرض مصر دون أن يمسك أذى أو تدركك نازلة فلتعلم حينها أن هذا الكون فوضى لا تحكمه قوانين و لا يخضع لنسق.'

"أتذكر شعور الحبور الذي امتلأت به بمجرد أن اكتملت تفاصيل تلك الخطة داخل عقلي، إلا أني لا أتذكر التأريخ الذي سميته كموعدٍ للرحيل. بدأتُ بإدارة تروس آلتي الرهيبة، آلتي التي لن يستطيع أحد أن يدركَ سرها أو يشرح فعلها، أمرتُ بهدم كنيسة القيامة في بيت المقدس حتى ضجّ الأقباط و أهل بيزنطة من الفعلة، و كذلك فعلت بجامع عمرو بن العاص. هدمت الحمامات، و أمرتُ بحرقِ أحياء القاهرة حتى كاد لهبها أن يمس عنان السماء و يأكل الأخضر و اليابس. أمرت بإلزام اليهود بلبس السواد، و أن يعلق المسيحيون حول رقابهم صلبانا ثقيلة. حرّمت على الناس الملوخية و الجرجير و العنب، و كذلك حرمت أكل السمك بغير قشر. غيّرت في كلام الآذان، و منعت صلاة التراويح، أمرت بقتل الكلاب، و منعت خروج الحريم من بيوتهن أو صعودهن فوق الأسطح. أمرت بفتح الدكاكين و الأسواق بالليل، ثم أمرت بعدم خروج الناس بعد صلاة المغرب. فعلت كل هذا، و الجميع يتقولون و يجتهدون محاولين استنباط حكمة معينة وراء كل فعلة آتي بها. البعض قال أني حرمت العنب كي لا يُستخدم في صنع الخمر! آخرون قالوا أنني حرمت الملوخية لأن معاوية كان مفتونا بها! حتى حادثة الحرق- هناك من اعتذر لي عنها وقال أنني فعلتها بسبب شتائم رفعتها العامة في وجهي أثناء مرور موكبي بالسوق.

"اقترب الموعد المُسمى للرحيل، غير أن الأحداث أخذت منعطفا آخرَ لم يكن مُتوقعاً بالنسبة إلي. وسط هذا الدمار و هذه الفوضى، خرج في الناس رجل يُدعى حسين بن حيدره الفرغاني، و أخذ يتقول بين الناس كلاماً عجيباً يزعم فيه أن روح الإله قد حلت في جسد مولاهم الحاكم، و أنني أنا المعلّ الذي لم يعله أحد، و أنّ الله خلقني علة أولى، منه و فيه و إليه، و استودع فيني عقله الكلي، و جوهره الروحاني، و كل ما كان و ما سيكون. أحضرت الرجل إلى مجلسي، و سألته عن عدة مسائل كنتُ أبغي من خلالها أن أختبره و أن أقف على سره. يبدو أن الخبيث كان أذكى مما توقعت، و أنه قد استشف من أفعالي ما ورائها من ولع بقضية السببية و انشغال بمسألةِ العلة الأولى. سألته بعد أن مثل أمامي: 'يا فرغاني، إني مختبرك في مسألة سيكون جوابك عليها موضوع حكمي في أمرك: أرأيت بعد أن تفرغ العلة الأولى من إحداث السبب و المسبب، هل تبقى منفصلة خارجة عن الكون الذي أحدثت، أم أن تلك الحوادث و الأسباب من شأنها أن تدركها و تأثّرَ فيها؟' أطرق الرجل برأسه برهة، ثم رفعه و قال متلعثماً: 'مولاي أعلم و أحكم، و الله حينما أودع في مولاي جوهره الروحاني..' قاطعته: 'دع عنك هذه التخرصات التي تنشرها بين العامة فأنا لا أحفل بها. حدثني حديث الرجل لنده، حديث من فكر في هذه المسألة لأول مرة و بجدية و عبّر عن رأيه صراحةً.' هنا التمعت عينا الرجل و انطلق يقول بعد أن تشجع: 'مولاي، السببية و العلّية و التأثر و الحدوث، كلها مفاهيم منطقية استنبطها العقل كي يتعامل مع عالم الظاهر و المحسوس، و لذا ليس لها معنى حينما نتحدث عن ما وراء إدراكنا، كما أن الله سبحانه حينما يفرح بعمل عبده و يغضب لمعصيته، هو لا يتأثر بمخلوقاته، و إنما يعلم و يشاء أن العبد سيحسن أو يخطيء، و يعلم و يشاء أنه سيفرح لإحسانه و سيغضب لمعصيته.' ابتسمتُ لتخلصِ الرجل و قلت: 'أحسنت يا فرغاني، إلا أني رجل بسيط، لا أحسن الجدليات التي تستدير بواسطتها حول المسألة. لقد فكرتُ طويلاً في الموضوع، و لقد انتهى بي التفكير إلى أن أؤمن أنه من المستحيل للعلة الأولى أن تبقى خارج إطار الكون الذي أحدثت، ذلك أنها تدرك بعلمها الرباني ما يحصل في خلقها، و هذا العلم يبقيها سجينة متأثرة داخل الكون الذي صنعت.' تمتم الرجل: 'إنهُ لأمر حزين يا مولاي.' هززتُ رأسي موافقاً: 'هو كذلك يا فرغاني.'

"وافقَ الرجلُ هوىً في نفسي، فألحقته بحاشيتي، و جعلته يخرجُ في موكبي، إلا أنّ العامة لم يطيقوا صبراً على ما جاء به الزنديقُ من الهرطقة، فوثبوا عليه ذات عصرٍ أثناء مرور موكبي بالسوق و تناوشوه بمطاويهم و خناجرهم. أمرتُ بإعدام القتلة، كنتُ أظنُ أنّ القضية ستنتهي هكذا، غير أنّ رجالاً آخرين خرجوا ينادون بنفس دعاوي الفرغاني، و على رأسهم: حمزة بن علي اللبّاد الزوزني، و نشتكين الدرزي. هذه المرة كانوا أكثر تنظيماً و أخطر شأناً، جعلوا لهم أماكن و أتباعاً، و عينوا النواب و بعثوا الرسل. بلغت الجرأة برجال اللباد أن دخلوا جامع ريدان و أمسكوا بالقاضي و أمروه بالاعتراف بإلوهيتي، مما أغضب المصريين و جعلهم يفتكون برجال اللباد. بعدها تعقد الأمر أكثر، فانشق نشتكين الدرزي على حمزة اللباد، و زحف برجاله نحو مسجد ريدان حيث يتواجد اللباد و إثنا عشر رجلا من جماعته. علا الصراخ و عمت الفتنة، إلا أني لم أكن أملك الوقت الكافي كي أتصدى لكل هذه القلاقل و المحن، لقد اقترب وقت الرحيل، كما أنّ هذه الفوضى تصب في صالح هدفي الرئيس و خطتي الكبرى. مضيتُ إلى شرفة القصر كي أشاهدَ قاهرة جدي تحترق. عندما بصرَ بي رجال نشتكين صُعقوا لهيبتي و تفرقوا عن زعيمهم. في اليوم التالي قُتل نشتكين.

"حزمتُ متاعي، و أزمعتُ أمري، و توجهت إلى أمي كي أودعها و أقبلَ رأسها دون أن أطلعها على سريرتي و ما أبيته من أمر. افتعلتُ مع ست الملك شجاراً ألقيتُ خلاله أقذع الأوصاف فوقَ رأسها على مسمعٍ و مرأى من خدم القصر، كل هذا من أجل أن أزيد سلسلة الخناجر المصوبة نحوي خنجرا جديداً، لكي أمنح آلة القدر التي صنعتُ سبباً آخر كي تطحنني و تدمرني تحتها. نعم، لقد كنتُ أحملُ في داخلي قناعةً كاملة بأنيّ لن أنجو. يستحيل أن أنجو! سوف يتم الأمر، و سأقضي نحبي، و سيكون الأمر رائعاً، و سأبكي حينها. أعلمُ ذلك، أعلمه. سوفَ يخرجُ لي ابنُ أول ضحيةٍ سقطتْ في أول يوم جلستُ فيه على العرش، هكذا دورةً كاملة، سوف يخرج من مكمنه حين تغيب شمس اليوم الذي سميته للرحيل، سوف يخرج من مكمنه، و سوف يعلوني بهراوته، و سوف أزحف إلى أن ألقي نفسي تحت عرش الرحمن قائلاً و الدموع تجري فوق خديّ: 'حمداً لك يا رب، لقد كشفت لي بديع صنعتك، لقد أريتني النسقَ في خلقِك.'

"هذا هو آخر ما أتذكره، و أما بعد ذلك فلا يوجد سوى الظلام، لا يوجد إلا حالتي اللعينة هاته التي أنا عالق فيها. كيف وصلتُ هنا؟ ماذا حدث بالضبط؟ أين أنا؟ لماذا لا أستشعر جسمي؟ لماذا لم يبقَ من وعيي غير هذا النزر القليل؟ أظنُ أنني أمشي! نعم. لا بدّ أنني غادرتُ القصر، و مضيتُ أقطع فيافي الصحراء، و الليل يعلو رأسي و يغطيني، مشكلتي الوحيدة هي أنني لا أستطيع التوقف. ربما أنا جريح! نعم جريح! قد يكون أحد قطاع الطرق خرج و علاني بالهراوة التي كنتُ آمل، و أنا الآن مثخن طريح، لا أستطيع أن أتذكر ما جرى بسبب الضربة. ربما أنا ميت! جائز جداً. قد أكون قضيت فوق فراشي، في نفس ليلة الرحيل، و ها أنا الآن تحت الثرى، بعد أن دفنوني و أهالوا التراب فوقي. يا ربّ السماوات! ما هذا الوضع المستحيل الذي رميتني فيه؟ أهذا هو مآل خطتك العظيمة و تصميمك الأكبر يا منصور؟ أن تبقى عالقاً في الظلمة لا تدري هل أنت ميت أم حي؟ أن تبقى عالقا في لايقينك لا تدري إن كنت تمشي بلا توقفٍ أم ترقد بلا حراك؟ أين هو النسق الذي أمِلت؟ هه، هذا هو النسق، هذا هو النسق يا منصور. انظر إليه، تمعن في الظلمة، كحّل بها ناظريك. هل كنتَ تنوي أن تستنطق الرحمن، ثم تسمّي يوماً، هكذا و بكل صفاقة، و كأنك تهبه مهلة! ياللغرور! ياللشطط! انظر إلى النسق، كحّل به ناظريك. ها هنا يتجلى النسق، ها هنا تظهر الصنعة: أن تعلق في الظلمة بلا يقين و بلا إجابة.

"ماذا أفعل الآن؟ أين أمضي بأفكاري و ذكرياتي و ليس بوسعي سوى التفكير و التذكّر؟ كيف أنجو بنفسي من وضعي الرهيب ذا؟ لا بدّ أن أبحث في خضم أفكاري و ذكرياتي عن ذكرى جميلة أتشبث بها، عن ذكرى أتلقفها أو تتلقفني كما فعل الحوت مع يونس. حوتُ يونس! هذا ما أحتاجُه. إنها الذكرى الأبرع جمالاً، الذكرى الأكثر طهارة، ما أحتاجه الآن، حتى و لو كانت قصة موضوعة. أتذكرُ جيداً ذلك النهار القائظ، حينما غادرني العبكري كي يتبرد في شرفة الدرس العلوية. وضع بين يديّ دواة و صحائف، أوصاني أن لا أغادر الغرفة حتى أملأ الصحائف بأي شيء كي يراجع خطي و أسلوبي في الكتابة. كنا قد فرغنا بالتوّ من درس التفسير لسورة يونس، و لأني لم أكن أحتفظ في عقلي بموضوع معين أريد الكتابة عنه أخذتُ أتخيل و أكتب عن حوت يونس و كيف كان مصيره بعدَ أن لفظَ يونس.

"أستطيع أن أتذكرَ ما تخيلته يومَها و أن أراه الآن رأيَ العين. أستطيع أن أرى الحوتَ و هو يسبح في أعماق المحيطات، سادراً لاهياً، ثم يلقي اللهُ في روعه أن اقفز فوق صفحة الماء و ابتلع الرجلَ المقذوفَ من السفينة، فيفعل، و ما كان له إلا أن يفعل. يبتلع الحوتُ يونس، ثم يغوصُ في أعماق المحيطات، و يرجع إلى سابق عهده. و لكن هذه المرة يحصلُ شيء مختلف، يبدأ يونسُ بالتسبيح، فيُصاب الحوت بمثل الصعق. لقد استمع إلى تسبيح دواب و حيوانات البحر ردحا طويلاً من الزمن، و لكن ما يسمعه الآن شيء مختلف، ها هنا ندم و إيمان يفيضان و يمتدان على امتداد المحيط. دواب البحر تسبحُ باستمرارٍ و بصوت مطمئن خفيض، و لكن ها هنا عصفٌ و طرق عنيف على أبواب السماوات. يقفل الحوت اتصاله بالخارج، و يركز جميع جوارحه إلى أحشائه، إلى مصدر التسبيح. لقد أصبح يونس بالنسبة إليه قلبَه النابض.

"و فجأة، و بمثل البداهة التي دفعت الحوت أن يبتلع يونس، يلقي الله في روعه أن اقذف يونسَ إلى الساحلِ، فيفعل، و ما كان لهُ إلا أن يفعل. آهٍ كم شعرَ بالفقدِ و الصمت بعد أن لفظ يونس! آهٍ كم شعر بالخواءِ و الموت بعد أن لفظ يونس! يحسُ الحوتُ فقداً هائلاً، يحسُ بقلبه يتوقف، بأحشائه تتمزق، يتعلم التسبيح ليلته تلك، إلا أنّ تسبيحه لن يصلَ وجعَ يونس! يهبطُ الحوتُ إلى قاع المحيطِ علّه يتعزى بتسبيح الدواب إلا أنها لا تصل وجعَ يونس! يصابُ الحوت بما يشبه الحمى، يتمنى قرباً من الله بعد أن سكت قلبه النبوي إلا أنه لا يجد! تخطرُ في ذهن الحوت هذه الخاطرة: 'لا بدّ أنّ الله فوق السماوات' يصعدُ الحوتُ إلى أعلى، و يشقُ عبابَ الماء، و يقفزُ في الهواءِ باتجاه السماء و النجوم و الليل، إلا أنه لا يصل. يحسُ بالفقد يعذّبه و يجلده، فيسبّح، و يغوص إلى القاع طلباً لمزيدٍ من التسبيح، إلا أنه لا يلقى. يعاودُ الحوتُ ديدنه المحموم المرة تلو المرة، تارةً يقفز في الهواء، و تارة يغوص إلى القاع. تارةً يقفز في الهواء، و تارةً يغوص إلى القاع. كل هذا و هو يلهجُ بذكر الرحمن، و يسبح بحمده، و يتمنى قربّه. يختلطُ الوضعُ على الحوت، و ينسى نفسَه، و تتشابهُ عليه النجوم السماوية مع الحصى في قاع المحيط. لقد تحولت لديه صفحة الماء مرايا يتناظر فيها الأعلى مع الأسفل و الأسفل مع الأعلى، فلا يدري أهو يسبح في المحيط و يقفز في الهواء أم يسبحُ في الهواء و يقفز في المحيط! عندها فقط يفهمُ الحوتُ أنّ المكان و الاتجاه ليسا مهمين، أنه لن يقترب مزيداً من الله بقفزه إلى السماء أو بإصغائه إلى دواب البحر، المهم هو أن يسبح بنفسه، أن يسبح باستمرار، أن يحمل فكرة الله دون انقطاع عوضاً عن حمله لنبيه، هذا ما سيقربه إلى الله، و إلى السماء، و إلى الجنة.

"ما أشبه وضعي الحالي بوضع الحوت! ها أنا عالق وسط الظلام و اللايقين، بين الحياة و الموت، لا أدري أين أنا ذاهب و لا كيف وصلتُ هنا. كل هذه الأسئلة لا تهم، أسئلتي السابقة بخصوص النسق و الجمال و العلة الأولى لا تهم. ما يهم الآن هو أن أسبّح، أن أتشبث بهذه الفكرة الجميلة، أن أسافر و أقطعَ هذه الظلمات وسط بطن الحوت، علّه يقذفني في النهاية تحت عرش الرحمن، و حينها سأسجدُ و أمرّغ وجهي على التراب قائلاً: 'حمداً لكَ يا الله أن وهبتني يقيناً في اللايقين، حمداً لكَ يا الله أن جعلتني أصنعُ الجمالَ بدلَ أن أفتشّ عنه.' "



عدي الحربش
June 15 / 2011

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى