عدي الحربش - الأحداثُ الغريبةُ التي حصلتْ في قريةِ "ك"

(تحذير من المؤلف: هذه القصة مليئة بالمشاهد الغريبة و الدموية،
وتفتقد بشدة للمنطقية والعقل.. لذا وجبَ التنويه)

-1-
كانَ الجوُ بارداً في الخارج. نظرت الدجاجةُ عبرَ نافذةِ القنِّ الذي تسكنهُ منذ عشرِ سنينٍ فلم تستطع أن تميّز ما وراء الضبابَ والصقيع. كانتْ ترقدُ وحيدةً فوقَ سريرِها، وصدرُها الهزيلُ يعلو ويهبط في صعوبةٍ ومشقّة. أينَ هوَ زوجُها الديك؟ كان الطبيبُ قد أخبرهم قبلَ أيامٍ أن وفاتها محتّمة لا محالة. ألم يستطعْ زوجها أن يتركَ العملَ ويبقى بجانبِها وهي تنزِعُ ألفاظَها الأخيرةَ على الأقل؟

فجأةً سمعت صريرَ البابِ وهو ينفتح. التفتتْ بلهفةٍ تبحثُ عن وجهِ زوجِها الحبيب، متلهفةً لسماعِ صوتِه. بدلَ أن ترَ زوجَها بريشهِ الملون وعرفِه الأحمر، رأت لقلقاً طويلاً أبيضَ الجناحين يدخلُ القِنّ ويغلقُ البابَ خلفَه. أخذتِ الدجاجةُ تحدقُ في وجهِ اللقلقِ في دهشةٍ واستغراب. لم يسبق لها أن رأت هذا اللقلقَ من قبل! توجهَ في ثقةٍ نحوَ الطاولةِ دونَ أن يتكلّف حتى النظرَ ناحيتَها. هناك.. خلعَ معطفهُ الطويل ولبسَ قفازين حريريين ببطءٍ ومهارة. عندما فرغَ من لبسِ القفازين، تقدمَ نحوَ الدجاجةِ المريضة حتى وقفَ فوقَ سريرِها وفرد جناحَه الأبيضَ ليخرجَ من تحتِهِ ساطوراً حديدياً هائلاً. اتسعت حدقتا الدجاجةِ وصاحت في فزعٍ:

"من أنت؟ ماذا تفعل هنا؟"

أمسكَ اللقلقُ بهدوءٍ قدمَ الدجاجةِ الصغيرة وثبتّها فوقَ السرير. حاولتِ الدجاجةُ المريضةُ أن تحررَ قدمَها دون جدوى. رفع اللقلقُ الساطورَ في الهواءِ ثم أهوى بكلِ قوةٍ فوقَ قدمِ الدجاجة. صرختِ المسكينة في ألمٍ شديدٍ وهي ترى دمَها يتطايرُ ليصبغَ جسدَ اللقلق. تناولَ اللقلقُ القدمَ المقطوعةَ ورماها في الزبالةِ المجاورة مع القاذورات. أخذت الدجاجة تبكي في صمتٍ عندما أمسكَ اللقلقُ قدمَها الأخرى. سرعانَ ما ارتفعَ الساطورُ المرعبُ إلى الأعلى ليلتمعَ ويهبطَ باتراً قدمَها الأخرى. بدأتِ الدجاجةُ تنشجُ بهستيرية.

رمى اللقلقُ بقدمِها الأخرى في الزبالةِ ثم أخذَ يمسحُ طرفَ ساطورِه بحشيّةِ سريرِها. أمسكَ اللقلقُ فجأةً بعنقِ الدجاجةِ ووضعَ طرفَ الساطورِ الحادِ فوقَ صدرِها. أخذتِ الدجاجةُ تصرخ:

"أرجوكَ لا تفعل. أمهلني حتى أرى زوجي. أمهلني حتى أرى زوجي.."
ابتسمَ اللقلقُ بنشوةٍ وهي يحطمُ بالساطورِ عظامَ صدرِها:
"زوجكِ هو من استأجرني كي أنتزعَ قلبكِ حيّة."

-2-
على بعدِ بضعةَ أميالٍ وبعدَ ساعتينِ من وقوعِ هذهِ الحادثة، غطسَ قلبٌ صغير وسطَ بحيرةِ قريةِ "ك". كانَ القلبُ مضرجاً بالدماءِ، وقد تمزقَ الشريانانِ اللذان يخرجانِ منه وكأنهما اقتُلعا اقتلاعاً. أخذَ القلبُ يغوصُ ببطءٍ في أعماقِ البحيرةِ المظلمة. فجأةً امتدتْ يدٌ صغيرةٌ ناعمة وسط الأعماقِ الباردةِ وأمسكتْ به.

أخذت عروسُ البحرِ الصغيرةِ تتأملُ القلبَ في فضولٍ ودهشة. لم يسبق لها أبداً أن رأتْ شيئاً كهذا. كانَ القلبُ لا يزالُ دافئاً وسطَ راحةِ يدِها. بحركةٍ تلقائية، ألصقت عروسُ البحرِ القلبَ الذي تمسكُ به بجانبِ نهدِها الأيسر، في المكانِ المطابقِ لموضعِ قلبِها. أغمضت عينيها لبرهةٍ من الوقت، وكأنها تنتظرُ حدوثَ شئٍ مفاجئٍ نتيجةَ فعلتِها هذه. بعدَ دقائقٍ من الإنتظار، وعندما لم يحصل شئ.. سبحتْ برشاقةٍ في اتجاهِ منزلِها.

عندما اقتربت من مسكنِها غاصت حتى القاع، وهناك اقتلعت بعضَ الطحالبِ والأعشابِ البحرية وغلفت بها القلبَ الصغير عدةَ مرات. دخلتَ المنزلَ في قلقٍ وهيَ تحاول إخفاءَ القلبَ المغلفَ الذي معَها. كانت جدتها ووالدها يجلسانِ سويةً بقربِ الدرجِ المؤدي إلى العليّة حيث تنام. سألها والدُها:

"ما هذا الشئ الذي تحاولينَ إخفاءه وراءَ ظهرِك؟"
ابتسمت عروسُ البحرِ بقلقٍ وأجابت:
"لا شئ. مجردُ بعضِ الطحالبِ البحرية."
"ابنُ عمكِ أتى يزورني هذا المساء" أضافَ والدُها فجأةً، وهو يرقبها باهتمام.
"ماذا يريد؟"
"يطلبُ يدكِ."
"قلتُ ألفَ مرةٍ أنني لا أريدُ الاقترانَ بهذا المأفون" صرخت عروسُ البحرِ بغضبٍ وهي تسبحُ مبتعدةً باتجاهِ العليّة.

عندما أغلقت بابَ غرفتِها خلفَها، سبحت نحوَ السريرِ واستلقت هناك لبضعِ ساعاتٍ مستغرقةً في تفكيرٍ عميق. ابنُ عمِها، حاجبُ القصرِ، مسؤول الحظيرةِ.. كلهم تقدموا لطلبِ يدِها ولكنها لم تجدْ من يخفقْ لهُ قلبَها. لم تجده بعد.

نزعتْ عروسُ البحرِ الصدفتينِ اللتين كانتا تمسكانِ بشعرِها الفاحمِ للأعلى ليسبحَ هابطاً فوقَ أكتافِها البيضاء. أخذت تتأملُ القطعَ الخزفية والغرائب التي جمعتها طوالَ السنواتِ الماضية وأخفتها تحتَ سريرِها. لا شئَ يشابهُ هذا الشئ الدافئ المفلطح الذي التقطته هذا اليوم. أزالت عروسُ البحرِ الطحالبَ التي تحيط بالقلبِ الصغيرِ ثمّ وضعتهُ فوقَ جرةٍ خزفيةٍ مسكورةٍ بجانبِ سريرِها. كان المنظرُ غريباً وجميلاً. عندما أحست بالنعاس يتمكن منها، أغمضتْ عينيها واستسلمت للنوم.

استيقضت مفزوعةً على صوتٍ رتيبٍ وغريبٍ بجانبِها:
طوم.. طوم.. طوم.. طوم..
التفتت ناحيةَ الجرةِ الخزفية، لتراعَ بلونِ الماءِ حولَها وقد اصطبغ بحمرةٍ قانية. قفزت مبتعدةً عن الجرةِ الخزفية وانطوت في ركنٍ قصيٍ من الغرفة. أخذت تنظرُ إلى هذا الشئِ المفلطحِ فوقَ الجرة، والذي كان ينقبضُ وينبسطُ دونَ توقفٍ:
طوم.. طوم.. طوم.. طوم..
كانَ الماءُ يندفعُ من فتحتي الشريانينِ الممزقين، وقد اصطبغَ بلونِ الدم. ماذا يجبُ عليها أن تفعل؟ سوفَ يقتلها أبوها إن رأى هذا الكائن الغريب الذي ينفث هذه الحمرة القانية مع كلِ نبضة. ولكنه لا يتوقف! لا يتوقف! اصطبغَ الماءُ بالكاملِ في غرفتِها باللونِ الأحمر، وأخذَ يزدادُ حمرةً ولزوجةً مع كلِ نبضة. عندما لم يستطع قلبها تحملُ كل هذا الفزعِ أكثر، سقطت مغشياً عليها.

-3-
في نفسِ اللحظةِ.. كانَ المغني الغجريّ يتسللُ عبرَ الأحراشِ المؤدية إلى البحيرة. كان يرتدي جبّةً صوفية، ويضعُ حولَ عنقهِ قلادةً ذاتَ خرزٍ أسود. كانَ ينظرُ بين الفينةِ والأخرى خلفَه، ليتأكدَ أنه بمفردِه في هذه الليلةِ الموحشة. عندما وصلَ لشجرةِ البلوطِ على طرفِ البحيرة توقفَ عندَها واختبأ هناك.

كان يتساءلُ بينَه وبينَ نفسِه: هل ستأتي أم لا؟
منذُ وصولِه إلى قريةِ "ك" وهو يحاول إغوائها. منذُ اللحظةِ الأولى التي توقفتْ تستمعُ فيها لصوتِ كمانِه الحزين -وقد التمعت عيناها، وسبحت في حلمٍ عميقٍ- وهو يحاولُ الوصولَ إليها. لم يتوقفْ عندما علمَ أنها زوجةُ عمدةِ القريةِ، وإنما ازدادَ إلحاحاً وكأنّ رغبةً شيطانيةً توجهه. كانَ يتذكرُ حديثَ جدتهِ بوجهها المصبوغِ تحتَ ضوءِ القمر:

"إذا رغبت في شئٍ، فلا تتوقفْ حتى تنالَه. ما دمتَ حياً، فهناكَ دائماً فرصةٌ أمامك."

بعدَ أن أكملَ شهراً في القرية، بدأ يرى نبؤة جدتِه تتحقق. بدأتِ المرأةُ تلينُ وتبادله الابتسامَ حينَ يبتسمُ لها. سرعانَ ما تبادلَ معَها الحديثَ لتفضي له ببرمِها من عمدةِ القريةِ العجوز، ومن هذه الحياةِ الرتيبة في القرية. حدثّها عن المدنِ الكبيرةِ التي لا تنام، عن الطرق التي لا تنتهي، عن النومِ عارياً وسطَ العراء. رقصَ قلبُه فرحاً عندما أتتْ إليه في يومٍ حانقةً بعدَ أن صفعها زوجَها، لتتفقَ معَه على موعدٍ للهرب.

وهاهوَ تحتَ شجرةِ البلوطِ الكبيرة ينتظرُها، ليهربَ في صحبتِها إلى حيثُ لا يعلم. مضى على وصولهِ بضعُ ساعاتٍ وليس هناكَ من أثرٍ لها! لا بدَّ أنها جَبُنت في اللحظةِ الأخيرة. لا بدّ أنها أحست بالذنبِ فلم تستطع الخروج. لطالما حدثتهُ عن نزعتِها الدينية والندم الشديد الذي يعتريها عندما ترتكبُ إثماً. بصق المغني الغجري وسط البحيرة.

فجأةً.. انزاحتِ الأكمةُ الكثيفة من خلفِه لتخرجَ حبيبتهُ منها. قفزَ الغجريّ لمقابلتِها واستقبلها في حضنه. همست خائفة:

"لا أدري إن كان يجدر بي فعل هذا؟"

"لا عليكِ.. سوفَ تكونين بآمانٍ معي. سوف أعتني بكِ."

"ولكن.. أنا متزوجة. هذه معصية كبيرة لا يرضاها الرب" تحشرجَ صوتُها تحت شفتيّ الغجري الغليظتين.

"لا عليكِ" همسَ الغجريُ وهوَ ينزعُ خاتمَ الزواجِ من إصبعِها ويرمي بهِ في البحيرة.

"ماذا فعلت؟" صرختْ الفتاة بصوتٍ مذعور، بعدَ أن حررت نفسَها من حضنهِ، وانحنت على ركبتيها فوقَ البحيرة.

"ماذا تريدين بالخاتم؟ ألا تنوين الهربَ معي وتركَ كلِ شئٍ خلفك؟"

لم تجبْ الفتاة. كانت تنظرُ بذعرٍ إلى سطحِ البحيرة، وقد اصطبغَ لونُ المياهِ بحمرةٍ قانية. إنه غضبٌ من الله، غضبٌ من الله، غضبٌ على هذه المعصية العظيمة التي ارتكبتها. فجأةً.. انقشعت صفحةُ الماءِ اللزجةِ تحتَها، لتطفوَ جثةُ رجلٍ عاري الصدرِ بذيلِ سمكة!

دوّت صيحتُها العاليةُ في الأحراشِ حتى أيقضت الأجنّة وسطَ أرحامِ أمهاتِهم في القرية.

-4-
والآن.. اسمحوا لي أن أقحمَ نفسي في القصة. فبصفتي كاتبَ الأحداث، لا يسعني أن أجلسَ على أريكتي مبتسماً، بينما تدورُ كلُ هذه الافتراضاتُ في رأسِ قارئي العزيز دونَ أن أتدخل. لو تعلمونَ مقدار الصلاحياتِ التي نملكها نحنُ رواةُ القصصِ لذهلتم. ولكن جرت العادة أو التقليد أو العرف - لا أعلم- أن يُقصيَ المؤلف المحترمُ نفسَه عن القصةِ ويتركها للقارئِ كي يقرأها بطريقته الخاصة. بل أنّ هناك مدرسةً أدبية تدعو إلى قتلنا نحن المؤلفين، وقراءة نصوصنا بعد شطبِ أسمائنا منها! على كل حالٍ.. أنا لستُ محترماً كباقي المؤلفين، ولا أملكُ الصبرَ الكافيَ لأجلسَ هادئاً دونَ أن أقحمَ رأسي.

أنا أعي تماماً أن تدخلي هذا يفسدُ طبيعة السردِ القصصية. سوفَ أحاولُ أن أصلحَ بعضَ الأضرارِ المترتبةِ على دخولي المفاجئ. لماذا لا أصف لكم شكلي؟ فطبيعة الوصفِ هي الأقربُ لطابعِ القصةِ السردي. سأنظرُ للمرآة التي أمامي وأصفُ لكم ما أراه.. اتفقنا؟

عيناي جاحظتانِ وفمي المفلطح الكبير تعتليهِ فتحتان صغيرتانِ للتنفس. هل بدأتم تميّزون ملامحي وبالأخصِ عندما أخبركم أن لون جلدي أخضر؟ بالضبط.. أنا ضفدعٌ وسيمٌ وهزيل أرتدي أفخرَ أنواعِ الثياب. ألا يعجبكم شكلي؟ بإمكاني أن أتحولَ أسداً، ملاكاً، شيطاناً، ولكني أفضلُ صورةَ الضفدع. أشعرُ أني أسيطرُ على جميعِ حركاتي حينما أكونُ ضفدعاً.

نسيتُ أن أخبركَم عن السببِ الحقيقي لإقحامِ نفسي..

لماذا كنتم تفكرونَ بهذا الشكل؟ اللقلقُ قتلَ الدجاجة وانتزعَ قلبَها.. القلبُ هوى وسطَ البحيرةِ لتلتقطَهُ الحورية.. البحيرةُ اصطبغتْ بالدمِ لتحسبَها زوجةُ العمدةِ علامةً من الله!

هل هذه الأحداثُ كانت تؤدي إلى بعضها؟ هل كل حدثٍ لم يكن ليحصل إلا بحدوثِ ما قبله؟ يجبُ أن أنبهكَم إلى أنكم تنظرون إلى ثلاثةِ أحداثٍ فقط اخترتها لكم. هناك ملايين البلايين من الأحداثِ التي تقعُ وتتشابك وتدفعُ ببعضِها البعضَ كل يومٍ، قد نعلمُ عنها وقد لا نعلم، ولكنها تحيطنا وتؤثر فينا. أنا لا أطلبُ منكم أن تنظروا إليها جميعاً، فسيصيبكم ذلك بالصداعِ وربما الجنون، ولكني أطلبُ أن تتذكروا أنها تحدث من حولكم بهذا الكم وهذا الزخم.

اسمحوا لي الآن أن أدخلَ داخل قصتي، لأفحصَ معكم الأحداثَ عن قربٍ أكثر. نظراً لتقاليدِ القصةِ اللعينة، سوف أتحدثُ عن نفسي بضميرِ الغائب، فعندما أريد أن أقولَ: "مشيتُ وسط الغابة" سوفَ أقول: "مشى الضفدعُ وسطَ الغابة". مجرد أمور تقنية تافهة. اتفقنا؟

-5-
دخلَ الضفدعُ قنَّ الدجاجةِ المذبوحة. كان القنُّ مرتباً نظيفاً، لولا جسدَ الدجاجةِ المقطّع بطريقةٍ وحشية والمستلقي على السرير. وقفَ الضفدعُ على رأسِ السرير وقرأ صلاةً على روحِ الدجاجة. عبأ لنفسِه كوبَ ماءٍ، وجلسَ على الطاولةِ يشربه في هدوء.

تعالى صوتٌ يقتربُ من القنّ لينفتح البابُ فجأةً ويدخلَ الديكُ بصحبةِ اللقلق. وضعَ الضفدعُ سبابتهُِ فوقَ شفتيهِ وأشار عليهما بالسكوت. عندما خرجَ الإثنانِ يعدوانِ في فزعٍ خارجَ القنّ، افترّ وجهه عن ابتسامةٍ عريضة.

سرعانَ ما علتِ الضوضاءُ وتراءتْ النيرانُ من خلفِ نوافذ القنّ. خرجَ الضفدعُ إلى الساحةِ المكتظة حاملاً جثةَ الدجاجةِ المسلوخة. تعالتِ الأصواتُ الفزِعة عندما رأى أهلُ القريةِ الضفدع. صرخَ أحدهم:

"هل الضفدعُ فعلَ هذا؟"

وسرعانَ ما توقف قلوبهم فزعاً حينما أجاب الضفدعُ بهدوء:

"يعتمدُ على المنطقِ الذي تستعمله للوصول إلى السببية."

تعالت الأصوات والهمهماتُ بعدَ سكونٍ قصير، والكل يتساءل عن هويةِ هذا الضفدعِ الذي يتكلم! كان أهلُ القرية ثلاثونَ رجلاً وامرأةً أو يزيدون، وفي مقدمتهم عمدة القرية وزوجته والغجريّ. صرخَ الغجري بصوتٍ عالي:

"إنه لعنة. لطالما أخبرتني جدتي أن الحيوان الناطق لعنة. لن تزولَ هذه اللعنة عن قريتكم حتى تصلبوه على شجرةِ البلوط."

ابتسم الضفدعُ بهدوءٍ وأجاب:

"أما جدتي فقد كانت تحذرني من النومِ مع زوجةِ جاري."

امتقعَ وجهُ المغني الغجري. هتفَ عمدةُ القرية:

"هل تستطيعُ أن تخبرنا من قتل الدجاجة بهذه الطريقة الوحشية، وحوّل لون البحيرةِ إلى دم؟"

"كما سبقَ أن أخبرتكم.. إجابتي تعتمدُ كليةً على الطريقة التي تستخدمها للوصولِ إلى المسببِ والسبب. من صبغ البحيرة بالدم؟ تستطيعُ أن تزعمَ أنها حورية البحرِ الصغيرة التي خبأت قلبَ الدجاجةِ عن والدها.. تستطيعُ أن تزعمَ أنه اللقلقَ الذي رمى القلبَ وسطَ البحيرة.. تستطيعُ أن تزعمَ أنه الديك الذي استأجر اللقلقَ ليقتلَ زوجته.. تستطيع أن تزعمَ أنه أنا بصفتي كاتب أحداثِ القصة.. تستطيعُ أن تزعمَ أنه الغجري الذي رمى الخاتمَ بالبحيرة وبسببِ ذلك تنبهت زوجتك إلى لونِ البحيرة، فالشئ لو لم يُلاحظ لا يكون لحدوثه قيمة.. كأنه لم يكن. ألا توافقني؟"

تلوّن وجهُ عمدةُ القريةِ وهو يحاولُ فكَ الكلامِ الغريب الذي تفوهَ به الضفدع للتو. صرخَ بعد برهةٍ قصيرة:

"لا يهمني ما تقوله. كل ما أعرفهُ أنني لا أريد ضفدعاً متكلماً وسطَ قريتي. لا بدّ أنك لعنة كما أخبر الغجري. سوفَ نصلبك الليلةَ على شجرةِ البلوط."

تعاظمَ الهتافُ والتهليل بين أهلِ القرية. ابتسمَ الضفدعُ وقال:

"ليسَ لديّ أي اعتراضٍ ولكن.. أريد أن أريكم شيئاً قبل أن تصلبوني."

سارَ أهل القريةِ والضفدع معهم، بعد أن ربطوا يديه. كانوا يحملون معهم جثةَ الدجاجةِ المسلوخةِ بعد أن طلبَ منهم الضفدعَ إحضارها. عندما وصلوا إلى البحيرة، تحلقوا حولَ شجرةِ البلوطِ الضخمة وحلّوا سراحَ الضفدع. تمطّى الضفدع بجسمِه النحيل ثم انحنى على طرفِ البحيرة الحمراء وغطسَ يدَه وسطَها. بعدَ دقائق من الإنتظار، استوى الضفدعُ على قدميه رافعاً قلبَ الدجاجةِ المذبوحة في يده. ارتسمت الدهشةُ على وجوهِ أهل القرية.

انحنى الضفدعُ على جسدِ الدجاجةِ المسلوخة ووضع القلبَ النابضَ وسطَ صدرِها. صرختِ الدجاجةٌ فجأةً وهي تحاولُ أن تستنشقَ هواءَ الليلِ البارد. كان الهدوء يخيم على المكان. وقفت الدجاجةُ على قدميها وأخذت تنظر يمنةً ويسرة، ثم طارتْ بعيداً أمامَ أنظارِ أهل القرية المذعورة، إثر رؤيتهم دجاجة تطير في الهواء.

انحنى الضفدعُ ثانيةً فوقَ البحيرةِ وأخرجَ يدَه ممسكاً بخاتمِ زوجةِ العمدة. امتقعت الوجوه الثلاثةُ للعمدةِ والزوجةِ والمغني الغجري. هتفَ العمدة في انزعاج:

"لا أستطيع أن أتحملَ كل هذا الهراء. يجبُ أن نصلبكَ حالاً عل شجرةِ البلوط."


* * *

يختلفُ أهلُ قريةِ "ك" عند الوصولِ إلى هذا الجزءِ الهام من القصة. فرغم أن رواياتهم متطابقة تماماً في خصوصِ قصةِ الدجاجةِ وعروسِ البحر وزوجةِ العمدة.. إلا أنّ كلاً منهم يروي القصة بطريقةٍ مختلفة عندما يصلُ إلى ما جرى للضفدعِ بعد أن أمرَ عمدةُ القريةِ بصلبِه. أكثر الرويات شيوعاً حتى الآن تقولُ أن الضفدعُ بمجردِ صلبِه، تحولَ ساطوراً شقَّ شجرةَ البلوطِ إلى نصفين ثم اختفى!


عدي الحربش " علي الزيبق"
الأحداثُ الغريبةُ التي حصلتْ في قريةِ "ك"
March 26, 2006

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى