فتحي مهذب - فتوحات حفار القبور .. قصة قصيرة

كان حفّارا مهووسا واستثنائيّا وكلفا بانجاز الحفر في كينونة الأشياء .. في جوهر الأشياء الصلبة وغيرها ما فتىء يحفرحفرا ضيّقة ذات أشكال هندسيّة متمايزة ..اختلس مطرقة أبيه البنّاء وابتاع عددا من المسامير الحادة وطفق يحفر خلسة حفرا في مقاعد الدراسة ويخبّىء في أغوارها كلمات تأخذ بمجامع قلبه وتروقه جدّا جدّا العدالة الديمقراطية الكرامة برغم صغر سنّه كان يفقه مداليل وأبعاد هذه الكلمات الجميلة التي تستنكف من زيارة حيّ الصفيح الذي تربى بين ظهرانيه.
اتجه الى أشجار الصنوبر التي تطوّق المدرسة حفر حفرا عميقة في جذوع هذه الأشجار الهرمة المحدّقة في أجنحة العصافير التي
تلاحقها الشياطين والعواصف ..
عثر على صرصار بروليتاري لفظ أنفاسه اثر معركة دامية من أجل فتات الخبز.
حفر له حفرة مستطيلة وموسومة بشيء من الأمت والعوج سجّاه
بأضغاث القشّ وصاح الى الجنّة ايها الصديق الموسيقيّ المفلوك الهامشيّ.
لم ييأس هذا الفنّان العدميّ الصغير من حفر جدران المدرسة بمنأى عن أعين الوشاة مستخرجا بيوض الذكريات التي نضجت أثناء سقوط قنابل الفقر والحرمان على رؤوس التلاميذ الشبيهين بأشباح المقابر.
كان تلميذا حفّارا بامتياز ذات يوم كان مستلقيا على سريره الخشبيّ المليء بالحفر فجأة قفز مثل ثعبان سقط من كتفي رجل الدولة المليء بالزرنيخ ودم الضحايا وطعم المؤامرات السليخ المليخ.
حفر في مساحة لا وعيه قبورا متساوية طولا وعرضا ثمّ أقام جنّازا لأصدقائه الملائك الذين قصفتهم طائرات الدولة بعد هطول قنابل الوعود الفوسفورية. كان يضع كلّ جثّة على حدة..
امتلأت تلك الحفر التي تؤثث
مرتفعات مخيّلته المسيّجة بأزهار القدّيسين.
كان حفّارا موهوبا بالفطرة والسليقة.
في ليلة قاسية جدا ومريرة حيث عضّه الجوع كأفعى مجلجلة..
ليس ثمّة أمّ ولا أب حملهما الغياب الى جزيرة النسيان المظلمة.
لم يجد بدّا من حفر مقبرة جماعية لأعداء الوطن.
أخذ صور هؤلاء العملاء فاتحا عليهم النار ثمّ جثّة جثّة أودعهم تلك الحفر الزنخة مزمجرا أمام هذه الجثث الكرطونيًة القبيحة فلتذهبي الى الجحيم أيتها الثعالب الماكرة المخادعة.
وبمضيّ الوقت أصبح حفّار قبور ممتاز دائم البول على قبور العملاء
واللصوص والخفافيش والحكّام المهجوسين بمتاحف المومياوات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى