عدي الحربش - الجاريةُ ذاتُ الشعرِ الطويل

عدي الحربش.jpeg

"لكنني أحببتها بولهٍ كما لو أنَّ جميعَ مصائبي كان سببُها أنها مرةً فكّت شعرها و أسدلتهُ فوقي ليبتلعني الظل"
( بابلو نيرودا )
سمعتُ عن المؤرخ الطبري ذات مرةٍ أن من أصعب الأمور التي يقارفها المؤرخ حينما يعالج الحوادث و الأخبار هو أن يحددَ بدايةً لها. مثل هذه العقبة الكأداءُ تزدادُ تمنّعاً و استعصاءً إذا ما كانت القصة شبيهةً بقصتي هذه التي اختلطت فيها الحقيقة بالخيال، و اللامعقولِ بالمعقول، و التي تقوّل فيها العامة و أضافوا إليها ما يتقولونه و يضيفونهُ عادةً إلى القصص التي تدورُ في ثنايا و غرفِ القصر. أنا لستُ مؤرخاً كي أعنيَ باستخلاصِ الحقيقة، و إنما رجلٌ سمعَ هذه القصة مراراً حتى خلبت لبّه، فأخذ يتسقّط جميع الأقوال و الروايات التي تتعرض لها و تتحدثُ عنها.
أظنُ أن القصة بدأت تحديداً في الشهر الأول من وصول قبيحة إلى القصر، حينما سألت مولاها الخليفة إن كان يروقه الشعر الطويل أم القصير؟ كانت قبيحة جارية رومية، سافرَ بها النخاس الأسمر من بلادِ الثلجِ إلى بلادِ الحرّ، حتى انتهى بها بينَ حريم و جوراي الخليفة. كانَ وجهها الصبوحُ دائراياً، و كأنه القمر الذي لاحقها في رحلتها الطويلة إلى بغداد، أما عيناها ، فلقد كانتا بلونِ الهزيعِ الأخيرِ من الليل، و لم يكن اسمها الذي اختاره لها الخليفة إلا من قبيل تسمية الشئِ بضدهِ للتأكيدِ على حقيقةِ وصفهِ.
في ذاك المساء الذي أتحدث عنه، أمسكت قبيحة بشعرها الأسودَ اللفيف و جمعته في راحة يدِها ليتدلى فوق كتفها الأيمن. سألت و عيناها تشعان اهتماماً وَ فطنة:
"هل يروق لكَ الشعرُ الطويل أم القصير؟"
"الطويل" أجابَ الخليفة وهو ينحني فوقها ليستنشقَ صدغيها، و ليزرع القبل على طولِ عنقها و كتفيها.
قد لا يكون لهذه الحادثة أيّ علاقة بما سأرويه، قد تكون مجرد محادثةٍ عابرةٍ بينَ جاريةٍ و مولاها، و لكن صاحبي يونس بن حبيب نقل لي عن جاريةٍ كان يتعشقها، أن مولاتها قبيحة بدأت تتعهدُ شعرها بالعنايةِ و الرعايةِ منذ ذلك اليوم. كانت تأمر كل صباحٍ بطستٍ مملوءٍ بزيت الزيتون المخلوط بأوراق الياسمين اليابسة و المدقوقة، و كانت تُسلم رأسَها لماشطتها كي تخضّبَ بالزيتِ ناصيتها و قذالَها. لم تكن تستخدم الأمشاط الذهبية و الفضية الشائعة في القصر، بل كانت تُؤتى ببناتٍ أبكارٍ لم يبلغنْ، كي يتخللنَ طيّاتِ شعرها بأصابعنّ الغضةِ الشبيهة بالموز. كانت العصائب و اللفائف و الربطات التي تستخدمها باقي الجواري محرمةً عليها، فما كانت تُرى إلا حاسرةَ الرأسِ و قد أرخت شعرها ليتدلى كالأمواجِ فوقَ ظهرها. كانت تتحامى أشعة الشمسِ الحارقة، فلا تخرجُ إلا وقد أمرت بمظلةٍ من الجوخِ الأحمر كي تُرفعَ فوقَ رأسِها. أستطيعُ أن أقولَ بكلِ ثقةٍ أنَّ حياتها كانت تبدأُ و تنتهي و تدورُ حولَ شعرِها.
لا أدري كم استغرق الأمرُ بالتحديد، و لكنَّ جاريةً تُدعى مريم أخبرتني أنّ شعرَ مولاتها قبيحة كان قادراً على تغطيةِ أردافها بعد ثلاثةِ أشهرٍ من وصولها، و أنهُ بدأ يلامس الأرضَ بعدَ سنةٍ تقريباً. لم أجد أحداً قادراً على إخباري عن الطول النهائي الذي وصل إليه شعرُ قبيحة، و لكني سمعت رواياتٍ و قصصاً متباينة تتحدث عن قبيحة و شعرها الطويل الفاحم. حدثني يونس بن حبيب عن عشيقتهِ أنَّ الجواري كنّ يمشينَ بين دهاليزِ القصرِ و هنّ يتحامينَ وطء شعر قبيحة الممتد من مخدعها حتى مجلس الخليفة، و أنَّ قبيحة كانت تمشي أحياناً في القصر و هي عارية، إذ أن شعرها كان يغنيها عن سترِ جسدها بالملابس. كانَ منصورُ الحاجب يقسمُ أنَّ قبيحة لم تكن تنام إلا و قد دلّت شعرها من شرفتها العالية، و كان يضيفُ -مفسّراً كلامهُ- بأنَّ مخدعها كان أضيقَ من أن يتسعَ لكل شعرِها حين تغلقُ الباب. و لقد أخبرني أحدهم عن العجوز التي كانت تعمل ماشطةً لدى قبيحة، أنَّ الخليفةَ كان يخبئ فراشاتٍ من الذهب وسطَ شعرها، و أنهم لا يعثرون على هذه الفراشات إلا بعدَ أسبوعٍ أو أكثر.
كانت خصلاتُ شعرِ قبيحة تزدادُ طولاً كلَ يوم، و كان حبُ الخليفةِ لها يزدادُ توهجاً كل يوم. كانَ الخليفةُ حينَ يحسُّ بالتعبِ يأوي إلى قبيحةَ كي ينامَ فوقَ جسدِها و يتدثرَ بشعرها. هناك، كان يحسُّ بالحبِ و الدفءِ و الأمان. هناك، كانَ يسمحُ لجسده المتعبِ أن يسترخيَ و يستريحَ و ينامَ وسطَ ليلِ قبيحة. كانت تنتظرُ قدومَ مولاها كلَ ليلةٍ في شوق، و لم تكن بحاجةٍ إلى حديثٍ أو إشارة، بل كانت تنتظرهُ فوقَ سريرها و قد أرخت شعرَها بجانبِ السرير و على الأرض، و بمجرد أن يدخلَ الخليفة و ينامَ بجانبها، كانت تغطيه بالكامل وسط شعرها اللفيفِ الكثّ. كانَ الخليفةُ يخبرها عن الشرّ الذي يتوجسه من قبلِ موسى بن بغا و وصيف التركي، و كان يشكو إليها كثرة المؤمرات التي تلاحقه داخل و خارج القصر، و لقد بلغَ ولعُ الخليفةِ بقبيحة أن أخبرها ذات ليلةٍ أنهُ يهمّ بخلعِ ابنه البكر عن ولاية العهد، و تنصيبِ ابنهما الزبير بدلاً عنه.
و لكن و كما يقولون؛ دوام الحالِ من المحال. ففي إحدى الليالي الباردة دهمَ الجندُ الأتراكُ مجلسَ الخليفةِ من قبلِ بابِ دجلة، و هناكَ اعتوروا الخليفة و ندمائه بسيوفهم بقيادة بغا الشرابي و صالح التركي و هارون بن صوارتكين. بعد أن فرغوا من فعلتهم الشنعاء، أخذوا يطوفون في شوارع و أزقة بغداد بسيوفهم المشرعة، و عيونهم تتطايرُ شرراً و تحذيراً في وجه كل من حدثته نفسه بالبكاء لأجل الخليفةِ الراحل. لزمَ العامةُ دورهم في خوفٍ، و أخذوا يسترقون النظرَ خلفَ درفاتِ النوافذِ و الشُرفات كي يعرفوا ما ستؤول إليه الأمور.
في تلكَ الليلة، في الرابع من شوالِ من سنة سبعٍ و أربعين و مئتين، رأيتُ بأمِّ عينيّ كما رأى غيري من عامةِ و خاصةِ أهل بغداد، خصلاتٍ من الشعرِ الأسودِ الفاحم تتطايرُ محمولةً بواسطةِ الريحِ المعوِلة. أخذتْ هذه الخصلات السوداءُ الكثيفة تنتشرُ ببطءٍ في كل الأزقة و كل الساحات و كل الدهاليز، و أخذت تتسللُ عبرَ النوافذِ و تتعلقُ على الجدران، حتى أصبحت مدينة بغداد بكاملها متشحةً بالسوادِ و كأنها في حدادٍ عام. ثارَ الجندُ الأتراكُ بسببِ هذه الحادثة الغريبة، و أخذوا يتتبعونَ خصلاتِ الشعر التي كانت تندفعُ في كلِ اتجاهٍ من إحدى الشرفاتِ العالية في قصر الخلافة، و عندما انتهوا إلى الغرفةِ ذات الشرفة العالية، وجدوها خاليةً إلا من أكوام الشعر التي تغطي أرضيتها الباردة، و مقصٍ نحاسيٍ كبير يستلقي بجمودٍ فوقَ السرير المهجور.



علي الزيبق
Dec 27 / 06

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى