سفيان صلاح هلال - انحرافات البطولة وأسئلة الأيروس في شهد الغواية للروائي د. موسى نجيب موسي

يخلع معظم الكتاب أدوار البطولة في سردياتهم على الإنسان بكل تجلياته، ذكرا كان، أو أنثى، وهذا لا يمنع أن بعض الروايات كانت البطولة فيها للمكان... وغالبا ما يظهر المكان ذا تأثير شديد على البطل، سواء بطبيعته، أو بعاداته ومعتقداته وتقاليده... ورغم أن رواية
شهدالغواية –للدكتور/موسى نجيب موسى، الصادرة طبعتها الأولى عن دار أوراق 2010 -
فيها ثلاث شخصيات رئيسية، وبضعة أشخاص .. فالروائي لم يذكر إلا اسم (وحيدة) التي أحبها البطل والتي أحبته، في حين كان يشير لباقي الشخصيات بالصفات أو بالضمائر وكأنه يقصد هذا. فالحق أني قرأت الرواية أكثر من مرة فوجدت أن البطل الحقيقي هو( الرغبة)، إنها تجليات الأيروس: بماديتها، وحسيتها،وروحيتها، يحاول الكاتب أن يغوص في أغوارها؛ لعله يجد تفسيرا لهذا الإحساس الغامر الذي يتملك الرجل أو المرأة.
وكما يقول ( ظلت دوامة الحيرة تأخذه حلقاتها الدوارة، حتى أوصلته إلى قاع ذاته المتسع، وهناك أدرك أنه من الممكن أن يعثر عليها داخل إحدى المحارات، التي يكتظ بها هذا القاع الفسيح. حاول أن يستعين ببعض قراءاته، وبقليل من خبراته في مجال رياضة الغوص، علها تعينه على الوصول إلى المحارة الوحيدة التي تحضنها من بين هذه المئات من المحارات، لكنه فشل كما فشل في القيام بدور الغواص، الذي كان يجيده بمهارة فائقة عن أقرانه) والكاتب في بنائه للعمل لم يختر بطلين مراهقين؛ لنجد لهما مبررا في الوصول إلى ذروة الرغبة مدفوعين بالمراهقة، لكنه اختار رجلا ناضجا عمريا فارق مرحلة الشباب، بل هو متزوج وأب، وبطلة تكاد تنطبق عليها نفس المواصفات.
وبالرغم أنه استعان بالعرافين، واللواز إلى المساجد، والأطباء النفسيين ( لم يستطع طيلة حياته أن يهزم أحلامه العجيبة المتكررة، التي كانت تستطيع بمهارة تحسد عليها، أن تقلب ليله الطويل إلى قاعة عرض سينمائي، تعرض فيها جميع ما كان يتمناه ويشتهيه في نهاره الأطول بكثير من ليله، ذلك النهار الذي لا يريد أن ينقضي أبداً من فرط التفكير فيها. ) أو كما قال (سلمني التفكير العميق في المرأة بكل درجات حسنها وجمالها وتضاريسها إلى حالة سيكولوجية نادرة الحدوث، هكذا شخّص حالتي أحد الأطباء النفسيين المشهود لهم بالكفاءة). أو كما قالت هي(نعم دخل إليّ من ثقب صغير جداً في جدار قلبي، كنت أجاهد كثيراً وأنا معه أن أسده أمامه، ولكنه اخترقه واخترقني. والكاتب لم يبدأ روايته من لحظة البداية أو من لحظة النهاية، بل من لحظة الذروة. كانت البداية قوية وصادمة (أريد أن أحبل منك) تجعلك أمام توقعات كثيرة يمكن أن تقودك إليها تلك الجملة ... وربما كانت حيلة مراوغة لاستقطاب القارئ العربي المغرم بالجنس ليستمر في قراءة العمل؛ خاصة أنه استرسل في لغة حسية المفردات (لم يندهش لكلامها، لمجرد رغبتها في الحمل منه، بقدر ما اندهش لهذه الرغبة المحمومة التي تطل من عينيها لاحتوائه بعنف) ولكن مع الدخول في تفاصيل الرواية سيجد القارئ نفسه متورطا مع الكاتب في محاولة الإجابة عن أسئلة شتى في فلك العلاقة بين الرجل والمرأة، ربما تقودنا إلى القصة الأولي التي أخرجت الإنسان من الجنة... أو تقودنا إلى أسطورة إيروس وبسيكة، بتجلياتها الروحية والحسية.. فلو أن الموضوع مجرد قضاء رغبة، فهذا الرجل متزوج، ويستطيع قضاء شهوته دون حاجة للغير. الغريب أنه ينكر أنه متزوج (- كذلك هناك "إنسانة" بمعنى الكلمة غالية عليك جداً، وتحبك جداً، وتنام معك على سرير واحد.. وترتع بحريتك في مراعيها الخضراء. بهدوء شديد سحبت خاتم الزواج من يدي، ودسسته في جيب سترتي وقلت له:- لكني غير متزوج. - ومن قال لك إنني قلت إنك متزوج؟- إذا كان الأمر هكذا.. فمن تكون تلك الإنسانة التي تنام معي في سرير واحد، وأرتع في مراعيها الخضراء؟!! لم يرد، ولكنه رمقني بنظرة غريبة كادت تشرخ روحي، وقال بحدة لم أعهدها فيه من قبل:- سوف نرفع قلبينا بالصلاة، والله سوف يكشف لنا الأمر) وهنا يتفجر السؤال الأول هل الرغبة مجرد قضاء شهوة؟ الإجابة لم يقدمها السارد بل يزيدها غموضا أن يظهر لك في فقرة أخرى أن هذا الشخص يحب زوجته ويقدرها....! أما السؤال الثاني إذا كان هو يقدر زوجته ويحب وحيدة .. فلماذا العلاقة الجنسية بينه وبين الصديقة السمراء (وأسند ظهري على الحائط، وما زالت صورة زفافه على من أَحبها أكثر مني ومن "وحيدة" نفسها، تعلو هامتي، وتنخر فراغ رأسي بوحشية ... اِلتهم فمي بنهم غريب، وأخذت يده تعبث بصدري النافر بلا رحمة، حتى انهرت تماماً، ولم أجد أية مقاومة داخلي أستطيع بها أن أوقف أمواج رغبته الهادرة، ولم أستطع حتى أن أوقف يده التي زحفت بمهارة المتخصص، وفتح بها سوسته" الأستريتش" الذي أفضل ارتداءَه، حيث يجعل جسدي بالصورة التي أرغب أن أكون عليها في عيون الرجال، وخاصة في عيون حبيبي الجائعة دائماً. حاولت أن أنقذ ما يمكن إنقاذه، بأن أعطيه ظهري حتى يكون إيلاجه لي من الخلف حتى لا افتضح، فأنا أتمنى أن أُسلم عذريتي لمن سوف يثق بى ويتزوجني، ولكن صورة زفافه كانت في مواجهتي تماماً، وكنت لا أطيق أن أنظر إلى وجه زوجته الوديعة، وكنت أشعر بأن الصورة سوف تهوي على رأسي، أو أنها سوف تنتزع منى هذه اللحظات التي سرقتها من زوجته، فأعود مسرعة مرة أخرى لكي أكون في مواجهته، وأجدني ألقي بكل جسدي في حضنه، واحتضنه بقوة عجيبة حتى لا يفر من بين يدي ...) هو نفسه لم يعرف رغم أنه يعرف والسمراء تعرف أنه لا يحبها. ربما يقول قارئ: "فراغة عين" أظن ان المشهد السابق فيه صراع وجود أكثر من فراغة العين. وكأن كل منا يريد أن يأخذ مكان الآخر حتى لو دفع الثمن عذريته وبكارته... فهي تهبه نفسهامدفوعة بالغيرة من صورة زوجته.. وفي حوار أخر تعترف له بحبها الجارف الذي قادها لمنحه جسدها (- الأنثى لا تسلم جسدها إلا لاثنين فقط، إما لزوجها بقوة حقه الشرعي، أو لحبيبها بقوة الحب. - وممكن أن تسلم جسدها لحبيبها بقوة الرغبة والشهوة، وأيضاً من الممكن للأنثى أن تسلم جسدها للرجل الذي يدفع لها بقوة الحاجة والعوز، فالغانيات والبغايا مثال على ذلك.
- الغانيات والبغايا هن من قلت لك عنهن، إنهن لا يستحققن الحياة والعيش فيها...أما أنا فأحدثك عن نفسي فقط ............................
. - تحبينني؟
- بموووووووت فيك..... ) هل الجنس أحد تجليات حب التملك أو قهرالآخر؟ على كل حال في المخيلة الشعبية يوجد مثل هذا. ففي السجون مثلا يقهر السجين غريمه بالاعتداء الجنسي عليه .. ولا يفوت الكاتب أن يسأل هل الرغبة هوس؟ فهو يعرض في النص علاقة شاذة عن الطبيعي بين البطل وهو طفل ومدرسته التي كانت تنفرد به بعد المدرسه وتمطره بالقبلات ... وحين يكتشف الفراش يستغل هو الآخر الطفل ويمص ذكره بعد اغراءه بالبسكويت والغريب أنه رغم تعرضه للضرب المبرح من الطفل-إشارة عن العواقب السيئة لبعض العلاقات -فهو يبرر أصاباته :إنها من صنع العفاريت ؟! فهل الرغية عفريت يقود الإنسان؟ وهو مضطر للانسياق لها ولو تقوده إلى حتفه؟
ما الرغبة؟ وفيما تكمن غوايتها؟ هل في غريزة حب البقاء وإنجاب الأطفال؟ هل في الشهوة الحسية عند لقاء جسدين؟ هل حب امتلاك للآخر.؟ هل تعبير عن الوقوف لجوار الآخرلتشد من أزره لحظة انكساره؟ هل هو الحب؟ اسئلة كثيرة تعضدها أحداث وحوارات وتعاطفات وانسلاخات ... وبعدما يتعب البطل من سيطرة الجسد وقمصان النوم والمشهيات .. والمواقف .. والتضاريس ... على حياته (شوهتني التجارب العاطفية وغير العاطفية، ومزقت وجداني وإحساسي... الشهوة تسيطر عليّ وتمرح في روحي مثل خيل جامحة، لا يستطيع أحدٌ أن يلجمها، والتفكير في الأنثى – بدعوة استكشاف مناطق جديدة في عقلها وقلبها وجسدها، لم يستطع أحدٌ قبلي أن يكتشفها – يكبلني، ويحد من رؤيتي للأشياء على حقيقتها... سلمني التفكير العميق في المرأة بكل درجات حسنها وجمالها وتضاريسها إلى حالة سيكولوجية نادرة الحدوث) بعد كل هذا العناء، يحاول أن ينظر للرغبة نظرة أبعد، نظرة كلها شفافية وروحانية يرسمها الكاتب بلغة رائقة صافية. وكان من قبل قد أدرك أن الحياة لا تستقيم ولا تستمر إلا بأنثى وذكر و(أرى فيما يرى النائم أنني أسير في طريق طويل .... طويل أرضيّته خضراء طبيعية، ومحاط بسياج من الذهب الخالص، وبه أعمدة إنارة من المرمر، منتهية بلمبات من الماس النقي، تضاء وتنطفئ في وميض خاطف متكرر ... ومحاط من حوله في جميع الجهات مساحات كبيرة مكسوة بالأزرق السماوي ...) وفي هذه الجنة يرى الأنثى (تظهر الأنثى بكامل هيئتها أمامي فجأة... عارية تماماً ... نظيفة في كل جزء من جسدها تماماً ... شفافة تماماً، حتى أنني أكاد أري أحشاءَها الداخلية، وقطعتين من الماس النقي يستران الثديين، وقطعة وحيدة وصغيرة تستر ما بين الفخذين...
يكاد بريق قطع الماس يذهب بالمتبقي من نور عيني الكليلة) إنها الأنثى والتي رأته كما رأها الأيروس حلقة الوصل بين الروح والجسد التي هي عند اليونان الوسيطة بين الإنسان والجمال.. وعند أفلاطون ترقي من عالم المحسوس إلى عالم المعقول عالم المثل .. وعند أرسطو النزوح إلى الحركة في اتجاه التأله.. للاتحاد بالاله المطلق الحب الكامل.. وإذا كنا كلنا موتى بنص المسيح عليه السلام (دع الموتى يدفنون موتاهم) فإن الأيروس هو نزوحنا الأيدي نحو الخلود والتوحد معا...
وهكذا يحول الروائي لغته من لغة صراع يغلب عليها الطابع الحسي والمشاهد الجسدية المنتهية.. إلى لغة إدراك روحي .. حتى أنه كرر المشهد الذي اقتطفت منه الفقرتين الأخيرتين أكثر من مرة بنفس الطريقة والتي ربما يظن قارئ أنها خطأ طباعي كرر الفقرة .. لكن سرعان ما سيكتشف أنها حركة الغواية التي تدور على نهر الشهد الأبدي لتفرغ في أحاسيسنا الطاقة المستمرة للنزوح والتوحد مع السر الأعظم والحب الكامل الاله...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى