ثناء درويش - ظلال أنثوية.. قصة قصيرة

استهلال
أستميحكم عذرًا أيها السادة، فأنا ومنذ البدء لم تكن نيَّتي أن أدوِّن شهادتي، وكنت أؤثر أن أعبر كما عبر سواي، فلطالما وجدت التدوين جريمة لا تقلُّ فداحة عن سواها، ولم تزد الطين إلا بِلَّة، منذ عصر اختراع اللغة وحتى اللحظة، حيث يقع القارئ تحت سطوة ما راق له، فإذا به أسير رؤى أو آراء الكاتب لا يستطيع أو لا يبتغي منها انعتاقًا. وليس في الأمر ضير، بل أنا واثقة مما للكلمة الطيِّبة سواء كتبت أو نطقت من أثر، وكم لها قدرة جبارة على التغيير وتحريض الخير، وكيف يتحول ما نقرأه إلى سلوك، فتتلبسنا الكلمة كفعل واقع. لكنني أيضًا واثقة بالمقابل أن النص قد يكون ككاتبه مغلقًا، حابسًا محبوسًا يدور كقوقعة حول نفسه، فيما القارئ كحلزون يتبع دورة القوقعة في استلاب واضح. وأقولها صراحة أنني لطالما سمعت قرقرة الحروف في جوفي، فأسارع لإسكاتها بفتات اللامبالاة والتهكم من عبث أي فعل نهايته الصمت الأبدي، وكان الأمر سينتهي وفق ما أردت، لولا هذا الجيشان الذي ازداد في داخلي، فوجدت أن لا مناص من إكمال اللعبة حتى النهاية، فلعلَّني لست سوى أداة لقوة كونية جبَّارة تسيِّر خطاي وتوهمني أني صاحبة القرار والحسم والفصل، فملت إلى أن أضحك عليها كما ضحكت علي. وللتوضيح، وحتى لا تذهب بكم الظنون بعيدًا، عليَّ أن أوضح أن شهادتي تنطلق بدءًا من نفسي وتعود إليها، فكلُّ فعل صغير كان أم كبير لا أبرِّئ نفسي عنه، وهكذا فما أدونه هنا عني كما عن أيِّ عابر فيكم، وما القصد منه الإدانة، بل صور تمرُّ أمام عيني فألتقطها كعدسة الكاميرا ليس إلا، فلا تتأهبوا لرجم بيتي الزجاجيَّ بحجارتكم، ولا تصبُّوا عليَّ وابلاً من لعناتكم، فما لبيتي سقف سوى السماء. هكذا أيها السادة وجدت نفسي عالقة في مسرحية، أنا الكاتب – أو هكذا بدا لي – والمخرج والممثل بآن، وكانت الأدوار تتناوب عليَّ، فمرة أراني البطل ومرة أكون مجرد كومبارس مهمل قد يؤدي دوره صامتًا لدقائق معدودة، ولكم أن تتصوروا الكمَّ الهائل من الأدوار الذي قمت بها متنقلة بين طرفي التضاد من خير وشرف أو رذيلة وفضيلة، ولتعجبوا ما طاب لكم العجب، من هذا العالم اللامتناه الذي اصطلح على تسميته "النفس" كم به من أدوار متناقضة وغير عادلة أو منسجمة، وكيف لهذه النفس أن تكون مجمع التناقضات من فرعون إلى موسى معًا، بين شيطان وملاك. وكأني بكلِّ واحد منكم، يجذبني لأكتب عنه، ويغريني بتفاصيل قصته لأجسدها كدورٍ على مسرح روايتي، فأحار من أين أبدأها وكيف أنهيها، ما دام لا نهاية لفصولها، ولست ربَّة الأقدار لأحتم بمصير شخصياتها، فأؤثر أن أتركها معلقة وفي القلب صلاة تتمنى الخير والنهايات السعيدة للجميع، ولكن هيهات أن يكون ذلك دومًا في عالم الأسباب والنتائج، أو عالم الصدف العمياء.

***

1
سولا

كان لأبي أرضان يفلحهما - أرضه الغربية.. وأمي - يا له من مستهلٍّ قديم لقصتك الحديثة يا سولا.. على فكرة... هل حقًا اسمك سولا أم هو اسمك الحركي أو المهني؟ تضحك بمجون كأنها تلقَّت عربونًا سلفًا من زبون يخلع على عجل مكتبه وهيلمانه وشاربيه وأمره ونهيه ويبقي ناره استعدادًا لطعم مختلف. أجل هو اسم إحدى عشيقات أبي التي تعلَّق بها كأكثر من عابرة سرير.. ركلته بعد أن امتصت ماله مع ماء الشهوة... وصادف أن رزق بي في أوج عماه.. ثم إلى ماذا تلمِّحين يا أستاذة؟ هل تظنين أني أستحي من عملي وهو مصدر رزقي. نحن نعمل في الضوء برخصة رسمية، كما في كل دول العالم. بيوت الدعارة يا أستاذة ليست بنت اليوم... لأنها مهنة قديمة جدًا. حلَّت مشكلتين معًا أولهما باعتبارها وسيلة لكسب العيش حين تغلق كلُّ السبل أمام النساء.. وثانيها تفهم لرغبات الجنس الآخر الذي يكون دائمًا وراء قدومه إما شبق الذكورة أو كبت قديم أو فضول اكتشاف الأنثى خاصة عند اليافعين.
- "عفوًا.. لست هنا لأقاضيك أو لتبرري لي.. أنا كاتبة وأعتبر كتابتي ناقصة ومواربة إن لم ألج عوالم الستر والخفاء.. كما عوالم النور".
- يا أستاذة.. لا تولد امرأة بنت هوى.. ولو وجدت هواء نظيفًا ما هوت. لم يكن في نيَّتي أن أكون سولا التي ترينها الآن بحمرتها الفاقعة كدعوة صارخة للجنس.. كنت مثلك في طفولتي أعشق القصص والروايات وأهرب من مجون أبي إلى رحب فضاءاتها.. أنا لم أرث العهر عنه كما يقول عني أهل قريتي. لكن دروب الانحراف تنفتح فجأة حين ينحرف من يفترض أن يكون قدوتي فتقوده شياطينه لسريري بدل سرير أمي... اذهبي يا أستاذة وأغلقي الباب وراءك.. فلدينا عمل مكثَّف اليوم.. وبيتنا يثبت وجوده مع الزمن باستقطاب أكبر رؤوس هذا البلد.. شكرًا لأنك تجرأت على دخول بيتنا المشبوه.. وأنتظر أن تهديني نسخة من كتابك حين صدوره.. ولا أعدك أن يتاح لي ان أقرأه.. فالعمل كثيرًا ما يشغل عن المقال.

يتبع....

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى