أمل الكردفاني/ والدتي كفنانة

لقد كانت والدتي لها الرحمة سيدة فنانة، ففوق حفظها للشعر العامي، كانت حائكة بارعة للملابس. منها تلقيت شعوري الأوَّل بفلسفة جمال الازياء. لم تكن تعمل كحائكة ملابس لكن كان لديها خبرات ضخمة في حياكة كافة انواع الملابس، من فساتين الزفاف والقمصان والبنطولات، كانت تحيك لنفسها ولنا ولأقاربنا المقربين مجاناً وبسعادة بالغة.
تعلمت والدتي منذ السبعينات العمل مع مجلات التصميم العالمية واهمها مجلة البوردة الألمانية، وهي مجلة غريبة حيث كانت تصنع خرائط ضخمة ومعقدة. غير ان والدتي وبسهولة شديدة تستخدم هذه الخرائط كقبطان سفينة محترف يستدل بالنجوم على طريقه في أمواج البحر الشاسع.
كانت مجلات تصميم الأزياء متراكمة كالجبال في غرفتها. ولم تشتر يوماً ما فستاناً واحداً لنفسها. لقد كانت مكتفية ذاتياً.
وكانت كذلك رسامة، ساعدتني كثيراً في فهم الأبعاد والمنظور على وجه التحديد. وإن كانت غير راغبة في أن استمر في هذه الهواية وقد كان لها ذلك.
نحن من الطبقة أقل من المتوسطة وأعلى قليلا من البروليتاريا ومع ذلك فقد كانت الوالدة تحول ديكور المنزل باستمرار وتجمع اللوحات الفنية والمنحوتات والتماثيل والحيوانات المحنطة..كان الصالون على صغره عبارة عن متحف ضخم للجمال.
كانت تضحك من فتاة نظافة تعمل معها لأنها عندما تنظف اللوحات تعلقها بالمقلوب، فلا تستطيع الفتاة التمييز بين الأعلى والأسفل وغير مهتمة أساساً بمعرفة ذلك.
لقد ورثتُ بعضاً من ثوريتها الفنية. وقليلاً من خبرتها الكبيرة في فن الطبخ. فقد كانت طباخة ماهرة.
عندما كان والدي دبلوماسياً في اليمن لم نحتاج يوماً لطباخ حين ندعو الدبلوماسيين الآخرين وخاصة السفير الصيني الذي كان تقريباً ملازما لنا..كانت مائدة الطعام تمتلئ بأطعمة أكثر جودة من أطعمة المطاعم الفندقية الفاخرة. وذلك بأقل التكاليف.
لقد كانت فنانة شاملة وتتمتع بذكاء خارق وربة منزل خبيرة في التدبير المنزلي.
في مصر استئجرنا شقة فدعتنا جميعا للذهاب والعمل على تنظيفها وترتيبها ولكننا فوجئنا عند الدخول إليها أنها قامت بكل شيء بنفسها..وكالعادة تحولت الشقة البسيطة إلى متحف صغير.
اللوفر في كل مكان..
تجيد والدتي تحويل كل شيء لفن، وتوزيعه بشكل متناسق، لقد اخبرتني خالتي بأنها كانت تحصل على الدرجات الأولى في المدرسة لكنها فضلت ان تكون ربة منزل.
شخصيتها القوية ونشاطها المكثف جعلنا شديدي الكسل، ولذلك عندما توفت سقطنا في الفراغ.
ليس موتها محزناً فقط، فقد مات الفن معها، وإنما أيضا كان مرهقاً لنا ونحن الذين تعودنا على الإتكال عليها في كل شيء.
نحن الآن نعيش وصالة المنزل خالية من الفن، حيث لم نعد نكترث لشيء مما كانت هي تهتم به. لم يعد هناك متحف اللوفر عندنا.. لقد انحدرنا بعدها ثقافياً بشكل لا يمكن تصديقه.
لها الرحمة..
  • Like
التفاعلات: محمد صالح الآلوسي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى