مؤمن سمير - ألعاب الرفيق الأبدي : وثيقة استسلام

عندما آن أوان المغادرة كنتُ مرتبكاً لكني أقرب للثباتِ ومتفائلاً ، حيث صممتُ منذ فترة علي أن أختفي من هذا المكان ، هذه المنطقة التي تراوَحَت حياتي بين جَنبَاتِها عبر ثلاثة بيوت ، ظلك الذي يجمع بينهم يا أبي ... لكني الآن سأطير ، سأهرب من حَيِّز رائحتكَ ونظراتكَ وملامحكَ التي تحيا وتتنفس في ملامح وعظام كل الناس هنا ، حتى الصغار منهم ، ليس لأن صورك في كل مراحل حياتك العامرة تحاصر الأثاث وخطواتنا داخل المنزل وخارجه أو قل تسبغ علينا الحماية والطمأنينة ... بل لأنك اقتنصتَ من أرواح الصغار الذين كنتَ تجذبهم بالحلوى وباللحية الحريرية ، لعبة التجدد الخالدة ... صورك وأنت صغير ونظراتك النبوية بعدما حفظتَ القرآن مبكراً وسرتَ في سكة جدك شيخ القرية المبروك ، وصورك وأنت شابٌ تغض الطرف بخجلٍ ماكرٍ يبرز كونكَ تمتلئ بالقوة والحيوية والصلاح في الآن ذاته ثم صورك وأنت رجل تقترب من الولاية وتلتحف بعزم وثبات اليقين وانتهاءً بالمرض وزحف الموت والصور المجللة بالخشوع والبياض ... كانت فكرة الهرب تنمو باطِّراد ، بدأت بخاطرة ملأت جسدي بالرعشة وغامت سريعاً ثم صارت تأتي على استحياء وحذر حتى استعمرتني تماماً بأردية ثقيلة من التصميم والعزيمة ... هذا اليقين الذي تلبسني لابد له من أيادٍ مخلصةٍ تسقيه وترعاه فيظل حياً مورقاً، لهذا كنتُ أنتهي من عملي وأفوت على السماسرة لأسأل عن مكان يصلح للسكنى ويناسب ظروفنا ويكون الأبعد عن جفوني المسكونة بالظل المهول... ثم بهدوءٍ زحفتُ للجزء الثاني من الطريق وهو إقناع أمي بأنه لابد لها من مكان جاف يناسب صدرها الذي يبث أنفاساً متقطعة منذ مدة وتذكيرها المستمر بأن الأهل تغيروا وانقلبوا قساةً وأقرب للأعداء ومن الأصلح للجميع النأي والهُجران حتى ترجع الغلاوة القديمة كما كانت ... واستغرقت الخطة عدة سنوات ليصحو الجيران على صوت السيارات وهي تنقل أثاث أمي للدور الخامس وأثاثي إلى الدور السابع ، إلى مَقَرِّنا الأخير الذي وصلتُهُ بشق الأنفس وصارت روحي خريطة مليئةً بالجبال الشاهقات وبالحُفَر حتى أسرق عبيرَهُ المِسْكيِّ ... أن أذوق هواءً لم يشفطه أبي ثم يلفظه لأتنفس أنا، وأن أرتدي نظراتٍ لم تنفخ ألوانَها وتنشرها في كل مكانٍ وفيها عيونُ أبي ... رتبنا كل شئ وحاولتُ بإخلاصٍ وهَوَس أن تختلف أماكن الأثاث عما كانت عليه في المرات السابقة حتى لو بدت اختياراتي شاذة وغير منطقية ... كدتُ أتنهد وأُغمض عيوني مستريحاً لكن نظرة زوجتي المرتبكة أزاحت الراحةَ لأميالٍ و أميال ...اقتربتُ منها ومَسَّدْتُ شَعرَها وأنا أهز رأسي وأبتسم لتطمئنَ وتحكي إلا أن نظراتها اندلقت منها لأسفل ثم رفعت عيونها وهي مجللة بلمعةٍ دامعةٍ وغمغمت : "ارتكبتُ جريمة .. أضعتُ الحقيبة التي حفظنا فيها صور والدك.. لا أدري كيف سنخبر والدتك.. لم أقصد و اللهِ.." تَجَمَّدت نظراتي ثم غَمَرني عَرَقٌ غزير حتى وقعت نظارتي على الأرض وأحسستُ ببرودة عجيبة وجف حلقي وداهمتني آلام المفاصل الرهيبة ... كان جسدي ثقيلاً كأنه جبل رغم أني أحسه يتفتت ... وبعد فترة لم أدرك أهي طويلة أم قصيرة أدركت أن المكان شديد الإظلام.. يبدو أن زوجتي خافت مني أو خَجِلَت فزحَفَت إلى أبعد غرفة .. لكن مَنْ جعل المكان قفراً هكذا ؟ لم أدرك نفسي بعد حالة التشوش وعدم التوازن أو الرعب إلا بعد أيامٍ طويلة ... بعدها قلبتُ البيت كله ولم أترك سنتيمتراً إلا وأخرجت أمعائهُ بلا جدوى ...أصابني اليأس وساءت علاقتي بزوجتي جداً لكني قررت أن أعود إلى القراءة التي هجرتها منذ فترة عَلِّي أنسى وجودي الخانق ... وجدت روحي أتوجه مباشرةً إلى رواية سارماجو " كل الأسماء" ، النص المليء بالبحث المضني ، وأقول بصوتٍ مهزوزٍ لكنهُ عالٍ بما يكفي : لا مفر فلنبدأ العمل ... اتصلتُ بكبير الشيالين الذين نقلوا الأثاث وأخبرته بضياع الحقيبة فأنكر مُلقِّناً إيايَ كيف أنه ورث المهنة أباً عن جد وكيف أنه لم يبن سمعته في عالم الشيالين نتيجةً لإتقان حمل الأثاث فقط ولكن بناءً على الأمانة كذلك ... لو تلف شئ أو تحطم أو طار حتى ، لابد سيعلم بأمره من صبيانه وهذا أمر مفروغٌ منه ... أمَّنت على كلامه وأثنيتُ عليه وظللتُ أرجوه حتى وافقَ على إعطائي أرقام الصبيان الذين قاموا بالنقل يومها ... هاتفتُ الأول فأخبرني أنه فقط كان يرصُّ الأثاث على العربة ثم ينزلها بكل حذر وخبرة و ( فن ) على الأرض ثم أنهى المكالمة فجأة وهو ينفخ والثاني قال إنهم استخدموا نظاماً يسمونه "البوستة" يقوم على أن يقف كل واحدٍ منهم على بُعد دَوْرَيْن ويناولون بعضهم فلا يصابوا بالإجهاد خاصة أن الدور السابع بعيد ، وأنه كان في أول دورَيْن يعني ( النشاط والجهد كله) حيث يحمل أشياء كثيرة مرة واحدة ليقسِّمونها هم بعد ذلك وبالتالي فمن المستحيل أن يتذكر الأشياء مفردة ... أما الثالث فنهرني بسخرية إذ كيف أشتكي وأنا ( رجل عتيقٌ وغريب) خاف على الأثاث من " الوِنْش " الذي يرفعها للأدوار العالية وكأنه ( بُعْبُع) ... يعني لجأتَ إلينا لأنه لم يكن أمامك إلا نحن ومن الطبيعي أن تكون هناك خسائر من جرَّاء المسافة الطويلة إلى الدور السابع ... يا أخي حتى المصعد صغير جداً و( صيني) أكيد ... حاولت إيقاف تدفقه بتذكيره بأنه لم يتحطم شئ ولكني أسأل عن حقيبة صغيرة مختفية ، لكني فشلت وأغلقتُ معه بعد أن اعتذرتُ له بصدق ... فكرت ألا أحادث الأخير لكني قلت لنفسي لو لم يكن عنده خبر ستكون النهاية... كنت أطلب الأرقام وأنا أرتعش وأخاف أن يرد أو حتى لا يرد ... نطق في النهاية وكان مرتبكاً بطريقة رسمت لي بريقاً في آخر النَفَق... طلبتُ أن أزوره في منزله، تردد قليلاً لكنه أعطاني العنوان في النهاية... نمتُ هذه الليلة وأنا أتقلب بين وجه أبي الغامض وبين عقاب الله الذي اقتنصني بهيئاتٍ كثيرة آخرها عظامي التي شدوني منها عَظْمَةً عَظْمَةْ وغرسوها في صحراء نائية ، رمالها تهوي وتغوص إلى الجحيم ... فكرت أن أصطحب معي أحد لكني كالعادة ذهبتُ وحدي... بعد بحث طويل وصلتُ لبيت الشيال... كان في منطقة بعيدة عن الحياة ... تقدمتُ وأنا أتمنى الموت وناديتُ عليه بحسٍ لا يشبه صوتي ، مرت ثوانٍ مهلكة ثم خرج لي ، لم ينطق وأخذني إلى حَجَرين قريبيْن وجلسنا متجاوريْن ، بعد فترة تمالكتُ نفسي وبدأت أحكي له عن أهمية الحقيبة وكيف أنني كنت حريصاً طول السنين على جمع صور أبي من عند الجميع ليس لأني أردت امتلاكه وحدي ولكن لأنني بالطبع لابد وأن أنفذ أوامره حتى تلك التي لم ينطقها ، وبضياع الحقيبة يكون أبي قد اختفى وليس من المستبعد أن أختفي أنا الآخر ... كان الرجل يعبث في الحصى بين ساقيه ثم قال بصوت مبحوح إنهم لا يضيعون شيئاً ولكن بصراحة لو نسى الزبائن شيئاً في السيارة ولم يطالب بها أحد نقسمها بيننا ... لكن صور.. ما فائدتها... كدتُ أكمل له خطورة الأمر بالنسبة لنا لكن صوتي بالرغم مني صار أقرب للبكاء.. ربَّتَ على كتفي بحركة مفاجئة وانقلَبت ملامحه المسحوقة مرة واحدة إلى ملامح ساخرة وقام وهو يضحك ويشخر ويقول" تعيشي وتفتكري يا بيضه .." . مرت أيام وأنا صامت تماماً... لم أُرِدْ الأمر هكذا يا رب ... هل تواطأ أبي مع القَدَر حتى يسحب مني حياته ، أعني حياتي ، ليرى كيف سأكمل بدونها ... أم أن رغبتي المجرمة في المغادرة هي التي أضاعت الصور و ( ملامحي كذلك )... ماذا كان الهدف بالضبط ومَنْ يدير الأمر ... مَنْ المنتصر ومَنْ الخاسر ... ظللتُ مُنْتَهَكَاً من أفكاري الحادة والمسننة ومنفيَّاً حتى صَعَدت أمي لزيارتنا ... لم أستطع أن أنظر إليها أو أتحدث لكنها تجاهلتني واتجهت مباشرة إلى الشرفة... انتظَرَت زوجتي لحظات ثم دفعتني خلفها ... لم تحس بي من شدة تحديقها للأمام ...لاحظتُ دموعها التي تزيد شيئاً فشيئاً فأمسكتُ بها متسائلاً فطلَبَت أن أتركها مع أبي ... ارتبكتُ من عبارتها موقناً أنها علمت بجريمتي وتراجعتُ للخلف لكنها أشارت للأمام وقالت إنها وافقت على الانتقال إلى هذه العمارة بعد استئذان والدي وموافقته طبعاً وأنها أحست أنه سعيد خاصة بعدما علم شدة إخلاصي له ... لم يخرج صوتي فأشرتُ بما يعني سؤالها عما تقصد ... أشارت إلى قلب المنظر الجميل الذي اعتبرتُهُ الأمر المغري الذي سيحسم أمر انتقالها ، النيل ( كانت العمارة تطل على نيل البلدة والأشجار تحيط بضفتيه ... النيل الذي هو لعبتي أنا في التجدد الخلاب ) ... نظرتُ للماء ولم أفهم فأكمَلَت هي : رغم رعبكَ طول عمرك من الموت وسيرته وأخباره ورفضك حضور أي عملية دفنٍ لأيٍ كان ولا الخروج معنا للمقابر في المواسم وكسوفنا الدائم من الأهل والجيران ... حتى دفن والدك الذي سامحتكَ عليه ... كان رغماً عنك ، بمجرد ما بدأ الرجال الغُسل حتى وقعتَ مغشياً عليكَ وفشلوا في إفاقتكَ ثم اهتممنا بالميت وتركناكَ وذهبنا به ... لكن رغم كل هذا ، من المؤكد أنك تعلم أننا في هذه البلدة ندفن موتانا في" الشرق" يعني في هذه الجبل الذي يلي النيل ... وطبعاً قصدتَ هذه العمارة بالذات لأن مقبرة والدك هنا ... يعني أمامنا بالضبط ... شكراً على جعله معنا مرةً أخرى وإلى الأبد ... سأحادثه وأحكي معه كل يوم ... هكذا يكون إخلاص الولد لأبيه ... هززتُ رأسي بتشنج ... كنتُ أريد أن أنفي وأن أقسم وأن أفهم كيف عَمِيتُ عن الأمر ومَن فعل هذا لكنَّ صوتي انحاش وتاهت عيوني رغم أني ألاحظ غيمةً واسعة تتحرك في السماء و كلباً يعوي بعد أن انتصَرَت عليه كلاب الحي ..

مؤمن سمير . مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى