عبدالله البقالي - المقيريض.. من ذاكرة غفساي

في ذلك الزمن البعيد، كان هناك شخصان لم يمنعهما فقدان حاسة البصر من مواصلة نشاطهما في العالم الخارجي.
الأول كان " ابن العربي" أو " بلعربي" و الصورة التي ترسخت عنه لدى الأجيال التي لا تعرف تاريخه هي صورة رجل مكفوف يصنع الحصائر و يبيعها في " الكراج " . لكن الأكثر أهمية كانا جحرا عينيه العميقين و المشكلين من قعرين جلدهما في منتهى الليونة. و هو على عكس حاضره الذي يبدو فيه كشبح خرج من ظلمته في توقيت خاطئ، فالكبار يحكون أنه كانت له في الماضي صولات و جولات . و إنه الرجل الذي كان يضرب له ألف حساب. فقد كان من المتعاونين مع المستعمر. و طرقه لأي باب كان يعني أن ذلك البيت هو في وسط إعصار. و أنه في ألطف حالاته كان يأمر إحد سكان البيت بحمل رسالة إلى مكان بعيد. و يعود بإقصى سرعة ممكنة محملا بالجواب. مهما تكن الظروف.و إلا فالمصير هو السجن مع الأشغال. و لذلك فحين وقع في أيدي رجالات المقاومة، عمدوا إلى تسخين منجل، و اقتلعوا عينيه بلا رحمة.
الشخص الثاني هو " المقيريض" و الإسم تصغير لاسم " المقروض"
لا أحد حكى عن قصة عماه و لا في أي سن تم ذلك. لكن مدلول كلمة تسميته يفيد معنى " المنكسر" بكسر السين. إو عديم الحظ. وهو ما يوحي أنه حفظ الحياة بوجه واحد هو العسر. و أن كل ما لحقه هو من جراء الفقر و الإهمال. و قد استعاض عن فقدان بصره بعصاه التي يتلمس بها طريقه. و يطرد من حوله الكلاب التي تعترضه عند بوابات المنازل. و يستعين بها من أجل إبعاد الأطفال المشاغبين الذين كانوا يستمتعون بمشاكسته.
معظم إيام حياته أمضاها في الكراج. و لم يفته ولو مرة وصول أو مغادرة حافلة الغزاوي للقرية. إذ كان دائم الحضور و المرور بين الركاب و هو يردد لازمته الشهيرة " آ المحاننة"
شهرة المقيرض لم تكن بسبب تحوله إلى أحد معالم الكراج فحسب، بل كانت أيضا بسبب لعبة كانت تنظم سنويا من ضمن ألعاب كثيرة كانت تقام لإحياء ذكرى وطنية. قبل أن تهب رياح الوهابية التي قتلت كل شئ جميل و أتت على الأخضر و اليابس، و جففت منابع الفرجة و الفرح لتتحول الحياة إلى عانس لا تعرف عن السعادة و البهجة إلا ما يحكيه الآخرون.
أفرزت ألعاب الحفلات بسبب تكرارها نجوما في مجالات كسباق الحمير و الدراجات و تسلق الأعمدة المطلية بالصابون و التقاط النقود المعدنية بالشفاه من مقلات كانت تصبغ الوجوه بالسواد.
تخصص المقيرض كان في كسر الجرات التي كانت تعلق في عمد أفقي يسنده عمودان عموديان مثبتان في الأرض. و كانت كل جرة بها جائزة تصبح في ملك من يكسرها. فقد تكون دجاجة او قالب سكر او علب الحلوى. و البعض منها به رماد او ممتلئة بالماء. و أي لاعب كانت يتقدم نحو العمود الافقي مغمض العينين. و يعمد المنظمون قبل ذلك إلى إن يدور حول نفسه عدة دورات ثم يترك ليتقدم وحيدا على ضوء التعليمات التي يقدمها له الجمهور.
الجمهور كان ينتظر بفارغ الصبر ظهور المقيرض الذي كان المنظمون يعملون على تأخير دوره من أجل الإثارة. و حين يلوح طيفه تتعالى الصيحات و التصفيقات و الصفير من كل جانب.و كان بلباسه الصوفي و جرابه المعلق بكتفه و عصاه الشهيرة يبدو كمصارع روماني مقبل على مواجهة وحش من الوحوش.يبدأ تحركه بمساعدة ارشادات ابنه ذو الرأس الضخم وهما يمنيا نفسيهما بعشاء يكسر رتابة الايام.
يصل المقيريض الى الحلبه. يتحسس العمود الافقي. يتلمس جرة و ينصت لتوجيهات ابنه. ينتقل لجرة أخرى. يضرب ضربات خفيفية من اجل حفظ الاتجاه. يشحن يديه بكل ما لديه من طاقة و يضرب بقوة. تمر العصا في الفراغ. المنظمون يطالبون الجمهور بالابتعاد. يعود المقيريض لشحن عزيمته ثم يضرب من جديد. يتطاير الرماد في شتى الاتجاهات مغطيا وجوه القريبين من الحلبة.
القانون يقضي بتغيير اللاعب. لكن المقيريض يستمسك بمنحه فرصة ثانية. الجمهور يساند المقيريض الذي يستجيب له المنظمون و يشرع في تكسير ما تبقى من جرات و كأنه شخص مجنون في حرب مع جنية لا يراها غيره.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى