صابر رشدي - محمد آدم، الشاعر ذو الملمح الايقونى.. مرثيتان، وليلة باكية

لم أره منذفترة طويلة، لذا لم يكن غريبا أن يكون لقاء غير عادى، احتضنته، وجدت بين يدي جسد هش، هزيل، عندما جلست إليه، حدقت فى ملامحه، وجدته يبكي .
ـ زوجتي ماتت
ماتت ياصديقي، وأنا تائه فى فضاء الله .
كان يقول منتحبا .
ساد صمت ثقيل، ففى مثل هذه اللحظات لاتسعفك الكلمات، تتبدد منك متلاشية فى فراغ الآسى، واللا معنى، قد تنطق بعبارات سخيفة ومبتذلة قاصدا إزاحة الحزن، ولكنك ربما جعلته جاثما ومحلقا فوق رأس المكلوم دون أن تدري، مراكما لليأس ، مقتفيا أثره .
ـ يرحمها الله ، نحن جميعا موتى ياآدم
قلت مواسيا .
ـ أنت لاتعلم ماذا قدمت لى . قال .
كنت أتماسك بصعوبة، أحاول الإنصات، عله يخرج من هذا الكمد .
حاولت جره إلى مناطق اخرى، لاتجتر الحزن، وتقضى على هذا القلق .
قلت له .
ـ لقد كتبت عنك بورتريه على صفحتي، مفعم بحس ساخر .
صمت قليلا .
من نظرته، علمت أنه تم توصيله له ( دليفرى ) عن طريق سعاة الخير، فهو لم يكن لديه صفحة على الفيس حتى ذلك الوقت. بالطبع لم أسئ إليه، فانا أحبه، إنها صداقة ممتدة، أعطيته الهاتف، قرأ المقال كاملا، بالتعليقات المطولة أيضا .
محمد آدم، شاعر كبير، لنا كثير من الحوارات، والمناقشات، أتفق معه أحيانا أو أختلف، لايهم، فهذا لايفسد علاقتنا، أعرف مكانته فى جيل السبعينيات، له قصائد تذهلنى، تجعلنى لا أعرف أى شيطان أوحى له بها .
ـ هيا ننتقل من هنا، تعال نبحث عن مطعم جيد، لم أتناول شيئا منذ الصباح.
فاجأنى .
ـ سأرسل فى طلب ماتريد، تناول طعامك هنا . قلت .
ـ آذا لم أتحرك الآن، قد أموت .
تحركنا سويا، فى الطريق، بدا عليه الإرهاق، قبض على ذراعي كطفل صغير خائف من شئ غامض، ومجهول .
دلفنا إلى أحد المطاعم، كنت غير جائع، أمام اصراره، تناولت لقمة صغيرة من الصحن الذى أمامه .
كانت الدموع تنهمر من عينيه .
ـ هذا حالي منذ توفاها الله، ضائع، لا أعرف تجهيز أى طعام، أغادر مسكني فى الصباح، ولاأعود إلا في منتصف الليل، أتقافز من مكان إلى مكان، أندس بين البشر، ربما وجدت ملاذا يحميني من فكرة الانتحار .
فى حياة مكرسة للشعر، كانت تأخذ المصحف بين يديها، عندما تعلم حاجتي إلى الكتابة، كنت أشعر أنها تقرأ وتبتهل الى الله، كى أنجز عملا خارقا .
خرجنا من المطعم متكاتفين، كنت أشعر به، وحيدا، نائيا عن هذا العالم. ذهبنا إلى مقهى صغير، منزو فى شارع جانبى .
ـ عارف يا صابر يارشدي :
هذه السيدة احتملتني كثيرا، كنا نسكن امبابة، بيت بلا ماء، وكانت هى تجلب الماء فوق رأسها، مسافات طويلة، تفعل ذلك فى اليوم الف مرة .
ـ عارف ياصابر رشدي :
لقد أشارت، كى نبيع اثاث البيت، من أجل طبع ديوان لى، فعلتها وافترشنا بعدها البلاط سويا .
بكى آدم، وأبكاني معه، وهو يعدد مناقب هذه السيدة العظيمة، لقد ذكرني بأبي، وأمي .
قلت له وأنا ارى ملامح وجهه بصعوبة، من وراء سحابة الحزن التى ظللتني .
ـ كان أبي عندما يرانى أجلس للكتابة، يأتي إلي غرفتي ، فى يده فنجان قهوة، وفى فمه سيجارة مشتعلة للتو ، يضع أمامى الفنجان، ويناولنى السيجارة من فمه قائلا .
ـ اكتب، اكتب، الكتابة شئ جيد.
كاد آدم ينهار .
ـ يا ربنا، أى أب هذا، لم أسمع بذلك من قبل .
ـ لم يلحق أبي شيئا منشورا لي، ربما نتيحة كسلي، أمي كانت تقبل مقالاتي وقصصي .
بدأنا فى مقايضة الذكريات الحزينة، مغتسلين من هموم شديدة الوطأة، رحنا نذرف دموعا غزيرة، جعلت عمال المقهى يبتعدون عنا، والزبائن الجالسون على المقاعد القريبة يتلاشون النظر إلينا احتراما لهذا الطقس الغريب، سرحنا فى تذكر الاحبة من الموتى والأحياء، حتى فاجأني الشاعر بواحدة من اجمل قصائده، راح يلقيها على بصوت متهدج، متقطع، باك، وأنا استمع ممزق القلب، أفكر فى والدي .
مرثية اولى
فى هدأة الليل
فتشت عنك فى الشوارع
والسكك
وعلى الأرصفة
وتحت اعمدة الانارة
وفى دور العبادة
حتى فى القطارات التى تعبر الهواء
كل ثانية
وبعيدا عن الجاذبية
ولما لم اجدك
رحت أجرجر قدمي
مثل لاعب سيرك ضرير
ورحت اسأل عنك حراس
المقابر المجاورة
كان الموتى يلملمون ضحكاتهم
التى تشبه الفوانيس المكسورة
وحبات الخوخ
المعطوبة
يقولون لى
هنا ترقد امرأتك
غاليتك
فى غرفة وحيدة
فى انتظار أن ينفخ البوق
كان أروع إلقاء للشعر صادفته فى حياتي، إلقاء مشحون بالآسى، والتأثر الحقيقى، وبشحنة من النشاط العقلى المرتبك، كانت الكلمات تصدر كهذيانات تجري فى منافي مثقلة بالعذاب والنبرة المريرة .
على هذا الإيقاع السابق، الذى تركني مهزوما، مدمرا، را ح يلقي قصيدته الأخرى .
مرثية ثانية
أمس
ذهبت الى المقبرة لأ تلصص عليك
كنت تلبسين ثيابك الصوف
وتتنططين بين الموتى
مثل فراشة واثقة
لم أشأ ان اعطل ضحكتك
ولم أشأ ان أقول لك صباح الخير
ايتها السيدة
فقط
أردت أن اقول لك
البيت فى مكانه
وأنافتحت كافة النوافذ على آخرها
ولكن الشمس أبت ان تدخل البيت
إختفت هى الأخرى
ـ بدورها ـ
فى الحديقة المجاورة
فى نهاية هذه الليلة الباكية، المشحونة بالآسى وآلام الفقد، وأثناء البحث عن سيارة أجرة، وجدته يتحسس جيبه، قلقا، ومتوترا .
ـ ماذا؟ قلت .
أجابني بنبرة مريرة .
ـ أبحث عن مفاتيح البيت :
من قبل، كنت اعود فى أى وقت، اضغط زر الجرس، فتأتي مهرولة، تفتح لي الباب . الآن، لوضاعت المفاتيح، سأقضى ليلتي فى الشوارع، أطارد الاشباح والفراغ، بعيدا عن اى عين حارسة، متروكا، ووحيدا ، تسحقني الوحشة بيدين متجمدتين .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى