محمد بشكار - مَواقفُهم مَجالس!..

المَوْقِف أن يكون لك مع الرأي الجرأة لقوله علانيةً، وليس الموقف أن تستعير أكثر من لسان لِتطْلَعَ على الناس في كل يومٍ بكلامٍ لا يشبه الذي سَبَقَهُ أو الذي سيليه، عسى وأنت تتقلَّبُ ظَهراً على بطْنٍ في المواقف بالخفَّة التي تجعلك تتقلَّبُ في المناصب، أنْ تحظى بالثَّبات في الشهادة !
ما من أحدٍ إلا في ما نَدَر من الطيور، يقبل العيش معزولا خارج السِّرب رافضاً ما يَقْبله الجميع، وقد صار اليوم اتخاذ الموقف في إحدى القضايا سواءً كانت مَحلِّية أو تتجاوز الحدود، أشبه بعملية انتحارية تستدعي احترازاً ديبلوماسيا كبيرا، فالمرء لا يعرف حين يَمُدُّ اللسان بالحديث سنتيمتراً خارج فمه كم شِبْراً سَيُضَيِّع من أرضه، خصوصا وأن أمريكا بالمرصاد تبيع البلدان على ظهور شعوبها بأبخس الأثمان، وقد تنتقل من التِّجارة بالجُمْلة إلى التقسيط غير المريح وتشرع في بيع الإنسان!
الموقف تاريخ ليس للِحِفْظِ فقط، ولكن للممارسة والتَّطْبيق حين يتحتَّم أن نُكرِّر بمواقف بعض الرجال الأفذاذ هذا التاريخ، وليس ثمة ما يشتد على النفس ألماً وحسْرة، من أن يصبح هذا التاريخ الذي التحق صانعوه بعالم الأشباح والموتى، أكثر حياة ونضجاً وفتوة وبطولة، كان للحب معنى حتى لو فَقَد في أغلب نهاياته المعنى بسبب التَّدخل السيء للحياة، وكانت السياسة رزْمة كتبٍ شديدة البأس لا يمكن للمرء دون قراءتها أن يكسب شرف النضال، لم تكن السياسة فراغاً كالذي نسْمع صفيره في أعجاز النخل المنتشرة اليوم بكل الألوان، ومن أين لبعض هؤلاء أن يتخذوا الموقف وهم حتى على القدمين لا يستطيعون وقوفا؟
يَجْدُر أن نفهم مع من نعيش اليوم، هذا الكائن المَحْقون بكل أنواع سموم السلبية والإحباط، هذا الكائن الذي صار مُتشابهاً كأيِّ سلعة تتداولها في الأسواق العالمية شركات متعددة الجنسيات، بلْ يُمكن القول إنَّ هذا الصِّنْف البشري يشبه مارْكة بِنفْس الوجه والمِشْية واللِّباس والوزن الصافي دون احْتساب التَّغليف ورسوم التعبئة، وحتى الثمن لأنه قابلٌ للبيع، من أنتج هذا الكائن وجعله فاقداً لإرادته الشَّخصية لا يَمْتثِل إلا لِمَا يُريدون، ولنا أن نتصوَّر حجْم فراغ الإنسان الذي يعيش بيننا، ونحن نراه يحْصل على كل المعلومات حتى التي تتعلَّق بالأكل وليس فقط المعارف والعلوم، يسْتقيها ولو لأجل أطروحة دكتوراه ليس مما خزَّنه في رأسه بجُهْد التحصيل، ولكن ممَّا يُتيحه له مُحرِّك البحث غوغل، ويقولون إن فلسطين بيعت في صفقة القرن، وكيف لا تُباع بعد القدس دولٌ عربية أخرى وقد استطاعوا أن يُدجِّنوا في مَحْمِيَّاتها هذا الصنف النادر من وحيد القرن؟
الموقف أن نسْترِدَّ أنْفُسنا أولا من شبكة العلاقات الاجتماعية الزائفة لكي نستطيع أن نُبلْور رأياً حراً، أن لا يبقى السياسي حبيس الخطاب بطلاوته وحلاوته وهو يعلم أن كل مُواطِنٍ يحْمل مَنْبَرَهُ في هاتفه الذي يتيح أكثر من اختيار وتطبيق، يجب على السياسي أن يتخلَّص من صوته بنُكْران ذاتٍ ويسمع أصوات الآخرين، ويقترح حلولا بالملْمسِ الناعم للدراهم في الجيوب !
الموقف أن لا يقف المُثقَّفُ في حيِّهِ البئيس كعمود كهرباء منطفىء، وكلما حصل على دعمٍ من المجْلس البلدي، صَرَفَهُ في كل شيء.. وأي شيءٍ دون أن يشتري المصباح!
الموْقفُ أن لا تتْركُ الأجيال الفوارق العُمُريَّة تتسع بسوء الفهم في حين ثمة من يتغذى مُسْتَثْرياً من الفوارق الاجتماعية، الموقف ذلك المكان القابع بجوار باب الله على قارعة الطريق، من يجْهله لمْ يتذوَّق الطَّعْمَ الطبيعي لعرق الجبين دون مُعدِّلات أو مُلوِّنات اصطناعية، وقد لا يتخذ موقفاً من وَسَخ الدُّنيا ليعيش نظيفاً !
لا أعرف إذا كان ثمة اليوم من يتحلَّى بالجرأة الكافية ليتخذ كل هذه المواقف سالفة الذكر والعصور والأوان، ولكنني مُوقِنٌ أننا بينما نبحث عن موِقِفٍ واحد يتناسل كالفطْرِ مائة مَجْلِس!

( افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليومه الخميس 13 فبراير 2020)



L’image contient peut-être : 1 personne

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى