أنوار الأنوار ( أنوار سرحان ) - وينطفئ ذاك النّور

ما أروع البُكاء بين أحضان رجُلٍ حانٍ!!
لأوّل مرّة أعرف مِنَ الحزن لَذَّةً ، وأتذوَّق منه متعةً ونشوة. وأنا الّتي تعوّدَتْني الآلام موطنًا وألفَتْنِي الهموم مسكنًا، ولم تعرفْ دموعي يومًا مَنْ يُجفّفها، وجدتُ صدرَه الدّافئ يضيء لي أملًا بعُمرٍ جديد. لا أذكرُ بالضّبط كيف ألقيْتُ برأسي فوق صدره فبلّلتْ دموعي قميصه، رفع رأسي وبأنامل رقراقةٍ مسَح ما فاض منّي من دموع، ثمّ قال بنبرة رصينةٍ واثقة: "الله بِيعِين يا أختي"، وانطلق يتابع أمور العَزاء بحكمةٍ ودراية.
لعلّ من الغريب أنّه لم يكن يعني لي شيئًا قبل ذلك، إلّا كونَه جارنا الطيِّب المهذّب الّذي يحيّيني بوَقارٍ طافحٍ كلّما التقينا صدفةً أمام عتبة البيت، رغم أنّي كنت أعلم أنّه منير ساحر الكثيرات من نساء الحيّ، وياما وصفْنَه لي بأنّه ذو النّظرة البرّاقة المتلألئة، والنّبرة العميقة تفيض عذوبةً نديّة، لا يمكن لمن تسمعها إلّا أن تتيه بسحرها.. لم يكن يَعنيني كلّ هذا أبدًا، لكنّ قسوة الموقف جعلَتْني أحتاج مَنْ يُساندني ويَرْأف بي.. شَكرْتُه بابتسامة امتِنان حين وجدته يسعى ليخفّفَ ما دار بي مِنْ حزن، بل مِنْ قلقٍ وخوفٍ مِنْ واقعٍ جديد، فأنا لم أحزن أبدًاً لموت زوجي الشّيخ قاسم، وهل أحزن لخَلاصي مِنْ عذابٍ استَعَرَت به أيّامي خمسة عشر عامًا مضت؟ أظنّ موته ليس إلّا تكفيرًا مِنَ القدَر عمّا عرفتُ مِنْ أيّامٍ عاهرة، أيّامٍ تعرّت مِنْ كلّ أثواب الرّاحة والأمان فوَلَجها البُؤس والقهر حدَّ العمق!! فهل أحزن لخَلاصي مِنْ عذاباتي؟؟!! بل إنّي لا أنكر أنّ لذّةً منعشةً خفيّةً كانت تتسرّب إلى أعماق نفسي بمجرّد التّفكير أنّي سأبيتُ اللّيلة وحدي .. يااااااااااااه .. لن يأتيني كثوْرٍ هائج.. لن يَشقّ ثيابي.. لن يسْحَق عظامي بجسده الضّخم المُترهّل.. لن يصفعني بنظراته وزفراته اللّاهثة ثمّ يتركني لجسدٍ يشتعل وروحٍ تنطفئ..
داعبَتْ خيالي فكرة النّوم وحدي، لكن سرعان ما تناثرت مداعباتها لَمّا تسلّل إلى أذنيّ صوت أبي..
لم يكن أبي قد زارني إلّا مرّاتٍ نادرةً منذ حَكَم عليّ بالزّواج من شيخٍ يكبره بسنواتٍ، لا لشيءٍ إلّا لأنّه أوّل مَنْ طرَق باب بيتنا خاطبًا.. فسلّمني له أبي زوجًا أو سجَّانًا، لم يكن الفَرْق كبيرًا بين الأمْريْن. دخل أبي رفْقة جميلة زوجته الّتي لا أطيق رؤيتها، ولا أكاد أذكر منها إلّا كونها السّببَ في موت أمّي رحمها الله، بغصّتها، يوم تزوّجها أبي ليُصلِح خطأ ما. كنتُ صغيرةً غضَّة يومها، فلم أفهم كيف تَحْمِل جميلة بدون زواج، ولا كيف يحْمِل أبي مسؤوليّة حمْلها.. لكنّي اضطررت أنْ أفهم أنّ أمّي ماتت بحسْرتها، وأنّ ذاك الطّفل الّذي سرْعان ما انزلق إلى الكوْن بعد ثلاثة شهورٍ، يكون أخي وعليّ أن أُدِين له بالطّاعة والوَلاء.
أسرَعْتُ أقبّل يدَي أبي فوْر وصوله، وأسلّم على أخي زاهي الّذي غاب عنّي من سنين، من يوم غادرنا للعمل في حيفا ولم يعُدْ إلّا لزيارات عابرة. لا بدّ أنّ هذه الّتي تتأبّط ذراعه هي لِيئا صاحبته اليهوديّة الّتي سمعتُ أنّه يحيا معها حياة الأزواج، وأنّها أنجبت له طفلًا أسماه اسمًا عبريا لا أذكره تمامًا .. حضَروا جميعًا ليواسوني في مِحْنتي، فمهما يكن، لا بدّ لي من مساندة في غُدوّي أرملة..
وكأنّ الدُّنيا بدأت تبتسم لي إذْ لم أعُد وحيدة أبدًا.. بات لي مَنْ يَقْلَق لأمري ويهتمّ لشأني ويزورني باستمرار منذ غدوتُ أرملة بدون زوجٍ يحميني!!
توالتْ زيارات أبي وأخي للاطمئنان عليّ وعلى أطفالي.. ومنير جارنا لم يتوانَ عن تقديم أيّة خدمةٍ نحتاجها، وفي أيّ وقتٍ من الأوقات.. إلى أنْ بدأتُ ألْمَس امتعاضًا ما في تعابير أبي كلّما التقى بمنير صدفة في بيتي أو سأل عنه في حديث عابر.. صار أبي يبثّ لي مِنَ الشّكوك ما يستدعي استنفار كلّ قدراتي على الإقناع، لجَعْلِهِ يُصدّق أنّ علاقتي بمنير بريئةٌ خاليةٌ مِنْ أيّة شوائب، وأنّه يقف إلى جانبي وقْفة صديقٍ وأخٍ شهم… حتّى كانت ليلةٌ فاجأني أبي وأخي بزيارة ليليّة لم أنتظِرْها. كان وجه أبي يَشي بغضبٍ كفيل ليفجّر براكين الأرض كلّها، وأخي زاهي، هَدَر كموْجٍ في يوم عاصف.
وبنبْرةٍ حادّةٍ بادرني أبي بالقول: "بيِنْفعِش تظلّي هُون لحالك بعد! إمّا بتِيجي معنا أو بِيجي زاهي يسكن معك!"
لم أكَدْ أمتَصُّ عبارته حتّى انهالت عليّ تساؤلات أخي زاهي عن حقيقة علاقتي بمنير، وعن السّرّ الكامن وراء زياراته المتكرِّرة إلى بيتي. فهمتُ من حديثهما أنّ ألسِنَة نساء الحيّ قد نَعَقَت بما وَسعه خيالهنّ مِنْ حكاياتٍ نَسَجْنها حولي، بدوتُ في بعضها مُومَسًا أبيعُ نفسي لمنير، وفي أخرى عاهرةً انفَلَتَت مِنْ قيودها بوفاة الشّيخ قاسم... هو العار إذًا ما سبّب هذا الهياج والثّورة.. قد صدق حدْسي إذًا حين استشعرتُ أنّ زيارتهم رفيقة مصيبةٍ سوداء، كحليّة ، بنِّيّة.. لا أدري، هي مصيبةٌ قاتمةٌ في كلّ حال.
انحبَسَت صَرَخَاتي في طرف لساني الّذي انعقد لمّا سمعتُ أقوال أبي وأخي والتُّهَم الّتي فاضوا بها عليّ.. وشعَرْتُني خرساء فيما أصغيتُ لأخي يكيل لي تُهمًا ويهدِّدني بالقتل ثأرًا لشَرَفه الّذي تَدنّس. صرختُ أحاول الدّفاع عن ذاتي وأستشهد الله أنّي ما دنَّسْتُ شَرَفًا ولا أتيْتُ عيبًا ، لكنّي صُعِقتُ لمّا وجدت أبي يستلُّ سِكّينًا يوجِّهُهُ نحْوي ، بعزْم صائحًا: "والله بَقُتْلِك وبَشْرَب مِنْ دمِّك!!"، وزاهي يسابقه لينال شَرَف تخليص عاره إنْ لزِم الأمر: "كلّه إلّا الشّرَف، لو برُوحِي ما بخلِّيكي توَطّي راسنا". ما أعظَم غضب الرّجال حين يتعلّق الأمر بشَرَف النّساء!!!! غلبَتْنِي حيرةٌ إذْ شعرتُ الكون يهتزّ بي، وأرضي ترتَعِد، وسماواتي تكادُ تُطْبِق عليّ وحْدي..



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنوار سرحان، كاتبة ومترجمة فلسطينيّة. مواليد قرية نحف في الجليل عام 1975. محاضرة ومرشدة في الإثراء اللّغويّ والتّفكيريّ لدى الأطفال، ومديرة رياض أطفال. الأمينة العامّة لاتّحاد الكتّاب الفلسطينيّين-حيفا ، ومحرّرة بموقع دروب الأدبيّ، كما حرّرت موقع أدب الأطفال العربيّ في السّنوات 2006-2007. تكتب القصّة القصيرة والمقالة بشكلٍ خاصّ. صدرت لها مجموعة قصصية بعنوان "الأفعى والتّفّاح" ، وقيد النّشر مشروع ترجمة من الأدب العبريّ بعنوان "أصوات من هناك". تُرجمت بعض قصصها إلى الإنجليزيّة والفرنسيّة عبر مختارات للقصّة العربيّة. استضيفت في برامج أدبيّة وحواريّة في الإذاعات العربيّة والقنوات التلفزيّة حول تجربتها القصّصية ومزجها للهمّ السّياسيّ والاجتماعيّ والنّسائيّ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى