حيدر العايب - المنهج والميتودولوجيا في العلوم الإنسانية

لا شك أنّ البحث في المناهج عموما، ومناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية بشكل خاص له ضرورته الابستمولوجية، وذلك نظرا للمعطيات التالية؛ تشابك وتعقد الوقائع الاجتماعية والإنسانية وتنوعها، ولا يلزم حينكذا سوى "المنهجية" كيما تساعد على ترتيب الوقائع وتحديد المقدمات للباحث لتشخيص الظاهرة. أيضا وجود تكافؤ بين المنهج والظاهرة، وهذه الأخيرة هي من تفرض قواعد المنهج بغية نقل الوقائع دون تجزئة، أو بتر، ولا يفرض عليها فرضا، وإنّما يصاغ المنهج وفق خصوصيات الظاهرة. إلاّ أنّ ذلك لا ينفي أن يكون المنهج وسيلة غير محايدة، بل يأخذ ما يناسبه من وقائع وما يكون على مقاسه ويدخل في تكوينه الداخلي. فما يتم إدراكه من وقائع، ليس هو الواقع عينه، وإنّما هو خلاصة تفاعل المسلمات الكامنة في الذهن، والأدوات المتاحة. هذا وللمنهجية فلسفة وإجراءات، الفلسفة تكمن في النموذج المعرفي، والاجراءات في المنهج والأدوات.
غير أنّ موضوع المنهجية يبقى معقدا في طبيعته، كونه الموضوع الأساسي في بنية أي نسق معرفي، والمقدّمة الضرورية لتأسيس أيِّ علم من العلوم. وكما تقدم أنّ المنهج خصوصا أو حتى علم المناهج Méthodologie موثوق في استقلاله وموضوعيته بحكم الاعتقاد السائد في أنّه "بحث في الوسائل". فمثلا وفي تاريخ الفلسفة والعلم الإسلاميين عمّر الاعتقاد بحيادية المنطق الأرسطي لعقود طوال واعتباره "آلة" أو "وسيلة" ، ذلك أنّه فهم بمعزل عن الرؤية الأرسطية للعالم، إلى غاية فترة متأخرة من عمر الحضارة الإسلامية حيث فجّر ابن تيمية حقيقة أنّ المنطق الأرسطي يتضمن دلالات اعتقادية خاصة اعتقاده في العقول العشر، وعليه كان نصيب المنطق من الإلاهيات لا يقل عن نصيبه من الطّبيعيات.
وقد كتب الفيلسوف الفرنسي "إدغار مورانEdgard Morin " عن وجوب التمييز بين المنهجية (الميتودولوجيا) والمنهج: "هل علينا أن نذكِّر أنّ كلمة "منهج" لا تعني بتاتا الميتودولوجيا؟ فالميتودولوجيات دلائل فلسفية تبرمج البحوث".
وعليه فلكل منهج كما تقول "مادلين غراويتزMadeleine Grawitz " إيحاء فلسفي، لذلك فمن الانطباعات التي تحاك عن المنهج أنّ "هذا المصطلح مستعمل لوصف اجراءات تأخذ موقعها على مستويات مختلفة، فيما يخص ايحاءها الفلسفي بدرجات متفاوتة، ودرجة تجريدها، وهدفها التفسيري بدرجات متباينة، وعملها على مراحل بحث ملموسة بدرجات مختلفة واللحظة التي تأخذ موقفها فيها".
لذلك وعلى نحو ما توضح "غراويتز" أنّ المنهج إن كان من الناحية الفلسفية "مجموع العمليات الفكرية التي يسعى اختصاص بها إلى بلوغ الحقائق التي يتابعها ويثبتها ويتحقق منها"، فإنّه "كموقف ملموس تجاه الموضوع" يكون الموقف الفلسفي فيه "مضمرا قليلا أو كثيرا". ناهيك عن وظيفته التفسيرية حيث نجده "يرتبط بمقدار أو بآخر بموقف فلسفي، ويستطيع أن يؤثر بهذه المرحلة من البحث أو تلك". وعليه يكون فيه تفاوت الالتزام والدّقة والكمال والانتظام. وليس مردّ ذلك إلاّ للبعد الفلسفي المضمر، فللمنهج دوره في الانتقاء والترتيب والاختزال.
ولنا في ذلك عمل المؤرخ ومنهجه في رواية الحدث أو نقله، حيث سنجد أنّ "التاريخ مثله في ذلك مثل الرواية الأدبية يقوم بالانتقاء والتبسيط والتنظيم والإلمام بقرن كامل في صفحة واحدة... وهذا الحد هو أنّه ما من حالة واحدة يسميها المؤرخون حدثا يمكن الإحاطة بها، بأسرها وبالكامل نحو مباشر، ولكن قصارى الممكن هو أن يجري إدراكها على وجه غير مكتمل وبنظرات جانبية (أحادية الجانب) من خلال الوثائق أو شهود العيان أي ما تخلفه وراءها من علامات".
هذا ما يفسّر حقيقة أخرى لا تقل أهميّة عن سابقاتها هو الالتباس بين مفهوم المنهج ومفهوم النظرية في العلوم الإنسانية، فالتحليل النّفسي يفهم كمنهج وكنظرية أو حتى فلسفة، وكذلك الأمر مع الظاهراتية، والمناهج التاريخية، والوضعية في العلوم الاجتماعية فهي بقدر ما تحاول أن تقدم نفسها كمنهج له القدرة على التوصيف والتفسير مع ادّعاء مطلق الموضوعية نجد أنّ من يتعامل مع تلك المناهج كفلسفات بله وحتى كمذاهب وربما كرؤى.
وقد عبّر "بول ريكورPaul Ricoeur " عن هذه الحقيقة في صدد تعرّضه لتأويلية التحليل النفسي الفرويدية، حينما كتب: "فنحن لم يعد بمقدورنا أن نكتفي، كما كان الحال منذ عشرين سنة، بتمييز المنهج والنّظرية. فنحن نعرف الآن أنّ "النظرية" في العلوم الإنسانية ليست إضافة حادثة: إنّها مكوَّنة من الموضوع نفسه... أي النّظرية من حيث هي تجعل تكوُّن الموضوع نفسه ممكنا. وهنا تكون النظرية منهجا".
دون أن ننكر ذلك في مناهج العلوم الطّبيعية، فها هو ديكارت يعلن في "مقال في المنهج" بضرورة الولوج لعصر علمي جديد قوامه "سيادة الإنسان على الطبيعة"، دون أن تغيب عنّا الدّلالات الميتافيزيقية واليوتوبية وحتى النفسية لمقولة "السّيادة". وهو ما حمل بعض الفلاسفة المعاصرين على تفكيك المشروع العلمي الحداثي باعتباره استحال إلى أداة تدمير. فالأمر يزيد عن كونه مجرد بناء منطقي للعلاقة بين العالِم والطبيعة، ليراوح موقفا نفسيا وعلاقة مواضعاتية بالطبيعة.
كما أنّ هنالك مستوى آخر من التداخل يتجاوز إمكانية تساوي النظرية بالمنهج وهو مستوى على ما يبدو أكثر خطورة يتمثل في التواشج بين "النظرية" و"النموذج" مع "أسبقية النظرية على المنهج" وهو الذي يعرف بــ "استراتيجية النظرية ثم البحثStrategy Theory-then- research" أي تأتي النظرية أولا وتتبع بالبحث. حيث تطورت هذه النّظرية على يد "كارل بوبرK,Popper " كونه رأى أنّ المعرفة العلمية تتقدم بشكل أسرع حينما يطور العلماء الأفكار (الحدوس ) ويحولون دحضها عن طريق التجريب. هذه العملية العقلية القبلية هو الذي يجعل التداخل بين النظرية والنموذج أكثر إمكانا حتى أنّه يصعب التمييز بينهما، ذلك أنّه "يمكن الوصول إلى النظريات عن طريق الحدس فقط بناء على علاقة فكرية مع الأشياء التي تقع ضمن الاهتمام والخبرة". ما المستفاد من هذا كلّه؟
وجه الاستفادة من تلك المعطيات أنّ مناهج العلوم لا تخلو من نماذج أو خلفيات تمنحها صلاحيتها ومشروعيتها الفلسفية، وعليه فليس ينبغي التسليم بالموقف الساذج من أنّ رغبة العلوم الإنسانية والاجتماعية في تبني منهج علمي صارم ممثلا في منهج العلوم التجريبية نابع من رغبة تلك العلوم في تحصيل الدقة والموضوعية. إذ فكرة النموذج تحيلنا إلى حقيقة أخرى وهي رغبة هذه العلوم (الإنسانية والاجتماعية) في السيطرة على الإنسان ذاته. ذلك ما جاء على لسان بيري (PERRY) في كتابه General Théory of Value) (The "إذا كانت الحركة العلمية قد بدأت بالفيزياء، وكان برنامج بيكون(BACON) هو السّيطرة على الطبيعة، فإنّ برنامج اليوم هو السّيطرة على الإنسان نفسه، وإلاّ كيف نُخضِع الطبيعة لسيطرة الإنسان دونما تنظيم هذا الأخير وتوجيهه".
أمّا الحقيقة المنهجية الأخرى، فتتعلق في ذلك التمايز في بناء المعرفة بين طريقين، أي في المراوحة بين "التصور" و"الصورة" أو بين "البناء" و"البنية"، "ذلك أنّ الصورة والبنية يدلان على انعكاس مباشر للأعيان في الأذهان، وبالتالي يتعلق الأمر بالمطابقة، في حين أنّ البناء والتصور يدلان على العمليات العقلية الناجمة عن تفاعل العقل بالطبيعة والعالم". وبما أنّ العقل ليس مجرد متلقي سلبي للانطباعات الحسية، بله يستقبلها في جو مفعم بالخلفيات والمفاهيم الثقافية القبلية، حال الطريق الأوّل. أو يتوجه صوبها وفق قناعات معرفية وثقافية وفق ما تمليه رؤى العالم كما هو الأمر مع الطريق الثاني. فإنّ الوضع يكون أكثر حدَّة في ميادين العلوم الإنسانية.
من هذا المنظور فتحت الدّراسات الابستمولوجية المعاصرة منافذ مهمّة في علاقة الانطباعات النفسية والمعتقدات الثقافية والخيارات النفس-ذهنية وأثرها ليس في دراسة الظاهرة أو الواقعة، بله وفي ترسيم المناهج وانتقاء الأدوات، ههنا يمكن الاستدلال بالملاحظة التي بلورها "توماس كون" في فكرته عن "النماذج المعرفية" في "بنية الثورات العلمية"، معتبرا أنّ أحد مدلولات "النموذج أو الجذور الأصلية/ Paradigm" هي أن تكون: "القوانين، والنظريات والتطبيقات والأجهزة التجريبية".
وبما أنّ للمنهجية (علم المناهج) -كما تقدم- فلسفة وإجراءات، فذلك يعكس تأويلين جدليين؛ "أنّ المناهج وأدواتها وإجراءاتها ولا شك تستبطن فلسفتها المنهجية التي تأصّلت من خلالها، ومن ثم يصعب وصفها بالمحايدة". وبما "أنّ بناء فلسفة المنهجية خطوة أوّلية قبل بناء أدواتها ومناهجها، فإنّ محاولة البدأ من الفرع هي محاولة لتطويع الأدوات والمناهج تلك لتتناسب بطريقة وأخرى مع الواقع". ففكرة النماذج المعرفية وحتى القيمية تفرض سطوتها حتى على مستوى العمليات التطبيقية وأدوات المنهج. وهكذا مثلا لم يكن بالإمكان اختراع التلسكوب ولا حتى إمكانية العمل به في إطار سيادة النموذج العلمي البطلمي (نسبة إلى بطليموس) ونظريته مركزية الأرض. أو اكتشاف اللاشعور في ظل سيادة الكوجيتو الديكارتي.
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى