حسين خلف موسى - حكاية جدي

كان جدي يغمض عينيه ويركض في الحقل مسرعاً حاملاً زوادته على خصره وبيده اليمنى جاروف يسوي به الأرض. والحقل واسع يقبع على منحدر جميل ، باكرا عند مطلع كل فجر يحمل إبريق الشاي متجهاً إلى عرزاله.
يشعل النار في الأسفل، ويغلي الشاي ببطء ممل.

وفي بداية الربيع يشتري خروفا صغيراً يطعمه بنهم كي يكبر يتحسسه كل صباح على ظهره وعندما يأتي العيد يذبحه نأكل نصفه والنصف الآخر يوزعه على الجيران.
أيام الصيف كان جدي يسهر على سطح بيتنا هو ومجموعة من رجال القرية يتسامرون ويتبادلون الحكايات والأحاديث، عن أحداث حدثت وأحداث لم تحدث وضحكاتهم وأصواتهم تملأ المكان.
كان جدي يتردد على المدينة أسبوعيا وكنت ألح عليه كل مرة ليأخذني معه لكنه كان يرفض، أخيرا أخذني معه لم يمسك بيدي تركني على راحتي مبهوراً بزحمة المدينة ابتعدتُ عنه قليلاً ، ركض خلفي كالطيرِ ولما اشتد لهاثه ارتميت على الأرضِ ابكي .

كان لجدي غرفته الخاصة في إحدى الزوايا تجلس باسترخاء خزانة صغيرة زجاجها مكسور تحتوي على بعض الكتب القديمة لصادق الرافعي ومصطفى لطفي المنفلوطي وجبران خليل جبران وعدد كبير من الكتب الدينية وفي الزاوية الأخرى دق مسمار طويل بالجدار علق عليه عشرات (السبحات) كان قد جمعها من أصدقائه القادمين من بيت الله الحرام وعلى رف مجاور المهباج والمحماسة اللذين يصنع بهما قهوته، وخلف الباب النرجيلة المزينة بالخرز والسلاسل الفضية، وفي منتصف الحائط صورة قديمة لوالد جدي الذي هاجر إلى الأرجنتين منذ فترة طويلة وانقطعت أخباره ولم تصل منه إلا بضع رسائل، كان محظوراً علينا الدخول الى الغرفة خوفاً من العبث بمحتوياتها لكني كنت ادخل خلسة بين الحين والحين لأخذ كتاباً أقرؤه وأعيده دون أن يحس بي احد وهكذا قرأت العبرات والنظرات وتحت ظلال الزيزفون والمجنون والمواكب و ..و…

ذات فجر صرخت جدتي بأعلى صوتها فاستيقظ جميع من في الدار ، ركض الجميع إلى غرفتها كانت بداية النهاية لرجل كان إذا غضب اهتز وإذا اهتز كاد يتصدع البيت وإذا ضحك عمت الفرحة الجميع، وعند الشروق اجتمع المحبون يعزون ويأخذون بالخاطر وطلعت رائحة البخور ونبت الحزن في الصدور وصارت الحسرات كبيرة كالأشجار.
وعندما انتهى العزاء دخلت غرفة جدي فوجدت جميع الأشياء وقد لفها الحزن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى