عوض الشاعري - عبقرية الطرب

* الإهداء:إلى: روح سيدة الطرب في زمن عز فيه الطرب

صوت (أم كلثوم) يسرقك فجأة من رفيقك الذي أحس بابتعاد روحك عن المكان, والتصاقك اللاإرادي بالمذياع, فآثر أن لا يخدش جلال اللحظة بحديثه, تاركاً لك فرصة التحليق مع ذبذبات الأثير التي انتشرت في الأجواء وراحت تتسرب إلى أبعد قمة في أعماقك.

و(قصة الأمس) التي كانت ترويها (الست) ترن في تجاويف ذاكرتك, كناقوس عملاق..... سرعان ما يتحول إلى طائر أسطوري له ألف جناح, يحوم بك على (الأطلال) وأنت تحدق من عل كطفل هاجه الشوق إلى (ليلة العيد) بأضوائها المبهرة, وألعابها السحرية التي تخلب الألباب, ويظل طائرك الخرافي يهيم بك في أجواء من النغم العذب, والهينمات الرقيقة التي تسري في كيانك ببطء, فتفقد رباطة جأشك, وتشعر أن (للصبر حدود), وتقفز كريشة من فوق طائرك الوهمي محلقاً (فوق السحاب), وينساب جسدك بسلاسة سمكة عبر تيارات الهواء العليل, وتظل هكذا تقلب عينيك في ملكوت الله الفسيح, حتى تباغتك (شمس الأصيل) بأشعتها الحانية, وترى (جمال الدنيا) لأول مرة وجهاً لوجه, بل تحسه مجرداً بلا رتوش كوليد, وتمتلك قلبك نوبة من الوجد الصوفي, فيجفل بين ضلوعك متراقصاً على إيقاع خفي بدأ يداعب أوتاره بانتظام, ويسكب في شرايينه (الحب كله) فيهدأ مطمئناً, وتوقن أنت أن (القلب يعشق كل جميل) من خلال (حديث الروح) الهامس الذي يسري فيك فتحس بنشوة عارمة, وأنت ترى أسراب الطيور تشاركك الفضاء الرحب, تحاول محاكاتها فتخفق لأن (الليل) كان ينسج عباءته بسرعة مذهلة, وكانت ثمة أصوات ترتفع بالأنين و (الآهات) على الأرض, وتهبط بسلام فوق ( صرح من خيال ) وأنت تنصت بهدوء إلى (لغة الزهور) التي باحت بأسرارها على مرأى منك وسط خضم من النور الإلهي المتسامي, الذي (ملأ الوجود) وانبعث منه (نور على نور) يضيء ليلتك و (ألف ليلة وليلة), وجعلك تسبح في عوالم من الأنس والطرب, وتنسى خليلك الذي ينتظر أوبتك على قارعة الحلم وهو يناديك بصوت ضجر: أين أنت (ياظالمني)؟.. ويخترق النداء حجاب سمعك, تحاول التخلص من أسر عالمك الكلثومي المسحور, تخفق, ويظل صوت صاحبك يلح في طلبك: أين أنت, (يامسهرني)؟, فتشفق عليه من طول النداء, وعلى نفسك من الخروج من فردوسك السحري, وتعده خيراً, وأنت تقول: (أ غداً ألقـــــــــــــــاك), لكنه لا يفتأ يذكرك بوعد سابق, وأن:

)هذه ليلته), وأنت تماطل تحت وطأة حلمك الذي عانق فيه (النواسي) (الخيام), رغم ما بينهما من قرون وأعوام, فيتركك على مضض, وهو يردد: (حسيبك للزمن).


وتنهمك مرة أخرى في عالمك, و(أم كلثوم) كوكب دري يحتوي كوكب الأرض بأنغامها العذبة وحنانها الفياض, وعروبتها الخالصة التي وحدت أبناء أمتك من الماء إلى الماء على صوتها الذي جمع في نبراته كل الأذواق, وحمل بين ذبذباته كل المشاعر, وتذكر وقفتها الشجاعة غب النكسة, وهي تستحث الرجال, وتستنهض هممهم, وتصيح كصاحبة المعتصم: (أروح, لمين) ؟. وتنوح, وتصدح في آن من الألم, والفجيعة, وهي تدخل كل مدن العرب, وترجع أكبر من الحزن, لتضع حصيلة رحلتها في قبضة (جيش العروبة) وتقول: (الله معاك), وتمسح حزن ( ناصــــــر) وهي تهدر كالسيل: (حنكمل المشوار... حنكمل المشوار)... وتتذكر الكثير, والكثير من الحكايات والمواقف التي تختزنها ذاكرتك عن ( أم كلثوم ), وعالمها حتى يخرجك منه, إعلان المذيع عن سماع (نشرة أخبار), فتتلفت عن يمينك, ويسارك بحثاً عن صاحبك فلا تجده, وتنظر إلى ساعة الحائط فتدرك انه (فات الميعاد), فيتحرك إبهامك وسبابتك بطريقة عفوية باتجاه مؤشر المذياع بحثاً عن صوت (أم كلثوم).


القاهرة-منيل الروضة/ 25-2-1999

* مجلة ميادين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى