ب. بابكر علي ديومة - التــرجمة ودورهــا في تعزيز التواصل الثقافي

مقدمة:

إن دور الترجمة في نقل ثقافة ومعارف أمة ما لأخرى ليس بالأمر الحديث، وإنما هي مسألة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ. فإذا ما تمعنا في دراسة الحضارة العربية، على سبيل المثال، نجد أنها أثرت وتأثرت بحضارات شعوب كالفرس والروم واليونان والحبشة، وغيرها. بدأ التلاقح بين الحضارة العربية وتلك الحضارات حتى قبل بداية الدعوة المحمدية، وذلك عن طريق التجارة والأسفار والحروب والتحالفات السياسية بين بعض القبائل العربية المتناحرة، وبين القوى المؤثرة يومئذ كالفرس والروم.

تعاظم دور التقاء الحضارة العربية بغيرها عقب الفتوحات الإسلامية، حيث نهل المسلمون من علم المنطق اليوناني، وعلوم الطب الرومانية، وأسس تنظيم وإدارة الدولة المطبقة ببلاد فارس. كما أخذت الشعوب التي أتينا على ذكرها تعُب بدورها من إسهامات الحضارة العربية الإسلامية.

بيد أن ضرورة نقل المعرفة أصبحت أشد إلحاحاً في يوم الناس هذا. ذلك أن مركز ثِقل التقنية قد انتقل للغرب، وأصبحت شعوب الشرق في مُجملها شعوباً مستهلكة تقريباً. ولأن المُنتج الأجنبي، سوى أن كان سلعة، أو معرفة تقنية، يتطلب لفظاً يُميزه، وشرحاً لكيفية استخدامه، فقد أصبح المصطلح، وهو الذراع العلمي للترجمة، أصبح ضرورة حتمية لا غنى عنه للغة تسعى لتفاعل مُستخدميها مع مُستجدات العصر.

إن نقل ثقافات الأمم، وتحويل ما يصفه البعض بصراع للحضارات إلى تكامل ووئام، يأتي في مقدمة مهام الترجمة. ولن يتأتى هدف كهذا، إلا عن طريق الانفتاح على الآخر. هنا تلعب الترجمة، وبخاصة الأدبية منها، دوراً جوهرياً في تفهم الغير، واحترام تقاليده، وقِيمه، وموروثاته. إذ يُعد العمل الأدبي تلخيصاً لعدة جوانب من حياة المجتمع الذي ينتجه. فإن تمت ترجمته للغة مغايرة، واطلع عليه قراء مجتمع آخر، فلا ريب في أنه سيعمل على توسيع مداركهم، ويخرجهم من دائرة ” الأنا ” الضيقة، لرحاب عالم أكثر انفتاحا.

بيد أنه لا يُمكن القول ببراءة الترجمة ونُبل مقاصدها على الدوام، إذ قد يتخذها البعض وسيلة للتعالي، وتكبير الذات، والعمل على احتقار وتبخيس ما عند الآخرين. هنا تصبح الترجمة حلبة صراع وغزو فكري يسعى للهيمنة، وتصبح الثقافة التي تقدمها مِعولاً يهدف لطمس معالم هوية الغير.

بعض من تعريفات الترجمة:

يتجاوز مفهوم الترجمة النطاق الضيق الذي غالِباً ما يُصنفها به البعض على أنها نشاط يغلب عليه طابع اللغة؛ ذلك أنها ممارسة يومية تتعاطاه جميع مخلوقات الله من إنس وجن وحيوان. يُعبِر الإنسان عن خلجات نفسه، وعما يدور بخلده بأصوات ومفردات يترجمها محدثه، ويخلص من خلالها لمراد المُتحدِث. وقد يلجأ المرء لاستخدام لغة الإشارة التي تقوم أحياناً مقام العبارة، أو لغة العيون، أو أصوات بعينها مُتفق عليها، يُترجمها المُخاطب لمعان محددة. ومن الثابت أن الجن استمع لبعض آي الذكر الحكيم، فترجمه للغته التي لا يعرف ماهيتها سوى الله سبحانه وتعالى، ووصف ما استمع إليه بأنه (قرآن عجبا). وفي ذلك ترجمة من العربية للغة أخرى نجهل كنهها.

1

كما أن الحيوان، بمختلف فصائله، يستخدم الأصوات للتعبير عن الحبور، أو الكدر، أو تنبيه بعضه بعضا، وتحذيره من مكامن الخطر. ذلك أيضاً ضرب من ضروب الترجمة. يشير بسام بركة إلى ما ذهبنا إليه بالقول:

” لا يوجد سوى عالم واحد، وعندما يتكلم المرء عن العناصر التي يتكون منها ذلك العالم؛ فإنه يتكلم بالضبط عن العناصر نفسها مهما كانت اللغة التي يستخدمها. وبذلك يُمكن لهوية الواقع أن تُدرك بصفتها الخاصية الثابتة والمتوفرة للجميع؛ متجاوزة بذلك الفارق بين اللغات. ” 1

تُمثل الترجمة، إذاً، ضرورة تواصلية، قبل أن تكون وسيلة لنقل تراث وخبرات الآخرين، تراث وخبرات ينبغي نقل مضامينها بكل حياد وتجرد، بغض النظر عما إذا كانت تتوافق مع معتقدات المترجم، أو لا تتلاءم مع توجهاته الفكرية والعقائدية. من هنا يمكن القول أن الانفتاح على الغير يُعد من أولى مهام الترجمة. ولعل الخليفة المأمون قد فطن لهذه النقطة الجوهرية حين قام بتأسيس ورعاية (بيت الحكمة) في القرن التاسع الميلادي، بيت تعايشت في جنباته الحضارة العربية في وئام وانسجام مع حضارات ذلكم العصر، الأمر الذي أدى للفهم المشترك، والتبادل المعرفي البناء.

وللترجمة أنواع: فمنها ما يهتم بترقية الذوق الفني الفردي والجماعي، كالترجمة الأدبية التي تفتح نافذة على رؤى وكيفية تفكير وحياة الغير، وموروثه الثقافي كما سبقت الإشارة. كما أنها تعمل على تبصير الآخرين بالمُستحدث من التيارات والمدارس التي قد تكون مجهولة للقراء والمبدعين في لغة مغايرة. وهكذا استفاد الكتاب العرب من نظرائهم الأوربيين في تطوير فني الرواية والمسرح، فنان لم يكونا موجودين، أو على الأقل، لم يكونا متطورين بالقدر الكافي في الأدب العربي حتى لوقت جد قريب. أخذ النقاد العرب من الغرب كذلك أساليب واستراتيجيات البحث في الأدب المُقارن، وقد كانوا يجهلون الكثير من مبادئه. وهنالك الترجمة العلمية التي تهتم بنقل التقنية الحديثة، وفتح آفاق التطور للشعوب المتخلفة في هذا المضمار.

ولئن تأكدت وترسخت أهمية الترجمة على مر العصور؛ فإن أهميتها تزداد اليوم أكثر من أي وقت مضى. ذلك أننا نعيش عصر عولمة تشابكت فيه المصالح، وتفاعلت الأفكار بفعل ثورة معلوماتية لم يسبق لها مثيل. تمخض عن ذلك تطور وانتشار لقنوات التواصل الاجتماعي، مُعلِنة انتهاء عصر القوقعة، ومُبشرة بميلاد صبح جديد يضع حداً لصراع الحضارات، وما يُطلِق عليه البعض ” إدارة التوحش”، بهدف تحويل الصراع إلى حوار، والتوحش إلى ود ووئام.

وعلى الرغم من أن الهدف الرئيس للترجمة هو الانفتاح على الآخرين، فتح قنوات الحوار معهم، إعطاؤهم والأخذ منهم، بيد أنها، أي الترجمة، ليست بريئة على الدوام، سيما حين يتعلق الأمر بنشر التوجهات الفكرية والأيديولوجية، وعند التطرق لقضايا الهوية.

ونبذة عن الثقافة:

تعني الثقافة في أبسط تعريف لها كيفية تعامل الفرد وسلوكه واندماجه في إطار المجموعة التي ينتمي إليها أولاً، ثم سعيه للانفتاح وأخذ الجوانب الإيجابية التي قد تتمتع بها ثقافات مجموعات أخري، بغرض توسيع آفاقه، وإضافة الجديد المفيد لمجتمعه. وبمعنى آخر، ترمز الثقافة لتقبل المرء وتعاطيه الإيجابي، أو حتى السلبي، مع موروث وأخلاقيات مجموعته، ثم الانفتاح على الجوانب البناءة في إرث المجموعات التي قد تختلف عنه عرقياً، أو عقائدياً، أو في فلسفة ونمط الحياة. يحدد تايلور مفهوم الثقافة بالقول:

” إنها ذلك المجموع المُعقد الذي يضم المعارف، والمعتقدات، والفنون، والعادات، والقوانين، والأعراف، وكل تلك القدرات الأخرى، والعادات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً من أعضاء المجتمع.”2

2

ولئن كان المرء في سعي دؤوب ويسعى جاهداً لتطوير لغته والارتقاء بقدراتها في التخاطب، وإذا كانت اللغة تخضع في تطورها ونموها لمتغيرات اجتماعية واقتصادية، محلية وكونية، تغير من مفرداتها زيادة أو نقصاناً على مر الأزمان، فإن الثقافة تتطور كذلك وفقاً للمُعطيات ذاتها، ووفقاً للتغيرات الاجتماعية والسياسية والرؤى الإيديولوجية على نطاق الكون. ومع أن اللغة تُمثل الماعون الناقل للثقافة، بيد أن وحدتها لا تعني بالضرورة وحدة ثقافة جميع من يستخدمها، إذ تلعب القناعات المحلية، والظروف المناخية والمعيشية دوراً رئيساً في تحديد ثقافة كل جماعة، حتى في إطار المجموعة التي تتحدث ذات اللغة. وإذا أخذنا العالم العربي كمثال، لا يستطيع أحد القول بأن الثقافة السائدة في مشرقه، على سبيل المثال، تُعتبر نسخة كربونية لتلك السائدة في مغربه. ذلك أن عوامل عدة منها نوعية الاستعمار ومخلفاته قد تركت بصماتها الجلية في ثقافة إقليمين جغرافيين ينتميان لأمة واحدة، ويتحدثان اللغة ذاتها. صحيح أن العقيدة، وهي إحدى أهم المكونات الثقافية، قد تُقرِب الشقة بين كافة من يعتنقها، لكن لا يُمكن بحال تعميم هذا القول بصفة مُطلقة، سيما حين يتعلق الأمر بشعوب كالشعوب الغربية التي لم تعد العقيدة تُمثل لديها في الغالب الأعم سوى محطة من المحطات التاريخية. هنالك، إذاً، ثقافات محلية، وثقافات وطنية تتأثر بالمؤثرات العالمية في المناهج التعليمية، وفي نُظم وقوانين العمل، وحتى على مستوى تنظيم الأسرة، وأدق خصائص حياتها اليومية.

وإذا تناولنا مثالاً آخر، نجد أن اللغة الإنكليزية تُستخدم في إنجلترا، وفي أستراليا، وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وفي جل الأراضي الكندية. بيد أن ذلك لا يعني توافقاً وانسجاماً تامين بين ثقافات تلك البلدان. كما تُستخدم اللغة الفرنسية، إضافة لفرنسا، في جل أقطار غرب أفريقيا، وفي بعض أجزاء من الأراضي الكندية، ولا يعني ذلك كذلك تطابقاً في ثقافات البلاد التي أتينا على ذكرها. يقول دوغلاس في ذلك:

” هل يُشاطِر من يتحدث الإنكليزية في يومنا هذا شكسبيراً في ثقافته؟

هل يشترك من يتحدثون الإنكليزية من الأمريكيين والأستراليين والهنود في ثقافة واحدة؟ ربما كان ذلك هدف المُستعمر الإنكليزي:

دعونا نفرض لغة واحدة على مستعمراتنا للتوحيد بين ثقافاتهم. لكن، هل نجح هذا الأمر؟ أين تذهب المكونات الثقافية، والمرجعيات التاريخية، الأمثال، المُزح الخفية، والمرامي التي نجهلها والكامنة في آلاف النصوص التي نعتقد أنها ليست أهلاً للترجمة؟ ” 3

زد على ذلك أن الثقافة، وهي إحدى أهم دعائم الحضارة، ليست موحدة حتى في إطار المجموعة الواحدة. إذ يتباين سلوك الرجال عن سلوك النساء، ويتباين سلوك الشيوخ عن سلوك الصبية، سيما في الوقت الراهن الذي أخذ فيه النشء يعتمدون على الثقافات التي تقدمها لهم شبكات التواصل، عِوضاً عن الأخذ بخبرات الآباء والأجداد كما كان الحال سابقا، الأمر الذي خلق هوة بين الأجيال، وصعوبة في التفاهم المشترك حتى على مستوى الأسرة الواحدة. ينبغي كذلك عدم التقليل من آثار رواسب الماضي كالجفوة بين الأعراق، والانتماءات الدينية، والفوارق بين الطبقات العليا والدنيا في المجتمع، كما يتوجب عدم تجاهل الهوة بين تفكير المتسامحين والمتشددين، بين الأغلبية والأقليات، بين دول الشمال الثرية، ودول الجنوب التي يعيش جُلها في فقر مدقع.

3

يلعب كل ذلك دوراً محورياً في الاختلافات الثقافية والرؤى الفكرية، حتى في أوساط من يعيشون في مجموعة واحدة مهما قل عدد أفرادها، و إن كانوا يتحدثون ذات اللغة. خلاصة القول أنه لا يُمكن بحال التحدث عن الثقافة وكأنها كُل مُوحد يؤدي للتفاهم بين كافة بني البشر، وإطار ينضوي تحت لوائه الناس أجمعين. ذلك ما يعنيه دوغلاس بالقول:

” إن القول بعالمية الثقافة، ما هو سوى وهم تطرحه الثقافات المُهيمنة (الكنيسة، الاستعمار، الرأسمالية) في مسعى منها لترويض أصحاب الثقافات الخاضعة، وإجبارهم على اتباع أوضاع مركزية: كونوا مثلنا وستكونون متمدنين، مثقفين، واعين، أذكياء. كونوا كما نحن، وسيُنظر إليكم كأناس بحق، كجزء من ” الأخوة الانسانية” 4

تعاطي الترجمة مع الفعل الثقافي

بما أن أكثرية النصوص المكتوبة بمختلف اللغات لا تجد طريقها للترجمة، يمكن القول أنها تحتوي على معطيات ثقافية مجهولة، أو لنقل في حالة ركود. هناك أيضاً ثقافات محلية بحتة تُمارسها بعض المجتمعات وتنظر إليها مجتمعات أخرى باستغراب، حتى لكأنها تُمارس في كوكب آخر. مثال ذلك الفولكلور، والأمثال، وطقوس الزواج والموت، واستقبال المواليد. إذ لا تُماثِل العرضة السعودية، لا في كيفيتها، ولافي مضامينها إحتفاء الأوربي بعيد حصاد العِنب. ولا يُماثل حِداء الطوارق وهم على ظهور الإبل يجوبون الصحارى، أهازيج البحارة وهم على متن البواخر يمخرون عباب البحار. وليست القيمة الفعلية للبقرة، وتعامل قبيلة الماساي الكينية معها، تُطابق تلك التي يحملها لها رعاة البقر في الغرب الأوسط الأمريكي. ذلك ما يُدعِم ما ذكره دوغلاس من حيث عدم مقدرتنا على الالمام بالأبعاد الحقيقية والشاملة لثقافات كل الأمم والشعوب، والادعاء، وفقاً لذلك، بوجود ثقافة كونية تُعبِر عن الجميع.

من المعلوم أن الاستعمار ارتكز على فلسفة جوهرية مؤداها ضرورة هيمنة ثقافته على ثقافات الشعوب الأخرى، إذ أنه يرى في ذلك خلاصاً لتلك الشعوب من وهدة التخلف الذي تعيش. أعقب جلاء المستعمر احتلال من نوع آخر تمثل في ظاهرة العولمة التي استبدلت فوهات البنادق بالتقنية وغزو الأفكار، ومحاولة طمس هوية الغير، وتذويبها في محيط ثقافي جديد تكون فيه الغلبة لثقافة الغرب المُهيمنة بسبب ما تتمتع به من تفوق مادي وتقني وسياسي وعسكري، وبسبب امتلاكها للمواعين الإعلامية التي تستطيع عبرها الترويج لأفكارها، وغرسها في عقول أصحاب الثقافات الخاضعة. لذا، فليس من المُستغرب أن يرى الكثيرون في العولمة استعماراً حديثاً.

ولئن كانت الهوية تعبر عن انسجام الفرد أولاً في المجموعة التي ينتمي إليها، أو الابتعاد عنها ومجافاتها بفعل قناعاته الشخصية، فإن الفرد هو من يُحدد اليوم هويته بعيداً عن أية قوانين يضعها المجتمع. ولما كانت اللغة، وبالتالي الترجمة، تلعب دوراً رئيساً في تحديد الهوية، باعتبارها أداة التواصل واستيعاب ثقافة العولمة، فقد أصبحت الترجمة وسيلة من وسائل تحوير الهوية، سلباً، أو إيجابا. يقول مارسيل غوشيه في هذا المعنى:

” أصبحت الهوية اليوم داخل الفرد وليست خارجه… إن الاختلافات التي توجد في ذاتك، وبين ذاتك وذات الآخر، هي ما يتيح لك الدخول في المجال العام، وأن تتبوأ مكانك فيه. فالواقع أنه لم يعد على المجال العام أن يفرض حقيقته المجردة باسم المقاصد العامة التي من المفترض أن يكون حصنها الحصين. وهو لم يعد أن يتكون، قانوناً، إلا عن طريق إشهار التمايزات الخاصة”

4

وهكذا أصبح الفرد وحيداً، دونما سند، أو قيم اجتماعية راسخة تدعمه في مواجهة سيل من الأفكار الوافدة التي يختلط فيها الصالح بالطالح، والمفيد بالغث. ومن الثابت أن الأفكار التي تبثها العولمة تجد الرواج والقبول وسط المجتمعات الهشة التي تفتقر للأصالة والقِيم المتوارثة والثابتة، أكثر مما تجده وسط المجموعات المعتدة بماضيها، وما ترسخ عندها من إرث حضاري.

وفي عصر العولمة الماثل اليوم، لا تتم ترجمة النصوص جُزافاً، إذ تقف وراء اختيارها معايير عدة من أهمها مضامينها الأيديولوجية، وتفانيها في ذيوع وخدمة الأفكار التي تود الثقافة المهيمنة نشرها. فالنصوص التي تتم ترجمتها هي تلك التي يتبرع مؤلفوها، سواء أن كانوا من أفراد المجموعات المُستهدفة بالتغيير نفسها، أو من كُتاب الثقافة الوافِدة، يتبرعون بالهجوم والنيل مما ألفه مجتمع ما من عادات وتقاليد ومعتقدات. يتذرع كُتاب المجتمعات المُستهدفة بأنهم يقومون بالتشكيك فيما يجري في مجتمعاتهم من نظم اجتماعية ودينية وطقوس محلية بسبب أنها لا تتماشى مع روح العصر. ثم أنهم يجتهدون في أن تكون مضامين أعمالهم متوافقة مع ما هو مألوف في الغرب، وأن تُقلِد حتى التراكيب والأنماط اللغوية المُستخدمة فيه. ولعل الهدف من ذلك كله ضمان ترجمة أعمالهم ونشرها على نِطاق واسع، ما يعني ذيوع الصيت والشهرة العالمية. وعلى الرغم من اجتهاد كُتاب ومثقفي الحضارات المُستهدفة في تبني الأنماط اللغوية، والاهتمام بالأُطر الفكرية لحضارة الغرب، إلا أن هذه الأخيرة غالِباً ما تصف أساليبهم ومضامين كتاباتهم بالحوشي الغريب. أما المؤلفون الذين ينتمون لثقافة الغرب، فيرون في مسعاهم الهادف لتغيير نمط وأسلوب حياة أصحاب حضارات وثقافات العالم الثالث، وأساليب تفكيرهم، يرون في ذلك واجباً إنسانياً هدفه إخراج هؤلاء “المتخلفين” من قوقعتهم وانكفائهم على ذواتهم، ودمجهم في حضارة الغرب المتطورة كما سبقت الإشارة.

لذا، لم يعد بوسع المترجم في عالم اليوم الانخراط في ترجمة أعمال لا تحظى بالقبول لدى مخططي سياسات واستراتيجيات العولمة، والدول المهيمنة التي تدعمهم. ذلك أنه، أي المترجم، يسعى في المقام الأول لكسب رزقه، لذا يتوجب عليه الانصياع لرغبات من يدفع له، ولرغبات دور النشر التي تقرر طبع ما يُترجم وفقاً لما يُتوقع له من عائد مادي. لم يتبق للمترجم، إذاً، هامش من حرية في اختيار ما يُترجم. إذ يجد نفسه مضطراً حتى لترجمة نصوص تتعارض مع مبادئه، ومع ما يؤمن به ويعتقد. والواقع أن ظاهرة خضوع المترجم لتلبية رغبات من يدفع له ليست بالأمر الجديد، كما أنها ليست من ابتكارات عصر العولمة، وإنما تعود لأزمان سحيقة. ففي العصر العباسي، على سبيل المثال، كان المترجم يتقاضى وزن ما يُترجمه ذهبا. ولا يمكن الادعاء بامتلاك المترجمين يومئذ لحرية كاملة تتيح لهم ترجمة ما يشاءون. فأغلب الظن أنهم كانوا محكومين بالبقاء داخل الأُطر السياسية والفكرية التي يحددها من كان يدفع حينها.

تطور أساليب الترجمة في عصر العولمة

لم تعد الترجمة في عصر العولمة ذلك النشاط التقليدي الذي يعتمد على القواميس، ودوائر المعارف، وما إلى ذلك من مُعِينات؛ وإنما تطورت أساليبها، شأنها في ذلك شأن الكثير من المِهن والأنشطة التي تأثرت أيما تأثير بثورة المعلوماتية. ويرجع تغير شكل الترجمة في معتقدنا لعاملين اثنين: أولهما العزوف المطرد للقراء عما هو مكتوب، وميلهم المتنامي للمرئي. وإذا كان المثل الشائع يقول: (ليس من رأى، كمن سمع، فأغلب الظن أن ذلك ينطبق على الترجمة من حيث أن (ليس من رأى، كمن قرأ). هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فقد أخذ الناس يفضلون مشاهدة الأفلام الوثائقية التي تنقلهم لشتى أرجاء المعمورة، وتُطلعهم على أدق تفاصيل حياة الآخرين، ومعالم حضارتهم، ومُكونات ثقافتهم، وهم في عقر دورهم لا يغادرونها قيد أُنملة.

5

ثم لأن المُشاهدة سهلة هينة، إذا ما قيست بالقراءة. فهي أكثر متعة، وأشد رسوخاً في الذاكرة من سطور قد يطوها النسيان حال الفراغ من قراءتها. ظهر، إذاً، ضرب جديد من ضروب الترجمة أكثر انتشاراً، وأشد تأثيراً يُمكن أن نطلق عليه (ترجمة الصورة)، إن جاز لنا التعبير. آثار جمة ترتبت على هذا التطور النوعي، إذ أصبحت الثقافة اليوم في متناول يد الجميع، ولم تعد حِكراً على طائفة المثقفين، أو أولئك الذين يتحدثون اللغات الأجنبية. إذ أصبح بمقدور الشخص البسيط الآن، ومهما بلغت ضحالة ثقافته، أصبح باستطاعته مشاهدة والاطلاع على الأسرار الكامنة تحت حِجارة أهرامات الجيزة، معرفة تاريخ حدائق بابل المعلقة، وفلسفة النضال السلمي للمهاتما غاندي، وأسباب اندلاع الحروب الكونية، والمآسي التي ترتبت عليها. وباختصار، فإن العولمة وما صاحبها من قنوات تواصل اجتماعي، نقلت الثقافة من الدوائر المُغلقة، وجعلتها في مُتناول يد العامة. تلك ولاريب إحدى محاسن التطور الذي جعل من العالم قرية صغيرة، كما يحلو القول للبعض. ولئن كان للعولمة وثورة الاتصالات جوانبها الايجابية في مجال التواصل الثقافي؛ فإنها لا تخلو، بطبيعة الحال، من عدة جوانب سلبية لعل من أهمها تشكيك المجتمعات، وبخاصة مجتمعات العالم الثالث، في إرثها وتقاليدها. لم تكن تلك المجتمعات تطرح الكثير من الأسئلة في الماضي بسبب أنها لم تعرف سوى الأنموذج الأوحد لعالمها المحدود الذي ورثته أباً عن جد، أما اليوم، فقد أخذت تُقارن بين حالها، وحال الآخرين، بين ما تمتلك، وما يمتلكه الغير. ولأن المرء يسعى دوماً للأفضل، فغالِباً ما تقود تلك المقارنات إلى حالات تفكك وتململ، بل قد يصل الأمر لدرجة التمرد، ليس فقط في مُكونات المجتمع الواحد، وإنما حتى في إطار الأسرة الواحدة. والواقع أن تلك المقارنات لا تؤدي دوماً للتنافس الشريف الذي يهدف للارتقاء لمصاف الآخر بالتصميم والعمل الجاد، وإنما تتسم في جل الأحيان بالحسد والعداء والكيد، وما يصاحبها من قلاقِل داخلية، ونزاعات إقليمية، بل وحتى صِدامات دولية. ولا يقتصر أثر تلك المقارنات على مجال الأفكار والقِيم الحضارية والأُطر الثقافية فحسب، وإنما يتعداه لأخص خصائص الإنسان في المأكل والمشرب والمسكن والملبس، وحتى في كيفية تصفيف الشعر! ولأن الاستهلاك هو السِمة المميزة للحضارة الغربية؛ فإن عدواه وانعكاساته ما لبثت أن انتقلت للشعوب المُستهدفة. نتج عن ذلك اختلال في الموازين الاقتصادية، وجشع، وتكالب على الموارد المحدودة، وما يستتبع ذلك من صراعات فئوية، وفساد، ومحاولات لا تنتهي من البعض بقصد الثراء السريع والمشبوه. إضافة لتخريب البيئة بمخلفات منتجات، بعضها تالف وجلها غير ضروري، تُغرِق بها مجتمعات الغرب الاستهلاكية أسواق العالم الثالث. ولعل ذلك ما يُفسِر لنا جزئياً أسباب الهجرات غير المبررة في الكثير من الأحايين التي يقوم بها سكان الريف للمدن تاركين حِرفهم الرئيسة المنتجة، لاهثين وراء سراب الحضر بعد أن صورته لهم وسائل البث المرئية على أنه جنة الله في الأرض.

ومثلما تتميز الترجمة التقليدية بعدم البراءة كما سبقت الإشارة؛ فإن رصيفتها الحديثة، أي ترجمة الصورة، لا تتسم بالنزاهة هي الأخرى، بل أنها لأشد شراسة من سابقتها، سيما فيما يتعلق بمخاطبة النشء. فقد فطنت العولمة إلى أن هؤلاء الأخيرين هم التربة الخصبة التي ينبغي التعويل عليها في نشر مبادى الحداثة، وغرس تعاليم حضارة وثقافة الغرب في وسط مجتمعاتهم التي غالباً ما توصف بـ (المُتخلفة) عن ركب الحضارة.

تعتمد ثقافة العولمة أولاً على التراجم المُصاحِبة للإنتاج السينمائي من أفلام مدبلجة وأفلام للأطفال في نشر رسالتها التي تهدف لتغريب مُشاهدي الثقافات المُستهدفة عن واقعهم وحضارتهم. تلعب تلك التراجم دور المُخدِر الذي يسري في الشرايين، ويفعل فعله بتؤدة وتأن، دون أن يفطن له المُشاهد. أضف إلى ذلك المضامين التي تشتمل عليها تلك الأفلام والأعمال الدرامية التي يظهر فيها البطل الغربي، إن لم نقل الأبيض، مُجسِداً للرأفة والرحمة والوقوف بجانب الحق. إنه دوماً نصير الضعفاء، والمُدافِع عن حقوق البشر.

6

ففي الأعمال التي تصور القسوة التي تتعرض لها بعض شعوب العالم الثالث على أيدي بني جلدتها، والفظائع التي تُرتكب بحقهم، يكون الأبيض هو المنقذ لمن يتعرض للتعذيب والتقتيل. وينسى مُخرج العمل الدرامي، بل يتناسى عن عمد في واقع الأمر، أن السلاح الذي يُعذِب ويقتل، إنما هو إنتاج خالص لثقافة مجتمعه! حتى أفلام ” توم وجيري”، سيما تلك التي تُنتجها الثقافة المُهيمنة، والتي يغرم صِغار السن بمشاهدتها، ليست بريئة هي الأخرى لمن يتأملها عن كثب، ويحلل أهدافها ومضامينها الفكرية. إذ يتحلى فيها كل من القط والفأر بالخِدعة والمُراوغة ومفاهيم بعينها تود ثقافة العولمة غرسها في مخيلة الصِغار.

تعمل المجتمعات التي تتعرض للغزو الثقافي ما في وسعها لصد الهجمة الشرسة التي تتعرض لها ثقافاتها من جِهة، ونقل موروثها الحضاري للغرب من جِهة أخرى. هنا أيضاً لا يتم اختيار الأعمال التي تُترجم عشوائياً، وإنما تُختار تلك التي تدل على امتلاك شعوبها لثقافة أصيلة، وعقائد راسخة، وطول باع في الإبداع. وقد تذهب أبعد من ذلك، فتفتخر بفضل ما قدمته للغرب من عطاء ساهم في تقدمه وتفوقه في شتى فنون المعرفة. بيد أنها، أي ثقافات العالم الثالث، غالباً ما تتخذ موقف المُدافِع أمام ما يستهدِفها من غزو ثقافي. ذلك أنه لا تتوفر لديها الإمكانات المادية، ولا القدرات الإعلامية اللازمة التي تتيح لها مقارعة هجمة الثقافات الوافدة. كما أنه ليس بوسعها إغلاق الفضاءات التي تبث أفكار الثقافة المُغايرة. بيد أن شُح الإمكانات ينبغي ألا يحمل أصحاب الثقافات المُستهدفة للوقوف موقف المُتفرج. ينبغي عليهم، بدءاً، عدم الادعاء بصلاحية وملاءمة كل ما تحمله ثقافاتهم، ورداءة وغرابة كل ما تطرحه ثقافات الآخرين. لذا، يتوجب عليهم العمل على التمحيص فيما يردهم من خارج الحدود، وأن يأخذوا بالصالح منه، مع العمل على تقوية مناهجهم الدراسية، وبرامج توعيتهم الاجتماعية لرفض الطالح، والتفنيد العلمي المُقنع لمثالب ما لا يتفق مع توجهاتهم الحضارية. ذلك أن الحفاظ على الأصالة، والتشبث بالقيم الحضارية، لا يتم بالمكابرة والعِناد، ولا بالقوانين والتشريعات؛ وإنما باقتناع أفرد المجتمع بما يلائمهم، ويتوافق مع متطلبات عصرهم.

الثقافة وإشكالية المصطلح:

لا نعني بالمُصطلح المُسميات التي يُطلقها المُصنِعون على مُنتجاتِهم، على الرغم من أن بعضها يحمل مدلولات ذات صبغة ثقافية تُميز المجتمعات التي تُنتجها. والواقع أن لهذه الأخيرة الحق في إعطاء ما تشاء من مسميات وأوصاف على مُنتجاتها، كما أن للمُستهلك ذات الحق في قبول السلعة بالاسم الذي وردت به، أو القيام بتحريف وتغيير المُسمى حسبما يروق له، ووفقاً لقواعد الصرف التي تحكم لغته. فقد جاءت لفظة ” الكومبيوتر” على سبيل المثال، قبل أن تُستبدل في العالم العربي بــ ” الحاسوب”، وظهرت ” الإنترنت”، قبل أن يُطلق عليها ” الشبكة العنكبوتية”. وعلى الرغم من أن الاسم الذي يأتي به المُنتج من المصدر هو الذي تكون له الغلبة ويجري على الألسن لعدة أسباب ليس هنا مجال الخوض فيها، إلا أن المسميات الأجنبية لا يُمكن إلا أن تكون إثراء للذخيرة اللغوية للغة المُستهلِك.

إن ما نعنيه بــ ” المصطلح”، لهو الوقوف عند التعابير ذات الطابع الفكري التي تُروج لها الثقافات المُهيمنة وتُقنِع بها مجتمعاتها أولاً، قبل القيام بتصديرها للغير، وكأنها حقائق ثابتة، وأمور مفروغ من صِحتها. وتكمن الاشكالية في أن جل مثقفي المجتمعات التي تتلقى مثل تلك المصطلحات، كما وسائل الإعلام فيها، تأخذ في تكرارها بصورة ببغاوية، دون التعمق في فهم أهدافها، وفحص مراميها الحقيقية. من تلك المصطلحات ” خارطة الطريق”، التي أصبحت تُشنِف الآذان صباح مساء. عمت وسادت في أحاديث العامة، حتى وإن كان أحدهم يخطط لابتناء دار. استُخدِم هذا المصطلح للمرة الأولى من قِبل القوى الفاعلة في المجتمع الدولي في مسعى منها لإيجاد حل للقضية الفلسطينية.

7

ومعلوم أن فكرة ” الطريق” تعني السير في اتجاه مستقيم غير ذي تعرجات، أما الخارطة فترمز بداهة للمنعرجات والانعطافات و”اللف والدوران”، كما نقول في العامية. صحيح أن للطريق علامات، إذ قد تعلوه الجسور، وقد يعبر مدناً وقرى وحقول تقع على جانبيه يمنة ويسرى، بيد أنه يسير في خط مستقيم، خلافاً للخارطة التي تتميز بالتداخل والانعطافات. ويبدو أنه كان في نية واضعي هذا المصطلح منذ البدء أن تكون المسائل معقدة، شائكة، متداخلة، تحاكي الخارطة في تعرجها وانحناءتها، ولا تفضي سوى إلى طريق مسدود!

كما تُعطي بعض المصطلحات السائدة في الغرب عبئاً في المعنى إن جاز لنا التعبير، ومضامين غير موجودة أصلاً في لغات المجتمعات التي تتعرض للغزو الثقافي. ونظراً للحيز المحدود لهذا البحث، سنكتفي بإعطاء مثال واحد في هذا المجال يتعلق بلفظ “العنصرية”، والمعاني التي تحملها في اللغتين العربية والفرنسية. فلئن كانت اللفظة مشتقة في العربية من ” العنصر “، أو الصنف، وتعني غالِباً التمييز بين النوع من ذكر وأنثى، فإن لها في الفرنسية معنى آخر يتمثل في التفرقة بين الأجناس استناداً على العرق واللون والجنس والمعتقدات. صحيح أن اللفظة كانت تحمل بعض هذه المعاني في حِقبة ما قبل الإسلام، حيث كانت ظاهرة العبيد والإماء ظاهرة مألوفة. بيد أن كل ذلك لم يلبث أن تضاءل بسبب الهدي القرآني، وبسبب السنة النبوية القائلة ” لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى”، وتساؤل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب المأثور:” متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ “. صحيح كذلك أنه ما تزال هناك بعض الفئات في المجتمعات العربية والإسلامية التي لم تتخلص بعد من مفهوم التفرقة العرقية والعنصرية سواء في أذهانها، أو من حيث ممارساتها الفِعلية، شأنها في ذلك شأن الكثيرين ممن ينظر للغريب بتوجس، وبدونية أحياناً. ولئن كان مُصطلح ” العنصر ” يرمز في العربية للنوع كما ذكرنا، فإنه يحمل في اللغة الفرنسية معان لا لبس فيها ولاغموض، معان تُفرِق بين الأبيض والأسود، وبين مُعتنق هذه الديانة وتلك، فانتقل المصطلح بفعل الغزو الثقافي ليدخل في اللغة العربية، وليأخذ نفس المعني الذي تستخدمه اللغة الفرنسية. تناول البرفسور صالح العنزي ما ذهبنا إليه بالقول:

” كلما ازدادت مشاعر البغض عند شعب ما تجاه شعب آخر أو جنس آخر كلما تنوعت وتعددت هذه المصطلحات المعبرة عن العنصرية، بل كلما كان تطور هذه المصطلحات مدهشاً. ففي هذه الحالة تكون بعض المفردات مرغمة على تحمل عبء دلالي إضافي … إذا كان هناك بعض التشابه بين المفاهيم الدلالية في العربية وفي الفرنسية، فالتطابق ما بين اللغتين في مجال التعبير عن العنصرية غير متاح لعدم تطور مفاهيم العنصرية في الثقافة والحضارة العربية كما هو الحال في ثقافة وحضارة اللغة الفرنسية.”6

8

الخلاصة:

تطرقنا لدور الترجمة كأداة تواصل من حيث كونها وسيلة نقل لحضارات وثقافات الأمم والشعوب التي تتحدث لغات مختلفة بغرض خلق روح وئام وتوافق بينها، بدلاً عن الصراع والصدام. تعرضنا في هذا السياق لضروب الترجمة المختلفة، مثل الترجمة الأدبية التي تُعتبر تلخيصاً لعادات وتقاليد ونمط حياة المجموعة محور العمل الأدبي، وكيف أن الاطلاع على تجارب الغير من خلال ذلك الإبداع لا بدَ أن يُسهم في ترقية الذوق الفني، ويعمل على توسيع مدارك قراء اللغات الأخرى، واطلاعهم على أنماط في الكتابة قد لا تكون معروفة في مجتمعاتهم. ثم دلفنا نحو الترجمة العلمية التي تحتاجها شعوب الأرض كافة من حيث ارتباط العالم ببعضه البعض، ومن حيث أن الطفرة الهائلة التي شهدها، وما يزال يشهدها التقدم التقني، تستوجب أخذ البلدان النامية من المعرفة المتراكمة لدى البلاد التي سبقتها في مضمار التطور. أشرنا كذلك إلى التغيير الجوهري الذي طرأ على الترجمة، إذ تطورت من شكلها الورقي التقليدي، لتضيف إليه الصورة المرئية، ذلك أن الثقافة المُهيمنة لم تكتف بترجمة الأعمال المكتوبة التي تُروج لتفوقها؛ وإنما أخذت في الاستعانة بآليات أخرى أكثر نجاعة مثل السينما والمسرح، وحقن جرعها الثقافية من خِلال الأعمال الدرامية. أدى ذلك لشيوع الثقافة واختراقها للحدود، وتمكين الفرد العادي ذي المعارف المتواضعة، والذي قد لا يجيد لغات أجنبية، تمكينه من الإلمام بمعطيات ثقافية لم تكن في متناول يده حتى إلى وقت قريب.

تناول البحث كذلك عدم براءة الترجمة. فلئن كانت المجتمعات ذات الثقافة المُهيمنة، ونعني بها المجتمعات الغربية على وجه التحديد، تسعى لنشر وذيوع أفكارها، وحمل الآخرين على تبني نمط حياتها، فإن الشعوب التي تتعرض لهذا الغزو الثقافي لا تدخر جهداً في سبيل الحفاظ على كينونتها وأصالتها. هنا، يقوم كل فريق بترجمة النصوص التي تخدم أهدافه.

ذكرنا أن هدف الترجمة هو تهيئة التواصل الثقافي الذي يُعرِف الأمم والشعوب بعضها ببعض، مع الحرص على احترام هوية وخصوصية كل أمة. بيد أن العولمة جاءت بفلسفة مُغايرة تتلخص في محو الفواصل بين الثقافات المتعددة لبني البشر، وترسيخ نمط كوني لثقافة غالباً ما تتسم بالاستعلائية وتكون الغلبة فيها بالضرورة، وبحكم طبيعة الأشياء لثقافة الغرب التي تدعمها موارد اقتصادية هائلة، وقوة عسكرية ضاربة، وتفوق إعلامي لا تحده حدود. لذا اقترح البحث بعض الخطوات التي من شأنها تمكين الأمم والشعوب ذات الثقافات المُستهدفة من الوقوف أمام الغزو الثقافي الذي تفرضه العولمة، حِفاظاً على هويتها وتراثها.

تعرضنا أخيراً لنقطة جوهرية، ألا وهي الاستخدام الأعمى من قِبل مُثقفي ووسائل إعلام المجتمعات المُستهدفة لبعض المصطلحات المُغرِضة، أو تلك التي لا تحمل ذات المعاني في لغاتهم، وهي مصطلحات تبثها ثقافة العولمة عن قصد، وتسعى من ورائها لتمرير أفكار ورؤى تدخل في إطار غزوها الثقافي.

كان بوسعنا الإفاضة في هذا البحث لولا أننا رأينا في ذلك ابتعاداً عن مجال الترجمة، والانخراط في دراسة اجتماعية. ذلك أن دراسة العلاقة بين الترجمة والثقافة تدخل في إطار الدراسات البينية التي لا بد أن تضطر الباحث للخوض في ميادين، وإن لم تكن متباعدة، إلا أن لكل منها خصائصها وأُطرها.


* بروفيسور بابكر علي ديومة / أستاذ النقد الأدبي والترجمة / كلية اللغات والترجمة / جامعة الملك سعود


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثبت المراجع:

(أ) مراجع وردت في متن البحث:

(1) بركة، بسام ــ الترجمة إلى العربية: دورها في تعزيز الثقافة وبناء الهوية، مجلة تبين، العدد الأول المركز العربي للأبحاث، 2012م، ص 80.
(2) -Tylor (E. B.) — Revue française de science politique, No 5, 1975, P946
(3)Robinson (Douglas )—Becoming a Translator, Routledge, London, 1977,P226
4)Ibid. P229
(5) غوشيه، مارسيل ـــ الدَين في الديمقراطية، ترجمة شفيق محسن، بيروت، 2007م ص 113.
(6) العنزي، صالح ـــ قراءات في البعد الثقافي للمصطلح الأجنبي، ترجمان، المجلد 17، العدد 2، أكتوبر 2008م ، صص 35/ 36.


(ب) مراجع بالعربية:

ـــ زيتوني، لطيف ـــ حركة الترجمة في عصر النهضة، دار النهار، بيروت، 1994م.
ـــ الترجمة: ما لها، وما عليها، الفيصل، عدد239، 1996م.
ـــ بن عبد العالي، عبد السلام ـــ الترجمة أداة للتحديث، مجلة فكر ونقد، أبريل 2006 م.
ـــ الحلاق، محمد راتب ــــ العولمة . . . وسؤال الهوية، مجلة الفكر السياسي، 1998م.
ـــ برقاوي، أحمد ـــ الأساس القومي للأمن الثقافي العربي، مجلة الفكر السياسي، 2000م.
ـــ ديومة، بابكر علي ـــ النص الأدبي والمذاهب الترجمية، مجلة جامعة الملك سعود، 2005م.
ـــ ديومة، بابكر علي ـــ الترجمة من العربية وبالعكس. . . الواقع والطموحات، مجلة كلية اللغات والترجمة، جامعة الملك سعود، 2006م


(ج) مراجع بالفرنسية:

Bonnard (A.) —- Inédits Politiques, Paris, Avalon, 1987.
Herbulot (F. )— Le Traducteur déchiré, Paris, Minard , 1990
Hurtado (A.) —- La notion de fidélité en traduction, Paris , Didier, 1990.
François (G.) ,Michel (W.)—-La traduction littéraire, Paris, Hachette, 1997.
Pergnier (M.) —Les Fondements Sociologiques de la traduction, Paris, Champion, 1976.


(د) مراجع بالإنكليزية:

Baker(M.)— Translation and Conflict, Routledge, 2006.
Barry (P.) —-and Introduction to literary and cultural theory, Manchester, 1995.
Bielsa (E.) — Globalization and Translation, SCGR,2005.
Hung (E.) — Translation and Cultural changes, Benjamin, 2005.
Jacquemond (R.) — Translation and Cultural hegemony, Routledge, 1992.
Pym (A.) — Globalization and the Politics of Translation Studies, Meta, 2006.
Wilss (W.) – Towards a multi-facet concept of translation behavior, Meta,1989.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى