فاروق شوشة - من طه حسين إلى نجيب محفوظ

اثنان - فى تاريخ الثقافة المصرية والعربية - لن تنفد الكتابة عنهما، ولن يتوقف الاهتمام بهما، ولن تغيب عنهما شمس السطوع والتألق على مدار حركة التاريخ، هما طه حسين ونجيب محفوظ.


أولهما: ابن القرية المصرية - بكل تراكماتها الاجتماعية ومعاناتها الحياتية التى جعلت منه رائدًا للتنوير والفكر الشجاع، وثانيهما: ابن الحارة القاهرية - بكل موروثاتها الشعبية ونماذجها الإنسانية - التى دفعت به إلى أفق العالمية الرحب. جمعت بينهما أرومة الأدب والثقافة والفكر، كما جمع بينهما التعبير الفريد عن مصر: تاريخًا وشخصيةً وثقافةً وحضارة. لكل منهما أسلوبه المتفرِّد، وخطابه الأدبى والإبداعى المتميِّز المتكئ على ثقافة عربية أصيلة، والمنفتح على روح العصر ووعى المستقبل. لكنهما - وإن اختلفا فى أسلوب هذا الخطاب - يضيفان إلى عبقرية العربية فى القرن العشرين صفحات من أجمل ما يمتلئ به ديوانها الثرى الحافل.

مناسبة هذا الكلام أمران؛ أولهما: صدور طبعة جديدة من كتاب بالغ الجمال والإمتاع عنوانه »طه حسين: جدل الفكر والسياسة« للكاتب والمؤرخ الدكتور أحمد زكريا الشِّلق أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر فى جامعة عين شمس، فى مناسبة الذكرى الأربعين لرحيل طه حسين، صدرت طبعته الأولى عام 2008 عن المجلس الأعلى للثقافة، مُجدِّدًا بذلك حديث الذكرى عن الرائد والمعلم الذى يقول عنه فى كتابه: طه حسين، تلك الشخصية التى يصعب الحكم عليها بتلك البساطة، ذلك أننا أمام شخصية تاريخية مركّبة، شخصية نضالية عنيدة، ذات رسالة وفكر وسلوك، تمتلك رؤية وتقديرًا لحكم التاريخ. عاش حياة ثرية حافلة ملأت الأسماع والأبصار، وامتد به الأجل أربعة وثمانين عامًا ( 1889 - 1973)، ليتحدث بيأس ومرارة فى عامه الأخير، إلى غالى شكري، قائلاً: »إن البلد لا يزال متخلفًا وفقيرًا ومريضًا وجاهلاً، نسبة الأميين كما هي، ونسبة المثقفين تتناقص بسرعة تدعو إلى الانزعاج، يخيل إليَّ أن ما كافحنا من أجله، هو نفسه ما زال محتاجًا إلى كفاحكم وكفاح الأجيال المقبلة بعدكم، أودعكم بكثير من الألم وقليل من الأمل«.

أما الأمر الثاني: فيتمثل فى بعض الكتابات التى استدعتها ذكرى ميلاد نجيب محفوظ، وكيف أن ميلاده - شأنه شأن ميلاد العباقرة فى كل زمان ومكان - هو بمثابة بعث لجوهر هذه الأمة، وكشف عن معدنها النفيس، ومذخورها الحضارى الباذخ، وتأكيد لعبقرية اللغة العربية على قلمه - كاتبًا ومبدعًا روائيًّا - وبه تحققت عالمية هذا الإبداع، واحترام لغته بين سائر اللغات.

كتاب الدكتور أحمد زكريا الشلق عن طه حسين، يعيدنى إلى لحظة الدهشة الأولى حين قادتنى المصادفة فى زقاق القرية للاستماع إلى صوت قادم من راديو المقهى فى التاسعة والربع مساءً، هادئًا، متدفقًا، عميقًا، مؤثرًا، واضح النبرات، مفعمًا بلمسة السحر التى تشعل شيئًا غامضًا لدى المستمع. كنت فى سن الحادية عشرة وكان هذا صوت طه حسين فى حديث السهرة الإذاعى الذى يقدمه كل أربعاء. لا أذكر ما سمعته، ولا شيئًا من أفكاره ومعانيه، لكن تلك الموسيقى التى يجسّدها هذا الأداء الفريد فى نطق اللغة، وهذا التنغيم الذى يصدر عن حنجرة ذهبية ونفَسٍ صاف ممتد، قادم من عُمق القرار، كانا سبب هذه الوقفة، التى حفظت موعدها فى كل أسبوع، حين يختلس طفل القرية - الممنوع من السهر والخروج فى هذا الوقت من الليل - وقتًا لممارسة متعته الرائقة مع الصوت الذى يتزايد ارتباطًا به، واحتشادًا له، واندماجًا فى سيمفونية أدائه. وظل الصوت الفريد مجرد صوت، حتى حظى طفل القرية برؤية صاحبه وهو وزير للمعارف - فى آخر حكومة للوفد - حين جاء الدكتور طه حسين إلى إقليم دمياط مشاركًا فى حفل تعليمى كبير أقيم فى مدينة فارسكور - أحد مراكز محافظة دمياط - واحتشد له الألوف من طلاب كل المدارس، ومن المعلمين، ومن أبناء القرى الذين كان لاسْم طه حسين فى نفوسهم فعْل السحر. واختارتنى مدرستى الثانوية فى دمياط لألقى كلمة باسم الطلاب بين يديه، وكانت كلمتى قصيدة خجلى يلقيها هذا الفتى القروى فى سن الخامسة عشرة، بين يدى الأستاذ العميد، وهو يرتعش من هول الموقف، ولا يصدّق أن حلمه فى رؤية صاحب الصوت الذى خلب لبه ووجدانه قد تحقق بعد أربع سنوات من متابعته والبحث عنه فى راديو القرية المتهالك الذى يتطلب شحْنَ بطاريته الضخمة فى وابور الطحين كل أسبوع.

ويحسّ طه حسين بارتجافة الفتى وارتعاشته، فيهمس له مشجعًا، ومستزيدًا، ثم يطالبه بأن يكرر ما سبق له إلقاؤه، بعد أن بدأ الهدوء فى أداء الفتى وسيطرته على جلال الموقف وتحكُّمه فيه. ولم يكن الفتى يدرى أنه فى إلقائه يقلد الشاعر على الجارم - الذى كان يهز المنابر بجلجلة صوته وقوة أدائه - وكان يستمع إليه فى الإذاعة وهو يشارك بقصائده فى مناسبات وطنية ودينية، وكان الجارم بدوره متأثرًا بإلقاء حافظ إبراهيم الذى كان مدرسة لها سماتها وخصائصها بين كل شعراء مصر فى عصر شوقى وحافظ ومطران وإسماعيل صبرى وغيرهم من شعراء مصر الكبار.

كما تعيدنى الكتابات الجديدة الضافية عن نجيب محفوظ فى ذكرى ميلاده إلى المرة الأولى التى سعدت فيها بلقائه، عندما كانت ندوته تقام فى كازينو الأوبرا. كان الإعلامى الكبير سعد لبيب - مدير إذاعة البرنامج الثقافى فى ذلك الوقت - البرنامج الثقافى الآن - قد كلفنى بتقديم برنامج حوارى مع رموز الفكر والثقافة والأدب فى مصر، وضيوفها من العالم العربى بعنوان »مع الأدباء«. ووجدتنى أتجه إلى نجيب محفوظ ليكون ضيف الحلقة الأولى من البرنامج، واستعنت بالصديق العزيز الكاتب القصصى والروائى الكبير سليمان فياض فى إعداد الحلقة وجمع كل ما يمكن من الأسئلة التى يطرحها عالمه الأدبى الذى كان قد تُوّج حتى ذلك الوقت (عام 1958) بالثلاثية. مازلت أذكر الدهشة مرتسمة على وجه نجيب محفوظ وهو يطالع قرابة عشرين سؤالاً سلمتها له وهو فى ندوته وبين ضيوفه الذين كان من بينهم الأديب الكبير يحيى حقي. وبعد قراءته للأسئلة مرتين، قال إنه يفضل أن تكون الإجابة عنها مكتوبة، لذا فالأمر يتطلب وقتًا، اتفقنا على أن يكون أسبوعين. وعندما جاء نجيب محفوظ إلى دار الإذاعة المصرية فى 4 شارع الشريفين كانت المرة الأولى التى يصعد فيها الدرجات الأولى من السلم، حيث يحمله المصعد إلى الطابق الثالث ليسجل حواره فى استوديو 10 فى الحلقة الأولى من برنامج »مع الأدباء« الذى استغرق نصف ساعة. وعندما أذيعت الحلقة كان الناقد الكبير الدكتور على الراعى يقضى إجازة صيفية مع أسرته على شاطئ بورسعيد، وكان فى ذلك الوقت رئيسًا لتحرير مجلة »المجلة«، فكتب الافتتاحية عن معجزة الترانزستور التى أصبح بها الراديو ينتقل مع المستمع إلى كل مكان، وعن برنامج »مع الأدباء« الذى قدم وجبة دسمة ولقاءً ممتعًا مع نجيب محفوظ: فكره وفنه، وأنه من أجل هذا تكون للإذاعة رسالة، ويكون للبرنامج الثانى - الذى يُقدِّم مثل هذا البرنامج - دوره الثقافى الذى يتطلع إليه المجتمع، حتى تصل الثقافة إلى الملايين التى حُرمت المدرسة والجامعة فى كل ربوع مصر.

ومن طه حسين إلى نجيب محفوظ إلى مبدعى مصر من بعدهما، تمتد هذه السلسلة الذهبية من عباقرة الفكر والفن والإبداع فى مصر،وهم ركائز قوتها الناعمة، التى تحقق لها المكانة والريادة جيلاً بعد جيل.
أعلى