مغيرة حسين حربية - جدتي..

عادة أسكر في شارع خفي في قريتنا القديمة، شارع منسي ومجهول لم يمر به أحد منذ زمن طويل، هو شارع الصمت. أحمل قارورتي وأجلس على دكة طينية مهجورة. وحيدا، كل مساء. في الكأس الأولى تذهب وتجيء ظلال كسولة. تعبر من أمامي كائنات أخرى كأنها رسمت بقلم الرصاص على سطح تفكيري الأملس. في الكأس الخامسة تنهض، ببطء، من فوهة غامضة، بوابة خشبية هائلة وسط الشارع، توصدني عن كل شيء. أبقى في العزلة تماما، حبيس بين الظلال والحيوات الخافتة. أسمع جلبة خفيفة لأقدام حافية تهرول، هامسة، كهرولة عاشقة في لا اتجاه. أسمع حفيف جلاليب بيضاء وعزف مُغنٍ ريفي مبتدئ على آلة أم كيكي، يجلس، وحيدا، أمام مقبرة أمه الشولاء التي سممتها زوجات الأب في مؤامرة خرقاء، قبل أن يطلقهن، جميعا، الأب ذو النظارات السميكة والصديري الصدئ بروائح النساء الأخريات. قبل أن ينتحر. موسيقى وحيدة، تأتي من وتر وحيد.

قطيع كلاب ضالة وزرافات، يمر نهر ومركبات فارغة تتلوى في جوف ضباب، يمر موكب عشاق مخزولين: نامت حبيباتهم مع آخرين، ينوحون وهم يضربون صدورهم بشدة، يمزقون شعر رأسهم، يعضون أصابع الخيبة، تتلوى دموعهم كجنازير رملية، شفاههم يابسة، عيونهم بسيطة وصافية، كأنهم لا يأبهون. يعبرون.

أخلف رِجْلا فوق رجل.

قبل عامين، بيني وبين نفسي، سميت هذا الشارع، شارع الصمت. اكتشفته صدفة: كنت عائدًا من المقبرة، ماتت جدتي ونسيني الناس في المقابر، عادوا يحملون تابوتها الفارغ وبقيت أمام قبرها ألقنها آيات الشهادة، فمها يفتح وينغلق، كسر عظيم، يريد أن يبوح وأن يتكتم. قالت لي وهي تحتضر: سأكلمك بسر الأسرار كلها، سر الوجود وسر العدم. قلت، وأنا أضع يدي فوق فمي: لا أريد. قالت، يا خائب، يدفعون حياتهم ثمنا ليعرفوا القليل، أمنحه لك مجانا، أنا أحبك.

خرجت من فمها فقاقيع ملونة، بالونات شيقة ورطبة ارتطمت بوجهي، شعرت بنشوة أخرى. تحوَّلت عيونها لحقل أخضر، وتحوَّلت يداها لالة موسيقية غريبة لم أرَ مثلها من قبل، انسلَّت أصابع يديها لأوتار رشيقة وطويلة.
ارتفع صوتها بالغناء وخارت قواي الصغيرة.

من غنائها: "أمنحك السر، أمنحك لحظة خاطفة للجلوس على الدكة القديمة في الطريق المجهول، الشارع الذي لم يمر به أحد ومر به الجميع، أمنحك الخلد. (لم تكن تتكلم هكذا، هذه ترجمة خائية للغة وللاشارات التي كانت تحاول أن تكلمني بها). واصلت غناءها السحري بصوتها السبرانو الطفلي: أنثاك، الحقة، في حرز رجل آخر، يسكن كهفا بين النهر والجبل، يضربها حين تغرب الشمس.

ابتكرت طريقة لأخرج من هذا المأزق المشوش، جدتي تلاحقني برطاناتها الحكيمة وتطاردني قارورة الخمر التي أخذت ترهف وتتلاشي. القارورة نفسها ثملت وهاهي تترنح أمامي. وضعت يدي في جيب بنطالي وأخذت أدندن بلحن قديم، مجهول هو الآخر، كطريق منسي في قريتنا القديمة.

عبر من أمامي ملحنون فاشلون، مداح قدامي يصلون على النبي بأصوات ودفوف ناعمة، أصوات أخرى أنيقة، مغنوايتة قهاوي خمسينات القرن الماضي (الشارب تحت الأنف مباشرة كظل سبلوقة) غنج بنات جامعة بحري، خرير شلال السبلوقة، حين تبلع آمال ريقها على الهاتف، طقطقة الأصابع في عتمة صالون آخر الحي، وشوشة كفن جدتي، آهة، شهقة، صليل بعيد.

"يا ولد، الموسيقى لعبة كامنة في بهو الريح لا الوتر".

أهجس تحت البوابة الخشبية الهائلة، تعبر من أمامي الدكة الطينية، يجلس عليها رجال عراة الصدور، يرفعون جريد نخيل يابس رفقة نساء موشومات بين نهدهن، يربطن جباههن بعصابات حمراء فوقها هلال ذهبي يلمع. أناس من جميع الحقب، مثل أرواح ترن، أسلاف بعيدون، جدات، آباء وأمهات، أحفاد لم يولدوا بعد، جميعم جمدت أعمارهم في لحظة واحدة يجلسون على الدكة الطينية ويعبرون من أمامي كنوتيَّة يُقلُّهم مركب الزمن. لوحت لهم لكنهم لم يعيروا تلوحتي اهتمامهم، كانوا جامدين كنوتية نحتوا من ظلال حجارة (بحر عدول).

حين أسندت ظهري إلى البوابة الهائلة التي تشبه مندولًا أخرس، وجدتني داخل غرفة مصمتة، تتدلى من سقفها المخروطي، كحبال المشانق، أرجل مبتورة. رأيت سريرا موحشا تنام فيه فتاة حلوة مسجاة بتبروقة وتحتها أبريق يصب ماء دون أن ينفد، يصبها على يدين مفتوحتين، لكن الماء ينحسر فورا. وجه الفتاة يشبه جدتي، لكن فمها الحلو الصغير لا يشبه فم جدتي، يشبه فص برتقالة صغيرة طازجة. ببطء ونعاس، فتحت الفتاة عينيها وحين أرادت أن تتكلم خرجت من فمها بالونات رطبة شيقة أرتطمت بوجهي فأحسست بالنشوة ورعشة اللذة. صرخت جدتي، من بيتها في القبر: لا. قالت بهدوء وحكمة: لو أنك فعلت ذلك، ستصاب بالانقسام، ستتورط في التجربة، ستصاب بلعنة العمل، تفقد براءتك ولن تجد الخلد. وضعت يدي في فمي: لا أريد الخلد. قالت: يدفعون حياتهم ثمنا ليجدوا القليل. تململت الفتاة المسجاة، دبت الحياة في قلبها، صار وجهها برئيا، يمسحه حزن خاطف، اكتحلت عيونها بلون أخضر، نهض صدرها، تنفست فشعرت بأنفاسها تخرج من رئتي كبالونات ملونة شيقة.

في الأسفل، جفت مياه الابريق، انقطعت، رويدا رويدا وغابت اليد المفتوحة في عتمة أخرى.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى