محمد فهمي - قضبان الظلام.. قصة قصيرة

وسط الأجساد المكدسة، وأنفاس عشرات النساء والأطفال المحتجزين خلف القضبان الحديدية، في لهيب صحراء العراق الحارق، كانت الأُم تحتضن طفلتها التي كانت تئِن بعد أن فقدت القدرة على البكاء والصُراخ، كانت الأم تُمني طفلتها بالعودة إلى الوطن، وأنها ستصنع لها طعامها المفضل، وتقدم لها لبناً بارداً، وأنها بإمكانها الذهاب إلى عيون الماء المتدفقة بغزارة بين الصخور، ويغتسل بمائها البارد. وستلتقي هناك بأصدقائها وستلعب معهم تحت ظلال أشجار الجوز الوارفة.

ارتسمت ابتسامة متعبة على وجه الطفلة، وهي تستمع لكلام أمها، كانت الأُم تعلم أن طِفلتها لن تنجو، وأنها بين أحضانِ الموت وإن كانت في حضنها الآن. اقترب السجان من الزنزانة، وأحضر معه كرسياً ليجلس عليه بقرب السجناء من الأطفال الذين أنهكهم الجوع والعطش، والنساء اللواتي كانت قلوبهن تذوب من الألم حين يرون أطفالهن يحتضرون في أحضانهن.


بدأ السجان بقضم الخيارة التي كانت بيده مصدراً صوت قرمشة عالية كانت صوتها كوقع موسيقى على البطون الجائعة، وانتشرت الرائحة في الأرجاء. عاد ألم الجوع يعذبُ السجناء؛ لكن الأطفال لا يعرفون معنى السجن ومعنى أن تكون سجيناً، ومعنى الجوع والعطش، فقد خلقوا للعب واللهو، خلقوا ليطيروا بحرية، ويتربوا في أحضان أمهم الطبيعة، وبين الأشجار والينابيع، وليغنوا مع الطيور.
أشارت الطِفلةُ بيدها إلى الخيارة التي بيد السجان وقالت بصوت واهن: خيارة! فهمت الأُم مراد طفلتها المحتضرة. توسلتِ الأُم إلى السجان أن يعطيها قطعة لأجل الطفلة. ضحِك السجان ضحكة مجلجلة اهتزت لها جدران السجن. لسان حاله يخبر بأنه ليس هنا لإطعام الأطفال والشفقة عليهم، ليس هنا ليُطلب منه طلباً إنسانياً كهذا، إنه هنا لتعذيبهم وتجويعهم ومن ثم إزهاق أرواحهم.
ألقى القطعة الأخيرة في فمه ومسح شاربه الأسود الكثيف بكفه كالوحش بعد أن يشبع من فريسته، وحمل كرسيه وابتعد، لكن الطفلة لم تكف عن طلبها وهي تحتضر. حضنت الأُم الطفلة، وبدأت تبكي حسرةً عليها وعلى ضعفها، وأنها لن تستطيع أن تلبي طلب طفلتها الأخيرة.
لمحت الأُم شيئاً أخضر على الأرض، فمدت يدها والتقطتها فإذا هو نعل أخضر ظنتها للوهلة الأولى قطعة خيارة، وإن أحد الملائكة قد وضعتها هناك رأفةً بالطفلة وتلبيةً لطلبها الأخير. لخيبتها وعجزها بكت الأُم وأرادت أن ترميها؛ لكن الطفلة أمسكت النعل بحركة بطيئة من يديها الضعيفتين، وأخذتها من يد أمها ووضعتها في فمها وبدأت تمص حوافها!

التهت الطفلة بمص ومضغ النعل حتى فاضت روحها البريئة إلى بارئها الذي يرى ويتابع كل الآلام والأرواح البريئة التي تزهق، إلى ملائكته الصغار وهم يفارقون الحياة.
لماذا؟ ما الذنب الذي ارتكبوه؟ وهل اختلاف اللسان ذنب؟

كان حفيف أجنحة الملائكة يملأ المكان وقد تجمعت لتأخذ بيد الطفلة وتزفها وهي تغادر الجسد إلى السماء، كانت تهب كنسمات الهواء المنعشة على قلوب الأمهات المفجوعات بأبنائها كنسيم هواء الوطن.
خرج من نجا منهن وعادوا إلى موطنهن بعدما حضنت الصحراء القاسية جثث أطفالهن الطرية، وخرجت الأُم وقد نذرت على نفسها ألا تتذوق الخيار في حياتها أبداً.



***

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى