صابر رشدي - المحترق.. قصة قصيرة

لمحته قادما، يمشى منفرجا، بتؤدة وتمهل، ممسكا بمقدمة جلبابه الفضفاض، مباعدا به عن نصفه الاسفل، كنت اظنه شخصا آخر، رجل مسن ضارب فى شيخوخته، فهو، عادة ، يسير متقافزا، ويجعلنا نلهث وراءه، مثل طائر رشيق، مع اقترابه لاحظت عليه انحناءة بسيطة، وأنه يباعد بين ساقيه، متألما مع كل خطوة، حتى توقف امامى منهكا .
- سلامتك .
قلت مجاملا
وقبل ان أقوم بالاستفسار عن حالته فوجئت بوصول أحد أصدقائنا الذى بادره بعد هنيهة .
- كنت عائدا من مسكنكم، أمك تقول إنك مريض، ترفض العلاج، وتكتفى بمراهم مرطبة للبشرة، وإنك تصرخ أحيانا عندما تكون وحدك .
- نعم، لقد آذيت نفسى بغباء لاحدود له .
اجاب، وهو يغتصب ابتسامة واهنة، مشحونة بالألم والتوجع، قبل أن يقص علينا أكثر المواقف طرافة فى محيطنا الضيق .
كان يعمل مساعدا لدى أحد مقاولى البياض، يقوم بتحضير المواد اللازمة، يغربل الرمل، يغربل الجير، داعكا بقاياه من الكرات الصغيرة فوق سلك الغربال، حتى يمر من الثقوب الضيقة، ثم يخلطهما بعد ذلك بمقدار كاف من الإسمنت .
الطابق الذى يعمل به، فى البناية الحديثة يطل على مشهد بانورامى لبيوت قديمة ومنخفضة، تقع تحت سماء لاهبة، الأسطح المتربة، كابية اللون، تتكدس فوقها أكوام من الأثاث القديم، والكراكيب المتهالكة. تشده أبراج الحمام، المحلق على مرمى البصر، كان يعمل بعض الوقت، ثم يخرج إلى الهواء، محاولا التخلص من رائحة الغبار، يستنشق قليلا من الأوكسجين وهو يتأمل هذا المشهد، يعود بعدها لمواصلة مهمته .
مع انسحاب خيوط النهار، من الأفق المترامى، قادته قدماه إلى إحدى الغرف الخلفية، كان شيش النافذة مواربا، اقترب منه، ناظرا إلى أسفل، لاشئ قبالته غير الشفق، وجد رجلا فى أواسط العمر، يجلس فى شرفته، مرتديا سروالا قصيرا وفانلة داخلية، واضعا ساقا فوق أخرى، عندما حدق فيه جيدا، لمح بين أصابعه لفافة تبغ متورمة، مخروطية الشكل، ينطلق دخانها كثيفا ومتشابكا، فعرف انها محشوة بالحشيش .
ابتعد عن النافذة، حاسدا الرجل على اختياره، متشوقا لسيجارة مماثلة، ثم انهمك فى عمله ، لكن إرهاقا مفاجئا، ألجأه للراحة فوق الرمل المكوم بالصالة، ودون أن يشعر استغرق فى نوم عميق، أفاق بعده منزعجا، لا يدرى كم مر من وقت، فنهض مسرعا لإنهاء ماتبقى، حتى يستطيع الانصراف إلى بيته، بينما الفضول القاهر قاده مرة أخرى إلى الغرفة المعتمة ، اقترب من النافذة، نظر من الفرجة الصغيرة، اصطدمت عيناه بمؤخرة تتهادى بإيقاع رتيب فوق جثة هامدة، صعق فى الحال، ولم يحتمل، فانسحب إلى الوراء، متوترا ومربكا، حاول النظر ثانية، وجد جثة تتلوى تحت الرجل، تبين ملامحها، وهما يشتبكان فى لعبة فاتنة، يصيران كتلة واحدة، راح يلهث وراء المشهد الواقعى، حتى دخل فى نوبة جنون كاد على إثرها يفتح النافذة، ويقفز منها كحصان خرافى مجنح، يعبر المسافات للتحقق من اللامعقول فى دروب المتعة، بدأ جسده يهتز بارتجافات مدوخة، إنها المرة الأولى التى يرى فيها هذا الفعل مجسدا، كاملا ، لجأ الى الهدوء قليلا، فك سرواله، عاود النظر، بدا له الرجل العارى خبيرا متمرسا، الحشيش يفتح له ابواب الخيالات الباذخة، لم يحتمل هذا السيرك المنصوب على مقربة منه، بصق فى كفه وبدأ المداعبة، كانت الرؤية تنطوى على أقصى مايمكن تصوره من معنى جمالى، وفقا لأفكاره، حواسه تسيطر عليه، وترغمه على التحديق فى المشهد المثير لاكتشاف التناغم المستقر فيه، صار الكون أكثر اكتمالا مع اختلاجة كل عضلة فى جسده ، كان يضغط مسحورا، ومنذهلا ، بفوران حسى متأجج ، وجد العالم جميلا ، وهو يشاهد كرم الرجل مع أنثاه الضائعة فى ضباب رغبتها، وجعل يتذكر ماكان يراه فى نومه، ويقوم بعده، مبللا، تعيسا، ومكتئبا، كانت المرأة فاتنة تحت الإضاءة الخافتة، تسرب إليه إحساس غامض أن هناك جسرا ذهبيا مفروشا بالسحر، يربط بين الموت والإثارة الجنسية، لم يكن واعيا بذاته، أو حقيقته، كان عبدا للذة وتحولاتها المدهشة فى هذه اللحظات الخارقة .
أخيرا، أغلق المشهد، بانسحاب المرأة والرجل، وانسحابه أيضا إلى الحمام، غير مصدق أن ماجرى كان أمرا حقيقيا، عاينه أثناء يقظته .
بعده، وفى غضون دقائق قليلة حدث مالا يمكن تصوره، وجد نفسه يتلوى، يصرخ متقافزا : نار ، نار، شعر أن قضيبه منقوع فى خامض كبريتيك، أخذ يتألم ويدور حول نفسه كقط احترق ذيله، خلع السروال الداخلى، تجنبا للاحتكاك، نزل إلى الشارع، متحركا بصعوبة تحت ألم كاو، فجر فى ذهنه الأسباب، تذكر الجير الذى كان يدعكه فوق سطح الغربال ، الإسمنت، بصقه فى كفه، اللعاب الرطب، الذى تفاعل مع هذه العناصرالكاوية أثناء بحثه عن اللذة فيما وراء النافذة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى