أمل الكردفاني - الإحتجازية، التمييعية والفن

✍ "كما ان هناك عمل مدني وهناك عمل تجاري، سيكون النقد تجارياً بأكمله بعد بضعة عقود"

......

فكلمة تطور تفترض التحسن والاتجاه للأفضل رغم أن التفاضل في الكتابة الأدبية لا يملك معياراً واضحاً. ولكن يمكننا أن نصف ما يحدث بأنه تغير مستمر. هذا وصف محايد وليبرالي في نفس الوقت. فأنا أعتقد أن باكورة أعمال كونديرا كانت أفضل من أواخر أعماله، وبدون فرض وصايتي، إنما بحسب الذائقة كانت كتابات كونديرا الأولى أكثر سرعة وحيوية، وكان تداعيها أكثر عفوية وأقل اصطناعاً. مع ذلك فأزمة الإصطناعة الأدبية التي نتجت عن معايير المسابقات التي تمنح جوائز سخية قد جعلت الكتاب الشباب ينحرفون عن العفوية وينعطفون نحو الصناعة. الصناعة التي تشبه المثقف المتكلف. ورغم أن التكلف نال اختصاصاً نخبوياً بسبب الجوائز التي أضرت بالأدب كثيراً، غير أن جيلاً جديداً قد يواجِه كل ذلك بعد تخلصه من سيكولوجيا الحداثة التي صنعت هرطقات سُميت شعراً وجنائزيات سميت روايات...وأقاصيص لم تستطع مغادرة البيانات الشخصية.. سيكون الجيل القادم متعاطفاً مع الشعبوية...أتذكر نفسي في السابعة عشر وحتى الثانية والعشرين من عمري (حقبة الأسطورة)، وأنا أخوض تجربة مختلفة عن مراحلي التالية المتعددة (الشخصية الإكتآبية،المتمردة، الفانتازيَّة..). وأعتقد وأنا -أتجاوز الأربعين- أنني أودع الفانتازيا وأتوجه نحو الإنساني والواقعي..نحو الإجتماعي.. لأصف واقعاً يحتاج بشدة للتفكيك الذي لا يتخبط بنرجسية الشباب المندفع نحو الأضواء. مع ذلك فلا يمكنني اعتبار ذلك تطوراً كما لا أستطيع أن أعتبره تقهقراً، إنه شيء أراه صواباً وحسب، وهو صواب لأنه يعبِّر عن تحولاتي الفكرية والنفسية..فلست مقياساً لأي شيء...لكنني أعتقد أنني اليوم فقط بدأت حقاً ما يمكن أن يمثل نضجي كقاص ونصف مسرحي..وربما تتوفر لي الفرصة المناسبة لأتفرغ لهذه الهواية حد الإحتراف مستقبلاً جامعاً بين (الحرفة والعفوية)..
يجد الإنتقال للواقعية سببه في تغيراتي العاطفية تجاه العالم بقضاياه المختلفة ليس بعقل أداتي وإنما بعقل يملك وعياً بالحقيقة..الحقيقة من زاويتي الخاصة تجاه التساؤلات القديمة والتي شكلت عصب السرديات الكبرى...وإذ نبلغ الحقيقة فنحن نضطر للإلتزام بها، ليس بدافع إنتمائي دوغمائي وإنما لأنها محايثة حقاً، وهكذا لا فكاك لنا منها إلا على سبيل التجريب، أو العودة القهقرى كنوعٍ من نزق التغيير وإن لم يحمل تجديداً ما، أو التجريب كحالة من دفع الطاقة التفاؤلية المحفزة للأمام.
ما وجدته من حيوية عند كافكا الشاب لم أجده عند الكبار كمحفوظ أو تابوكي أو أوي أو حتى موراكامي..أو جويس...وما وجدته في المسرح بشكل عام ؛شاملاً العبث؛ آدموف، بيكيت، أو الواقعي؛ تينسي، ميلر،..الخ لم أجده في الرواية.. وما وجدته هو أن هناك -كما اسلفت قولاً- شيءٌ ما يعبر عني، أي عن الحقيقة كما أعتقدها..وهو النزوع نحو الأنسنة، أي الإعتداد بمركزية الإنسان، بعظمة جهد تحديات تحليله حد الوقوع في موت الإنسان...إذ هو كما تنحو إليه التفكيكية، لا متناهي..الإنسان الذي لا يتكرر ولا يتطابق، بل يعتمد وعيه عِلمانياً بالإختلاف وابستمولوجياً باكتشاف التباينات (الإنسان ك(فحوى) تملك الكثير من الإجابات وتطرح اللا نهائي من الأسئلة)...اللغة نفسها تتحول لأسوار تحاول حجز الخصوصيات، ومنعها من الامتزاج..وذلك التحييز هو السر الأعظم...لسكناتنا وحركاتنا، لصمتنا، لحريتنا وعبوديتنا، لدكتاتوريتنا وديموقراطيتنا..لعلمنا وتقنياتنا بل وعاطفتنا..يمكنني أن أسميها بالحدودوية boundarism بكل ثقة.
إن هدف اللغة هو الإحتجاز detention..وهو ذاته هدف كل فعل إنساني صادر عن وعي. وهو إنساني لأن الإنسان -كما رأى ادلر- أقل الحيوانات إتصالاً بالطبيعة، ولذلك فوعيه إختباري أكثر منه من مصدر إتصالٍ غريزي.
وإذا كانت الإحتجازية شغل شاغل للإنسان ومضمون مزمن لكافة أنشطته، فلم يبق أمامي سوى الإنتقال إلى الإنسان كمركز وتجاوز ما بعد الحداثة للحداثة التي تنتصر دائماً على الإصطناعي artificial وتعبُر ملتفة من حوله.
لا يمكننا أن نغفل التكنولوجيا التي أوصلتنا لهذه الرفاهية التفكُّرية، منحتنا الأدوات والزمن الكافي للتنظير، ومع ذلك فهي نفسها -كمنتج إنساني- تنحشر في الإنساني رغماً عنها ولا تملك تلك الذاتية المستقلة. ويبدو الإنسان خلاقاً على نحو مُبهر. وكما قلت فهو ممتلئ بالعطاء رغم إحساسه المزمن بالتطلٌّب بل ربما كان تطلبه هذا هو مصدر عطائه.
كل شيء يهبط أو يرتفع أو يختفي أو يتجلى على مستوى الإنسان..وهي مسألة تتجاوز تاريخ الفلسفة التي ترعرعت مع المُثل الأفلاطونية التي قهرت قوة الإنسان فأنحصرت في الكتب حيث مكانها الوحيد هو قاعات المحاضرات في الكليات الجامعية. ولذلك فلا يمكننا إلا ان نلحظ التوجه الإنتاجي الأمريكي -كدولة بٌنيت منظومتها على الفعالية- نحو الإنسان بمحوريه التفاعليين التصارعي والتعاوني. إذ تنفض العلوم الإنسانية soft sciences عن نفسها أي جانب ترانسدينتالي وتنحو إلى مسألة أخطر مما يمكننا تصوره وهي (السيطرة). يمكن لهذه الكلمة أن تلخص كل اهداف العلوم الإنسانية والطبيعية في الولايات المتحدة الأمريكية. ومن هنا يأتي دورنا ككُتَّاب في المقاومة. قد تبدو المقاومة هنا مستحيلة إذ نواجه كمدافعين عن الحرية (رغم إضطرابات هذه الكلمة) وعن الإرادة وعن الفردية، وعن الإنساني، ترسانة ضخمة من أسلحة دولة عظمى تفتقر للقيم الأخلاقية بل وتحتجزها وتدعيها وتحورها وتشكلها بمقاييس متفاوتة، ثم تذيب كل الحدود التي احتجزتها اللغة وكل انشطة الإنسان لتصب داخل قيمها المموِّهة للتباينات. وهنا تتأثر كل الفنون والآداب وتنحو إلى السطحية وحفر مسارات اللذة اللا واعية، كالأفيون. تحصر تلك الموجة الشعوب في مسار أحادي لتتمكن من خلق حكومة عالمية تكون على رأسها لخدمة المزايا الفئوية لقلة ذكية. وتعمل أداتان على ضرب الفن الكلاسيكي وهما السرعة والفعالية. السرعة حيث لا وقت للشرح. والفعالية حيث لا قيمة للفهم. أي انها تقتلع الفن من أجل الفن والفن من أجل المجتمع إلى الفن من أجل اللذة الوقتية كالوجبات السريعة..وهكذا؛ يفقد الفنان الكلاسيكي جمهوره الذي يضع عليه تاج القيادة الثقافية وينتقل الجمهور إلى شركات التسويق الكبرى والمرتبطة بآليات صنع القرار الذي لن يصبح سياسياً، فالسياسة نفسها لن تعد قابلة للصبر عليها، بل هناك قرارات تتخذ وتنفذ وجماهير تخضع دون أن تدرك أنها خاضعة. وهو ذات ما حدث للشعب الأمريكي نفسه منذ نهاية الحرب الباردة..حيث هبط مُنحنى الوعي الشعبي إلى ادنى مستوى. ويمكننا-بدون إحصائيات لن يُسمح بنشرها إن وجدت- أن نلحظ هذا السقوط على مستوى الفن..الذي بات يعتمد على التسويق الكاذب والتلقي اللا نقدي، أو النقد التجاري المؤسس على استثارة العاطفة النيئة (التسويق بكل ما تعنيه هذه الكلمة).
هنا تنشأ مقاومتنا، وهنا أيضاً تبدأ حرب الإغتيال المعنوي لمن لا يملك لساناً مشقوقاً، على شقه الأيمن المال وعلى شقه الأيسر السلطة. ويتصل حتى الحلق المُشرعِن والمؤخلِق (Ethic(ing وهو القانون.
لا يمكن الآن وفي هذه اللحظة شرح ما سينتظم عليه العالم بعد خمسين عاماً. تماما كما لم يكن شرح الطائرة سهلا قبل ألف عام. والحق أن يوم الماضي ليس كيوم اليوم، ففي وقتنا الآني هناك آلاف المنجزات وخاصة التقنية التي تختصر آلاف السنين من البحث وفي نفس الوقت تجعل من الغالبية البشرية تركن إلى سيطرتها. ويمكن للآلة التقنية أن تقنعنا بأن شرب الماء مُضر بالصحة عندما تُحدّق حرب مياه قد تؤثر على مراكز متقلدي مؤسسات حكم العالم. إن كل شيء ممكن بالضخ الدعائي، والضخ الدعائي يحتاج للسلطة والثروة.
...
الإحتجازية والوعي:

حين يولد طفل، يولد وعي، وحيث يموت إنسان يموت وعي، ووعينا بالعالم هو الاحتجاز أي رسم حدود لكل شيء، والاحتجاز والتمييز لا يترادفان. الإحتجاز فعل مقصود لأنه ينبع من التملك، والتمييز (التفرقة) فعل حدْسي ومبهم، والاحتجاز يعني إقتلاع الشيء من الشيء وحبسه في معناه الخاص دون الإكتراث بما يفارقه، اما التمييز فيفترض إدراكاً للمتمايزات، وغالباً ما لا يحدث ذلك. إن الطفل يحتجز إمرأة كأم ورجلاً كأب لكنه لا يهتم بغيرها من النساء أو غيره من الرجال (إن الأم مقياس قياسي standard scale هنا وليست متجاورة مع غيرها). إن الاحتجاز يفترض التمييز حقاً، ولكنه تمييز بلا دافع لإدراك غير المُحتجز...لذلك تكفي العلامة الثابتة بالشيء المُميَّز دون حاجة لموضعته هو ذاته في مصفوفة مع غيره. المُحتجز بذاته حاضر، بكلياته، وهذا في حد ذاته كافٍ، أما المميًّز فلا يتوفر في حالة غياب الآخر لأنه حالة مستمرة من المقارنة..ورسم العلامات. هكذا الإحتجاز أوفر حظاً كموضوع في إتصاله بالذات..
والفنون والعلوم والتحليل الإنساني يعمل على الإحتجاز لا على التمييز. يكفي أن أعرف أن الماء H2O وأن سائر الأشياء ليست كذلك..، أما التمييز فيوقعنا في جدلية الكم التي تفضي لرفض الإستقراء. فنحن نستقرئ بالاحتجاز لا بالتمييز. ننطلق من الخاص كمُحتجز. لا من الخاص كمقارَن بغيره..وهكذا يكون التعميم صحيحاً. الشمس تشرق كل يوم، لأننا احتجزنا الشمس في تلك اللحظة تحت وعينا. وهكذا يكون صحيحاً أنها ستشرق غداً وبعد غد وبعد بعد غد..في مثل هذا الوقت تماماً.
....
سيكون أمام الفن صراع طويل مع رافضي الأصالة، ذلك الرفض العدمي، أي الذي يمكن أن يطال كل شيء يمسُّه بالفناء.
لكن الأصالة لا تعني ذلك، بل تعني إحتجازاً لمستوىً معيناً من القياس الأمثل أو الذي نراه أمثل، وهو احتجاز مستقطع من الصيرورات المتلاحقة عبر الزمان والمكان. كتلك اللُّحمة الزمكانية نفسها. وهذا الإحتجاز يحمل عطر أصالته. إنه يحتجز التاريخ. هكذا يمكننا أن نختصر القول.
سيعاني الفن عندما تعمل القوى العظمى على تمييع المفاهيم، ليقبل الوعي بكل شيء، هو أمر لا يدرك خطورته الكثير من الناس، فهو ليس استلاباً لأن الإستلاب يفترض استبدال نسق بنسق. أما التمييعية فهي تمزق كل أنسجة الوعي الإنساني، وتطلب منه أن يرفض النسق. ستبقى فقط المؤسسات التي تخدم أغراض الإتضاع والهبوط، وسيتحول الإنسان إلى دجاجة جزعة محتبسة في قفص صغير. يتم تعليفها لتبيض، ثم ذبحها عندما تعقر. سيكون الفن هو ما يقال بأنه فن، وسوف يُستقبل ذلك بلا اعتراض. بل وبلا أدنى مقاومة.
..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى