محمد العرجوني - تجربة مقرفة.. جداااا

أسرد هنا بعضا مما عشته من خلال تجربتين أساسيتين في حياتي، هدفي تعميم أهم ما استنتجته، للفائدة.
التجربة الأولى عشتها من خلال العمل النقابي والحزبي، حتى لا أقول السياسي. وعشت معهما تجربة الكتابة الأدبية والصحافية. وكذلك تجربة الجمعيات الثقافية.
خلال هذه الفترة كان الاهتمام الكبير منصبا على ما يمكن تسميته بالالتزام "الجرامشي". بمعنى كل ما كنت أقوم به كان يتم برؤية إجتماعية و"سياسية" كما كنت افهمها ومعتقدا انني كنت في خدمة، أولا رجال التعليم كجماعة أنتمي إليها، ثم ثانيا في خدمة طبقة "البروليتاريا" وطبقة الشعب المهضوم في حقوقه، خاصة وانني ابن عامل منجمي ظل منخرطا نقابيا للدفاع عن كسرة خبز. كانت هذه التجارب لا تخلو من صراعات، كنت اعتبرها صراعات طبقية. او صراعات بين "الرجعية و التقدمية"... فكانت تبدو لي صراعات منطقية حيث كان هدف كل ممثلين "للطبقتين" التحكم في دواليب "الحكم". ولعمري كان الهدف مشروعا. سواء في البلدية او في البرلمان وطبعا في تشكيل الحكومة. كنت اذن أعتقد انني واعيا بدوري الذي يكمن في التأثير على هذه الطبقة من الشعب بانحيازي لقضاياها حتى نربح اصواتها خلال الانتخابات ونربح ممثلين لها يدافعون عن مصالحها من داخل المؤسسات. كانت إذن الصراعات تبدو منطقية بين مختلف الحزبيين والنقابيين.
اما الجانب الثقافي وخاصة الأدبي، فلم اكن أعطيه الاهتمام الكافي. كنت اعتبره مسألة شخصية، وترفا فنيا حتى وأنه" ملتزم" بقضايا الشعب. خلال هذه الفترة كتبت ونشرت نصوصا، توجتها برواية "أمفيون الرقم المهني 4892"، محققا هكذا حلمي في كتابة نصوص اردتها ان تكون شبيهة بنصوص زولا، وخاصة روايته الشهيرة :جيرمنال. لكن كنت اتابع ما يجري مثلا داخل اتحاد كتاب المغرب، الذي لم انخرط فيه أبدا. كنت اسمع عن الصراعات بين الشعراء والكتاب. كنت اعتقدها تصب في نفس صراعات النقابيين والحزبيين، اي صراعات بين "رجعيين وتقدميين"، فكنت طبعا أميل "لقبيلتي"، أي "للتقدميين" ولو انني كنت الاحظ أن بلية الإقصاء كانت مستشرية حتى بين أعضاء نفس القبيلة. ما كان يؤلمني.
التجربة الثانية ابتدات مع تقاعدي. كنت قد نضجت اكثر وفطنت اكثر لبعض الأمور. اتضح ان السياسة لعبة الكبار أصحاب الاموال والمصالح. السياسة تدار بالهواتف حسب مصالح مخزنية، تقرر في مصير ما كما يشاء المخزن، كما حدث حينما تقرر إغلاق مناجم جرادة. وكل ما كنت احلم به، يعتبر من الطوباوية الأفلاطونية، لا وجود له إلا في جمهوريته التي أقصى منها (وحسنا فعل) الشعراء. لم اعد منخرطا لا في النقابة ولا في الحزب. تحررت من الالتزامات التنظيمية التي كانت تأخذ مني وقتي وجهدي ومالي، ودخلت العالم الثقافي والأدبي بنية خدمة الثقافة والتشجيع على القراءة والكتابة من خلال تأسيس للمقاهي الأدبية بغية جعل هذا الفضاء الكروي بامتياز، فضاء للكتاب أيضا.
فرغم ما راكمت في بدايتها من ايجابيات، حيث وفرنا فضاء لكل محبي الكتاب، اتضح مع الأسف اننا وفرناه ايضا لبعض الوصوليين والانتهازيين الذين لم يكن احد يعرفهم. فأصبحوا بقدرة قادر شعراء وروائيين ونقاد وفنانين تشكيليين وقصاصين. او هكذا خيل لهم. كانت تجربة صادمة حد الدهشة. تجربة يمكن اختزالها في هذا التشبيه : كنت اتخيل ان هذا العالم هو عبارة عن حقول ازهار مختلفة مدسوسة وراء إزار او قناع كنت حملته لمدة طويلة اثناء اهتمامي أكثر بما هو نقابي وحزبي، وحينما ازحته عن وجهي لأستمتع في اواخر عمري بازهار الثقافة والشعر واتلذذ من اعماقي بالطمأنينة الروحية وبصداقة "المثقفين"، وجدت نفسي امام اسطبل يمكن تشبيهه باسطبل "اوجياس" الذي ورد في الاسطورة الإغريقية، ضمن الأشغال الإثني عشرة التي حُكم بها على هرقل.
وجدت نفسي أمام صراعات نرجسية لا تحركها سوى طموحات شخصية بليدة، لا تتعدى دبدبات على الظهر من قبل مسؤول، او صورة امام الميكروفون وتعليق على صفحة الفيس بوك او في أقصى الحالات، تعويضات مادية لا تتعدى بعض الدريهمات. وجدت نفسي بعالم المرضى بالوهم. فهناك من يعتبر نفسه شاعرا يدندن ببحور الخليل، وهناك من يرى نفسه قاصا لا مثيل له ومن يرى نفسه كاتبا مسرحيا وآخر يعتبر نفسه ناقدا ألمعيا وهناك من كان يحلم بتلقي دعوة من مسؤول كبير يوشح صدره بالحمالة الكبرى الخ..فكانت تنتج عن ذلك صراعات لا مرجعية فكرية او ثقافية او ادبية لها. صراعات تغذيها الغيرة ويشعل نارها الحسد. لا تحركها مبادئ كتلك التي حملها ولا زالوا بعض المثقفين الكبار القلائل حيث الإيمان بحقوق الإنسان والديمقراطية التي تشبعنا بها خلال انتخابات داخل الجمعيات او الأحزاب او النقابات، رغم ما كان يشوبها من بعض الخروقات. صراعات هؤلاء "المثقفين" أخبث بكثير. فيكفي، مثلا، ان يتفق على مائدة دسمة البعض منهم، بعيدا عن قانون الحريات العامة، رغم علاته، الذي يفرض إجراءات اكثر ديمقراطية من تفاهتهم وديكتاتوريتهم، ويشكلوا مكتبا، من غير جمع عام، لجمعية هدفها استمالة الداعمين والاستفادة من الريع المادي والمعنوي او الاستفادة من اعفاء من العمل داخل مصلحة ما، بدعوى التفرغ للعمل الثقافي. وتصل بالبعض منهم الوقاحة "كمثقفين" ان يدونوا بالقانون الأساسي ان بعض الأعضاء يعتبرون "دائمي العضوية" بجمعية طبخوها ليلا، حول "حولي مشوي"، كما لو تعلق الأمر بمنظمة الأمم المتحدة.
هكذا اتضح ان عالم "المثقفين" الذي من المفروض ان يكون عالما يفيد المجتمع ويساهم في توعيته وتنمية موارده البشرية، ويكون عالما يحفز ويدرب على الديمقراطية والعملية الانتخابية، اتضح انه في أقصى التخلف ولا يحمل هم المجتمع.
عالم النرجيسيين الأنانيين، عالم التفاهة. عالم النفاق. عالم الكذب و التملق. عالم القبلية بامتياز. عالم الطموح في الجوائز التي تنظمها دول البترودولار لغرض في نفس يعقوب، كما يقال. عالم مريض يصعب ايجاد دواء له. لهذا شبهته بإسطبل "اوجياس" . لا بد له من هرقل يدير مياه نهر الأمازون لكبر حجمه، لتنقيته من فيروس "كورونا الثقافي".
بين التجربتين، تبقى التجربة الأولى امتع، وأنبل رغم كل العوائق. واعتبر التجربة الثانية مقرفة جدااا ومنها قد يتسلل الإحباط لكل من ينتظر شيئا ايجابيا من هؤلاء أشباه" الأدباء المثقفين".
وحتى لا أبدو وكأنني منزه كملاك، فقد يكون هذا الفيروس قد تسرب بداخلي... فاحذروني...وعلي ان التزم بالحجر الصحي...

محمد العرجوني
17-02-2020

تعليقات

( حينما نشرت مقالتي: "تجربة مقرفة"، كنت أتمنى ان يتفاعل اكثر عدد ممكن ممن عايشوا تجربة المقاهي الأدبية. لا أنسى بهذه المناسبة ان احيي العدد القليل ممن عايشوها، على تفاعلهم من غير تردد، معبرين هكذا عن وعيهم وتقديرهم لهذا المنشور الذي اردته نقدا بناء ونقدا ذاتيا أيضا. اردته ان يخلق رغبة في التفكير المعقلن وفي نفس الوقت اردته وخزة في ضمائر من التحفوا الخبث سواء عن جهل او عمدا. واردته أيضا ان يزيح الستار عن الواقفين وراء الصمت. هؤلاء هم من اتوجه إليهم الآن لأقول لهم بان صمتهم اكثر أذى من تصرفات أشباه المثقفين. وأتساءل، كيف يمكن تفسير ذلك؟ ألأنهم غير مهتمين؟ او لا يرغبون في الإفصاح عن رأيهم؟ بمعنى لا يريدون، بمنطقهم، ان "يخسروا" احدا؟ هل يعتبرون أنفسهم "حكماء" باختيارهم الصمت؟ الخ...
كان من الأفيد ان يناقش الجميع ما تعيشه الساحة الثقافية من تشرذم نتيجة هذا التطاحن الذي اريد له ان يخلق انشقاقات داخل المدينة حتى تبقى مهمشة، كما لاحظ البعض، امام المؤسسات الثقافية، ويظل هكذا مثقف المدينة يشكو من التهميش. فعوض ان نستفيد من التجارب ونناضل من اجل الحفاظ على اللحمة الثقافية كما كانت سائدة من غير تفنن في خلق ما سماه النرجسيون "باللجن العلمية/القبلية" التي تهدف بالأساس إلى إقصاء ممنهج محليا، اختارت الأغلبية الصمت.
هذا الصمت في نظري هو ما نعاني منه في جميع المجالات. داخل التنظيمات النقابية والسياسية وطبعا الثقافية.... تربية الصمت والانتفاع... الصمت وتبديل الأقنعة... الصمت والخذلان... الصمت والنفاق... الصمت يكشف إذن غياب المبادئ...يكشف عن الجهل المقنع بالشعر والرواية والقصة والفن.... ما جدوى ان تكون، او تعتقد انك كل هذا وأنت تعيش بصمتك، مهزوما في شخصيتك... منبوذا لأنك كالضبع تقتات على الجيفة...
مع الأسف لم يستفد هؤلاء من دروس تربوية مررها لنا المرحوم بوكماخ: "الله يرانا"، "من يعلق الجرس" الخ...
ها انا علقت الجرس... فاحذروا أيها الفئران القطط الجائعة...)

محمد العرجوني
20-02-2020
 
الكاتب اللوذعي والأديب الأريب الصديق الرائع السي محمد العرجوني
قرأت بتأن وترو هذا البيان الصادم الذي يقطر مرارة وحيرة مشوبة بالألم والاحباط النفسي الذي تخلفه بعض التجارب التي نركب قاطرتها عن حسن نية مع سبق الاصرار والترصد.. من طعنات مميتة
نحن هنا ازاء تجربتين مررت بهما ، إحداها كانت حميدة بين ( التقدمية والرجعية) كما وصفتها.. جنيت منها درسا مفيدا في الانتماء وبناء الشخصية والثقة في النفس والتكوين النضالي على احسن وجه ، قياسا لتزامنها مع عقدي الستينات والسبعينات - أزهى العقود بالقرن العشرين- حيث اتسمت المرحلة بالغليان السياسي والايديولوجي و بصدق الانتماء ، وعمق الادراك ، ونية القصد من دون تطرف او انتهازية أو تطفل.. هكذا احدس كواحد ممن عاشوا هذا الجيل الذهبي بدون منازع
فيما تتميز التجربة الحالية بحرب بين ( النزاهة والانتهازية) التي افرزت جيشا جرارا من الشعراء والزجالين والكتبة الاميين الذين لم يفتحوا كتابا .. حتى كثر الشعراء ولا شعر .. وكثر الكتاب ولا كتابة.. هكذا يتكالب الوصوليين من كل حدب وصوب وبكل حربائيتهم وتلاوينهم وثعلبيتهم .. ساهمت فيها العديد من المؤثرات ، اهمها سخاء المبادرة الوطنية التي اسالت لعاب الانتهازيين والمنبطحين وضعيفي النفوس ، الذين تحولوا بين ليلة وضحاها الى مقدمين ومخبرين وبصاصين ، بدون اخبار المخزن، يقدمون التقارير المخابراتية ، ويستهلون انشطتهم بالنشيد الوطني ، واضحى النضال ضد الظلم والفساد تهورا ونزقا ، والانتماء لليسار مراهقة سياسية .. والاستقامة غفلة ومسكنة . وانتقاد الوضع السياس المزري والبائس هرطفة كلامية ، واصبحت الجمعيات حتى الثقافية منها رهينة بتسيير السلطات عن بعد ، عبر تغيير وإقصاء الاشخاص الذين لا يخدمون رؤيتهم ، والتدخل في انتخابات مكاتبها ، الشيء الذي يميع العمل الثقافي والجمعوي ويفرغه من جوهره ، ويحيل المثقف إلى ( عياش) يستجذي الهبات ، وينبطح من أجل لعق فتات الموائد ، مما يتفضل به إعوان المخزن ، الشيء الذي يطابق مقولة فلاديمير إيليتش لينين التي قول فيها
" المثقفون هم أكثر الناس قدرة على الخيانة، لأنهم أكثرهم قدرة على تبريرها"
 
أعلى