عذري مازغ - نيتشه في ترجمات العرب : الملحد في الغرب مومن في الشرق، ترجمة فليكس الفارس نموذجا


أثارني موضوع مؤخرا حول ترجمة كتاب "الفجر" لكاتبه الألماني نيتشه، كان التقديم فيه شيء لا يربطه بموضوع الكتاب إلا مفهوم التربية بقلم المترجم محمد الناجي، وإذ كنا لا ننكر للأستاذ محمد الناجي أعماله الأخرى في نقل المعارف الإنسانية إلينا ومن بينها ترجمات أخرى له لنفس الفيلسوف إلا أننا نقف مندهشين لذلك التقيدم في كتاب "الفجر"، إن موضوع الكتاب يتناول نقدا مفصلا لنيتشه لمفهوم الأخلاق شقها في التقديم نقيض تماما لمحتواها في الكتاب المترجم، واعتقد جازما أن هذا الكتاب كان يتواجد عندي منذ سنة 2014 ولم اقرأه بسبب مقدمة المترجم التي أوحت لي بأن الكتاب موجه لأقسام الثانوي في المدارس المغربية بحيث تتسم بالوعظ الديني والتحسيس بانحطاط الأخلاق من خلال قياس وجودها الآني على وجودها في الماضي، التقديم يتكلم عن انحطاط الأخلاق من منظور ماضوي يكرسها كما ورثناها، أما محتوى الكتاب فيتكلم عن نقد ونقض للأخلاق الموروثة نفسها باعتبارها تثقل كاهل الإنسان (يمكن هنا أن يتدخل أحد المصلحين الأخلاقيين ويعيد نفس المقولة حول نيتشه: إنه ينتقد الغرب المسيحي وهذا صحيح، لكن فضلا عن ذلك ينتقد الأخلاق الموروثة دينيا بشكل عام، ثم إن الديانات متوارثة فيما بينها في قضية الأخلاق)

في التقديم يقول محمد الناجي:" تشهد بلادنا تدهورا خطيرا في القيم... ليصل إلى القول بأن: " من مظاهر ذلك استخفاف الصغار والشباب بالكبار بكل وقاحة واعتبار قيم الجيل السابق كلها قيما بالية يجب نبذها وإحلال القيم المستوردة محلها"

في محتوى الكتاب المترجم هناك مقولة لنيتشه هي النقيض التام لهذه القولة: " لنكن متسامحين مع العور الكبار" قالها ستيوارت ميل وكأنه مطلوب منا ان نكون متسامحين مع ما اعتدنا ان نومن به ونكن له الإعجاب! أقول: لنكن متسامحين مع الذين لهم عينان كبارا وصغار لأننا، مثلما نحن الآن، لن نقوم باكثر من التسامح."

فالتسامح هنا في منظور نيتشه هو تسامح الافراد بدون أي تمييز سواء على مستوى السن او الجنس أو الجيل أو أي شيء آخر.

باقي التقديم (أو مقدمة محمد الناجي للكتاب) فتأخذ نسقا آخر بعيد كل البعد عن عنصر التشويق لقراءة كتاب هو في طابعه القيم كتاب فلسفي وليس كتاب تربوي، هو سياق عام قد نختلف او نتفق حول بعض نقطه لكن إجمالا لا علاقة لذلك بالكتاب

لولا قرائتي لترجمات أخرى للأستذ محمد الناجي لا اعتقدت انه، من خلال تقديمه لهذه الترجمة لكتاب "الفجر"، انه ليس هو صاحب الترجمة بل لأحد طلابه، فالترجمة تفتقد إلى الإحالات والإشارات المرجعية في الهامش كأنه كتاب موجه للنخبة فقط. فمثلا حين يشير نيتشه لروحانيين مثل بولس المسيحي يفترض أن القاريء المغربي يعرف بولس هذا ويعرف محاوراته، وحتى لو كان المتلقي يملك موسوعة ثقافية فذاكرته ليست ذاكرة حاسوب.

نموذج آخر لمقدمات ترجمات أخرى لكتب نيتشة (ويمكن تعميمها حتى في ترجمات أخرى) وهي نماذج تنتهك عقلانية القاريء خصوصا حين يسرد أسباب ولوجه لترجمة الكتاب حيث المترجم يصبح هنا بقرا يلحس جسمه كونه قام بعمل جبار: صحيح، كل مترجم موضوعي لعمل ما، بغض النظر عن أخطاء ترجمته او عدمها، كونه قام بالعمل بالنية الحسنة كما يقال، فهو مترجم يستحق التنويه والشكر، لكن لحس الذات في الترجمة هي امر ممل جدا، صحيح أن نيتشه يمزج بين ثقافة عصره وثقافة عصور سابقة عليه على مستوى اللغة، يمزج بين المعرفة البدوية (اللغة البدوية) واللغة الأدبية (أحسن الكتاب عادة هم من يملكون هذه الخاصية من المزج) في كتابته وهو ما يزيد من جهد المترجم لنقل المعنى بشكل دقيق لكن إرادة ترجمة موضوعة معينة لا تستلزم أن يشيد المترجم بذاته ليدخلنا نحن القراء والمتلقين في تبجيل آخر محاكاة لتبجيل العامة لرجل سلطة، إن نيتشة نفسه يرفض هذا التبجيل . الأمر الآخر، بخلفية إيديولوجية للمترجم ينتقد النص الذي يترجمه في المقدمة ويعرض علينا تناقضات الكاتب وفق منهجية خاصة بشكل يطرح السؤال التالي : هل تتوخى أن يكون المتلقي مثلك أيها المترجم؟

لنأخذ مثلا مقدمة أول من ترجم كتاب "هكذا تكلم زراداتش" في الثلاثينات من القرن الماضي وأقصد بالتحديد ترجمة فليكس فارس: يمكن أن نتفق على اعتراضاته في التقديم، لكن نيتشه في حد ذاته نمط تفكير معقد بشكل لا يقرأ استنادا إلى "هكذا تكلم زراداتش" بل يمكن قراءته استنادا إلى استنتاجات عامة من كل مؤلفاته.

لكن ليس هذا هو المهم في تقديم فليكس فارس فهو كاتب أيضا يقارن عبقريته بعبقرية نيتشه ويطرح محاورة في النقض تستند إلى مرجع هو مؤلفه الشخصي: "منابت الأطفال " نقضا لنظرية داروين في الإنتخاب الطبيعي" وهنا لا تهم علمية المترجم في مؤلفه عما إذا كانت متوفقة ام لا، بل المهم هو هذه الشيم من تقديم ترجمة بإحالة إلى مؤلفات المترجم بشكل تجعل من فليكس اول مخترع عربي للإلهام الإشهاري: تقديم بضاعة من خلال إسهام بضاعة اخرى : تقديم مبارة في كرة القدم من خلال كوكا كولا.

لكن هاكم تناقض فليكس (أفضل شخصيا كتابته فيليكس الفارس، لا يهم!)، في المقدمة تلك يطرح فكرة من كتابه "منابت الاطفال" هي في الوهم فقط مخالفة لنظرية الإنتخاب الداروينية بينما في الحقيقة تؤيدها:

" إن الإنسان لا يريد الانقياد للإنتخاب الطبيعي، فهو يطمح إلى اختياره في حوافز لا يعلم منشأها..." اول من نبه إلى هذه الخاصية العربية بامتياز هو مهدي عامل اللبناني: خاصية القول ونقيضه في نفس الجملة، لكن مع ذلك لا يجب ان نلوم فليكس كإنسان نقيض لإنسان نيتشه، إنسان رباني يوثر في الطبيعة دون ان يتأثر بها أو ربما "الحوافز" لا يعلم منشأها كما قال.

لن أستمر في إتيان جمل فليكس التي تعبر بأمانة عن الإستثناء العربي في القول ونقيضه في نفس الجملة، يمكنكم العودة إليها في مقدمته لكتاب " هكذا تكلم زرادتش"

لكن وحتى لا نظلمه بإخراج سياق جدله مع نيتشه الذي انطلق فيه من "هكذا تكلم زراداتش" مرورا بداروين (نظرية الإنتخاب) وصولا إلى ماركس والإتحاد السوفياتي يلزمنا الأمر كأمانة أن نقول بأن كل هذا العبور القاري والتبحر ليس اكثر من مقتطفات من كتابه "منابت الأطفال" الذي ينهيه بإيمانه العميق بالعدم توهجا في الله، يقول: " أما نحن أبناء هذا الشرق الذي انبثق فيه الحق انصبابا من الداخل بالإلهام لا تلمسا من الخارج، فلنا هذا المسلك المفتوح منفرجا أمامنا للاعتلاء والخروج إلى النور بعد هذا الليل الطويل إذا نحن اخذنا بروح ما أوحاه الحق إلينا لا بترقية الزراعة والصناعة ولا بنشر التعليم والتهذيب ولا بجعل البلاد جنة ثراء وتنظيما، تنشأ الأمة ويخلق الشعب الحر السعيد"

إنه نفس الشيء كما في مقدمة محمد الناجي في ترجمة "الفجر" نص يتوخى تقديم كتاب محتواه نقيض لما تقوله مقدمة المترجم، نص لمقدمة تحتفل بالروح الدينية والعدمية نصرا للشرق المجيد الذي لا يهمه لا التعليم ولا الإرتقاء ولا التنظيم (هل تصدقون هذا؟؟)، نص يعدم بهجة الحياة ويراها ظلاما في توق إلى الوجود النير الغير موجود اصلا إلا في مخيلة المومن.. وبعد هذا التمهيد الطويل من مقتطفات كتاب المترجم يعود ليستدرك تناقضه مع محتوى الكتاب باعتبار أن تمهيده الموجز هذا ليس مجال لبحث فلسفة نيتشة مع دس بعض الروح الإنتقائية من قبيل ان يأخذ المتلقي من نصوص نيتشة ما يناسب إيمانه، غير ان الذي يأتي بعد هذا الإستدراك أخطر من الإستدراك نفسه إذ راح المترجم يتأول فلسفة نيتشة تأويلا دينيا اعتمادا على تأويل مفهوم إرادة القوة عند نيتشه لتصبح في الأخير هي الله نفسه ويصبح نيتشة مسلما بقدرة المترجم وهذا ما سنلاحظه في مستهل يقول فيه:

" إن نيتشه يعلن إلحاده بكل صراحة ويباهي بكفره غير اننا لا نكتم للقاريء الكريم أن ما قرأناه بين سطوره (....) يحفز بنا إلى القول بأننا لم نر كفرا أقرب من الإيمان من كفر هذا المفكر الجبار (...)" ثم هذا ما سنراه أيضا في متن التقديم حين يتطرق لصحراء نيتشة وأسدها، لكن الشيء الوحيد الذي لا يراه المترجم وعلله بكون نيتشة ينتقد الصورة المشوهة للمسيحية هو نقد في عمقه الفلسفي موجه ايضا لكل دين أو على الأقل في الجانب الأكبر لانتقاده يمس كتلة الروح وكتلة العقل الديني وكتلة الأخلاق والفضيلة والمواساة ومفهوم الجهاد (التضحية بلغة نيتشة) أي كل ما يشكل في الدين قاعدته الروحية ومنه الدين الذي عندنا أيضا نحن الشعوب المسلمة حيث أن المترجم يحلو له أن يعلل نقد المؤلف للمسيحية المشوهة ولا يرى بحس النقد نفسه وجود إسلام مشوه او ان يضع في اعتباره مثلا أن لدينا نفس "الصورة المشوهة" للإسلام كإسلام البخاري وابن تيمية مثلا والذي منه يغدق الشرع الإسلامي..

في سياق شرح نشيد الصحراء لزراداتش استعان فليكس المترجم ب"روبرت ريلنجر" أستاذ بجامعة فيينا( يذكر عنه فقط أنه عالم وملم بفلسفة نيتشة) لتاكيد ما إذا كان فكه لرموز النشيد موفقا ليأتي رد هذا الأستاذ موجبا تماما وليتلقفها الأستاذ فليكس على عواهنها وكأن الترجمة تتم بالعواطف:

" أرى خلاصة معنى النشيد في فقرته الاولى المكررة في آخره، فإن نيتشة قد رمز بالصحراء إلى الوجود القاحل الذي لا غاية له (...)

أما كلمة "صلاة" فقد أصبتم في ترجمتكم إياها "حيا على الصلاة"، هذا وقد يكون النبي محمد هو المرموز إليه بأسد الصحراء ونذيرها حسب تأويلكم"

ترجم الكاتب التونسي علي مصباح كلمة "صلاة" ب "سلاة" يعني تركها كما هي في النسخة الإنجليزية وكتب إشارة في الهامش يشير إلى ذلك معللا الأمر كونها لا زمة تهليل في المزامير (العهد القديم) والتي تقابل كلمة هللويا وأشار: "لم نترجمها بكلمة عربية متداولة مثل ياللروعة! أو مرحى!" مشيرا في نفس الوقت إلى ترجمة فليكس التي ترجمتها على انها "حيا على الصلاة"

"الغاية تبرر الوسيلة" هذه المقولة البراغماتية هي من يؤطر مقدمة فليكس، ليس الترجمة في حد ذاتها بل غياب فيلسوف "جبار" كما يسميه فليكس في المكتبات العربية (وهذا ما ردده في مقدمة ترجمته أكثر من مرة) ولكي نترجم له بعض أعماله، لكي نوجده في المكتبات العربية علينا أسلمته بشكل يبدو كفره كفرا بذاته من حيث اتى وإيمانا من حيث انتهى إلينا، إلى صحرائنا القاحلة (هذا أيضا مضمون مقدمته النقدية وليس التقديمية التي هي أيضا مرافعة ضد نيتشة من خلال مثاقفته بروح الشرق)، والغاية هنا تبدل حتى مضمون الترجمة ولا يهم كيف سيتلقاها القاريء "الكريم" كما يصفه دائما المترجم فليكس، لا حظوا الفرق بين ترجمتين لنفس النص وهو نشيد الصحراء السابق الذكر، نص فليكس الفارس ونص على مصباح:

نص فليكس:

"إن الصحراء تتسع وتمتد فويل لمن يطمح إلى الإستلاء على الصحراء

يا للمهابة!

يا للبداية تليق بمهابة صحراء إفريقيا

تليق بأسد أو بنذير يهيب بالناس إلى مكارم الأخلاق

إنها لروعة لم تسلط عليكما ياصديقتي عندما أتيح لي انا ابن أوربا أن اجلس عند اقدامكما تحت ظلال النخيل. حيا على الصلاة"

نص علي مصباح:

"الصحراء تمتد وتتسع وويل لمن يحمل صحاري في داخله

ــ ها! يا للمبهابة!

إنه فعلا لأمر مهيب!

بداية لائقة!

بمهابة إفريقية

بما يليق بأسد،

أو بقرد يزعق بمواعظ اخلاقية ــ

لكنها لا تساوي شيئا امامكما

صديقتي المحببتين، أنتما

اللتين تسنى لي

لأول مرة،

أن اجلس عند اقدامكما تحت النخيل ــ سلاة!

لا شك أن مضمون الترجمتين شاسع فحتى القرد في ترجمة علي مصباح كان مقابله كلمة "نذير" وهي اسم فاعل لفعل الأسد الذي هو الإنذار، التي هي أو هو محمد النبي في مقدمة فليكس أما الجملة بعد كلمة نذير فهي تحمل مدلولا مناقضا لمدلول التي تأتي بعد قرد في ترجمة الأستاذعلي مصباح.

المقارنة شاسعة إذن بين من يترجم بخلفية الغاية تبرر الوسيلة وبين من يترجم لأجل نقل كتاب بأمانة وموضوعية واضعا في اعتباره جسامة المسؤولية وهو ما يفسره تناقض الهوامش بين المترجمين، هوامش تميل إلى شرقنة افكار نيتشة عند فليكس واخرى تضعها في سياقها الغربي، وحتى العبارة الأولى من النشيد فترجمتها تمت عند فليكس وفق خلفية قف ضد المحتل أو (ويل للمحتل) بينما عند علي مصباح هي الويل لمن يحمل في داخله القحل والجفاف والعذرية، تصوروا الآن جسامة المسؤولية فيما اقترفه فليكس في حق نيتشة، فرغم مرافعته النقدية أو بالتدقيق، برغم مثاقفته لنيتشة في مقدمة خارقة نسي، برغم ذلك الجهد في المثاقفة أن للتاريخ دور لا يرحم وان العلاقة بين الشرق (المشرق تحديدا) والغرب تمسح ويلاته من احتلال الصحراء مع تكونن الرأسمالية.

لكن ليس موضوعي هذا هو الدخول في مقارنة ترجمتين لعربيين لنفس الكتاب برغم انها تستحق بحثا كاملا بل هدفي هو قراءة حول نيتشة في مقدمات المترجمين العرب

لقد تكلمت عن مقدمة محمد الناجي التي لا علاقة لها بكتاب الفجر وهو نفسه تدارك الامر حين أشار في ختام تقديمه: لفهم نيتشة عليك بالأدرس والقواطع.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى