إنتصار أبوراوي - واحتضنها لوحدها

استقبلتنا بضحكة واسعة غطت وجهها العريض فرحة بقدومنا المفاجئ، ثم دخلت علينا والدتها واحتضنتنا بفرح، فهلت أنسام جميلة لفحت وجوهنا بأثر الاستقبال الحميمي الذي حف بنا من كل جانب.

قالت لنا: نسيتم أن تحضروا لي أغلى شيء على قلبي، إلا تعرفون أنني احبه كيف نسيتموه؟

وحملقنا في وجوه بعضنا البعض، كيف نسينا أن نقتطف لها حزمة من الورد المزروع أمام مبنى العمل؟.. كانت تحمل باقات من الورد المزروع أمام مبنى العمل، وتوزعه على كل واحدة منا قائلة: لا يليق بالورد، إلا الورد.. فكيف نسينا أن نهديها أجمل ما أحبته في حياتها.

كان الزمن يحفر بإزميله فوق أيامها المهدورة، وهى كما هي تغيرت ملامح وجهها قليلاً، ولكن ظل قلبها عابق بالاشتياق لارتواء لم يحدث.. كانت تبدو أحيانا أمامي وكأنها مراهقة ابنة خمسة عشر ربيعاً، تردد أغاني الحب وتتلذذ بتنغيمها بين شفتيها، وأحيانا أخرى كانت تبدو وكأنها عجوز ابنة تسعين عاما، لاشيء بداخلها سوى إحساس بعمر مهدور.. كنت أراها بطولها الفارع وجسدها الممتلئ وعيناها اللتان تشعان حياة ومرح، وكأنها شجرة وارفة الظلال هزتها رياح الأماني والآمال ولكنها لم تنحن بل كانت تغنى غناءً كالنحيب، شجرة وحيدة، ولكن عواطف العالم تضج بأعماقها قالت لي ذات مرة:

- أخاف من كل هذه العواطف التي تعصف بجسدي، ولهذا أقمطه جيدا، كي لا تتجه إليه العيون المريضة وتستغل وحدته واحتياجه.

كانت الوحدة قدرها الذي لم تخاف منه، واجهتها بقوة وتعايشت معها، لم تكن تتقن لعبة الأخريات، و كلما حاولت الدخول للعبتهن خرجت من الدور الأول هكذا ببساطة وسذاجة مضحكة حين ادعت الكذب فضحتها الضحكة، وحين لعبت لعبة الإدعاء شدها الصدق من أذنها ليردها عن الطريق، وحين أرغمها الآخرون على المسايرة لتفوز بالرضا فضحتها سيل الكلمات المتفجرة بالحقيقة.. ولكنها لم تفز سوى بالموت الذي زفها في عربته الغادرة، وحلق بها بعيداً عروساً متوجة بإكليل الورود، عروس لم يمسها بشر تطيبت بحناء الوجع وغادرت بهدوء.

كانت قد وعدتنا فى زيارتنا اليتيمة لها بأن تزورنا حين تتعافى من المرض، ولم تكن تعلم بأن للموت رأى آخر، وانه كان يترصد ها من بعيد ويراقب رغباتها الصغيرة بسخرية، رغباتها التي لم تتسع لها الحياة وضاقت بها، وآبت أن تنجزها له، فأية أوجاع رسمت حفرة بتجويف الكبد الذي لم يحتمل الفجيعة تلو الفجيعة، والخيبة تلو الخيبة، فشدت رحالها عن دنيا لم تكن لها، وما كان لها منها سوى الموت، فتحت للدنيا ذراعيها فأغمدت سكينها بجسدها المتوثب للحياة، كانت الدنيا أصغر وأضأل من أن تفتح ذراعيها لها وفاز الموت بالسبق لتقديم الخلاص وبدون مقابل.. اشتهت أن تلبس ثوب الفرح الأرضي، وتتزين بقلادة الفرح البهي، وتتمخطر بخفر عذراء لتهب الحب المسيج بالدلال للقادم من حجب الغيب.. ولكن عريسها الموت كان قد حضر نفسه لعرسها دون أن يوزع بطاقات دعوة، ولم يعلم أحد بموعد العرس، سربها بهدوء وصمت جاءها فاتحا ذراعيه لها، لم يزاحمه عليه أحد جاءها قويا وسريعا ومفاجئا، واحتضنها لوحدها..



* المقتطف
العدد: 39.. السنة: 03.. 07/2004

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى