أفنان القاسم - الحجرة

الروح من طبيعة مستقلة عن الجسد.
رونيه ديكارت

**

المراهقون الممزقون بين نداء الشهوة ورعب الخطيئة.
أندريه موروا

**

الإنسان هو الكائن الذي لا يمكنه الخروج من ذاته، الذي لا يعرف الآخرين إلا في ذاتهم.
مارسيل بروست

كانت لحجرتي أربعة جدران واطئة ونافذة واحدة بِصِفقين مغلقين دومًا، وكان الضوء يتسلل بالكاد منهما، بالقدر الذي تنقص معه العتمة. كانت حجرة صغيرة، مستطيلة، في الطابق الأول، تطل على الفناء. وفيما مضى، كانت أمي تجعل منها تَسقيفة البيت. كنت قد صنعت ستارًا من الشراشف القديمة الملونة، المثقوبة في الوسط وعلى الجوانب، لأقسم حجرتي قسمين، أحدهما أكبر من الآخر، ولأخفي سريري.

صعدت على كرسي من القش لأفحّم بقعة انحلت على جبين إليزابيث تيلور. كنت قد رسمت على الجدار صورة الممثلة التي أعبدها، وكنت أتمنى أن تتجلى لي ذات يوم بجسدها لأقضي معها ليالي الهوى الأكثر جنونًا. نمقت جبينها، وأعدت رسم حاجبيها المذهلين، ثم نزلت لألتصق بالجدار المقابل، وأفحص عن بعد اللمسات "السحرية" التي أضفتها. لم يرضني ما فعلت: كنت قد سودت الجبين أكثر مما يجب، فوق الحاجب الأيمن خاصة، وكأن ذلك ضربة عصا! لم أفعل ما يمكن إصلاحه، فلم أكن رسامًا. كنت قد أنجزت هذا الرسم دون ميزة ولا روح، دون استعارة ولا رسالة، لأني لم أولد للرسم. كان ذلك لسد الفراغ، فقط، أو ربما لإضاعة الوقت.

- عدنان!

كانت أمي.

- ينتظرك شريف على الباب، انزل!

ألحت:

- انزل، يا عدنان! شريف ينتظرك!

كانت حجرتي تقع فوق المطبخ، وكنت أفضي إليها بالصعود على درج ضيق من الخشب. لم أكن أرغب في رؤية شريف، أعز أصدقائي. كان واقع أن أجد نفسي في حجرة معتمة، حجرة معلقة، يعمق من رغبتي في العزلة. كان عالمي ينحصر بين جدراني الأربعة الصغيرة، ولم يكن الخارج يثير اهتمامي. كان للقلق والحزن والعزلة في حجرتي مذاق لذيذ.

- هل تسمعني، يا عدنان؟ انزل، شريف ينتظرك!

سمعت قبقاب أمي، وهي تحاول الصعود بحذر، لهاثها التعب من وراء الباب، دقاتها: طق، طق، طق... وهذا السؤال الذي لم يكن موجهًا إلا لطمأنتها:

- هل أنت هنا، يا عدنان؟

تماهت النبرة الحادة التي كانت لها منذ قليل بالقلق، كانت على التأكيد تفكر أنني لم أكن هناك، أنني خرجت دون أن أعلمها، وكان ذلك يقلقها كثيرًا: كانت تريد أن تعرف كل شيء عني، حركاتي، أفكاري، وكنت لا أحتمل ذلك. تخيلتها مصابة بالرعب، فأشفقت عليها. آه! يا للأم التعسة!

أمسكت أنفاسي، وعيناي تحطان على قبضة الباب. كنت أسبب لها القلق، مما أسعدني. وأنا أحتفظ بالصمت، كان ذلك كما لو كنت آخذ بثأري الصغير منها، في حين أنها رأتني أصعد إلى حجرتي قبل ساعة. كانت على التأكيد تتساءل أين أمكنني الذهاب، وعلى الخصوص كيف نجحت في التخلص من تنبهها. أدارت قبضة الباب بعصبية، كان الباب موصدًا. بقيت صامتًا، ونظرت إلى صورة معبودتي التي رأيتها تقترب مني فجأة. عادت أمي تطرق الباب بيدها الرقيقة، ولكن الشديدة والعريضة، دون أن تحصل على جواب. كانت الحجرة تسقط في صمت مطبق، وأنا، كنت أتجسد شخصية أخرى، شبحية. مُسِخْتُ في ظل وادع، بوداعة ظل معبودتي التي بدأتُ أحس بنفسها، وهو يمتزج بنفسي. لكن هدوئي كان خادعًا، لأني كنت أقدر قلق أمي، ولم أكن أفعل شيئًا. ليدوم ثأري. كان ذلك شنيعًا من طرفي، لكنه أقوى مني. كانت تلك الطريقة الوحيدة للإفلات من سلطة أمي، وإرضاء جبني.

لم أزل أسمع بعض الخطوات المترددة، ثم عادت تنزل الدرج، وهي تطرق قبقابها دون أدنى حذر، الآن بعد أن اعتقدَتْ أنني لم أكن موجودًا. كنت قد أثرت غضبها. سمعتها بخفوت أقل، وهي تدخل الصالون، وتنفستُ الصعداء. انفك ارتباطي بالصورة، وفقد الرسم كل ما يشدني إليه. كانت فوضى الخطوط تشكل في العتمة لطخة على الصدر والكتفين، وكنت أشعر بالجفاف في حلقي، وأنا أقول لنفسي، لقد قهرتها، بالطبع أمي. ستقول لشريف: وجدت حجرته موصدة! خرج حتمًا دون أن أنتبه إلى ذلك، وهذا أمر غريب حقًا! إنها المرة الأولى التي يخدعني فيها هكذا، أنا أمه! سيقول شريف مخيبًا، وهو يقطب جبينه: طيب! قولي له أن يلحقني إلى المنزل، فلدي ما أقوله له. – ماذا؟ - آه! لا، يا مدام هاشمي. إنه سر ما بيننا. – سر؟ عدنان لا يخبئ شيئًا عن أمه. أبلغك أنني أمه، في حالة إذا لم تكن تعلم. – أعلم، يا مدام هاشمي. أعلم أنك أمه. مع السلامة، يا مدام هاشمي. إياك أن تنسي، ليلحقني إلى المنزل حال عودته. سيعطيها ظهره مفكرًا: آه! يا للأم المضجرة! سيداعب برفق الورود التي في الأصص، الموضوعة على درجات السلم الخارجي، ثم لن يفكر فيّ. كان ما يهم شريف شيء واحد: الحب. هذا ما كان يريد أن يقوله لي. الحب، الحب، الحب... على عكسي، دومًا ما كان لشريف مشروع جاهز لاقتناص بنت، وبنت عائلات، يعني غبية، لكنها تفي باللازم لبعض الوقت. جميلة أم لا، لم يكن ذلك مهمًا، لكنها غالبًا ما تكون جميلة، بالنظر إلى المحتِد الأرستقراطي لفرائسه المحظيات. ولماذا بنت عائلات على التحديد؟ لأن بنتًا من هذا النوع غالبًا ما تكون غبية، ومن السهولة أن تسقط في شباك ولد كريم النسب كشريف. أضف إلى ذلك أنهن غالبًا ما يكن حالمات، يعني مستعدات لكل شيء، رغم تربيتهن الصارمة، وكل المحرمات التي تتضمنها.

ابتسمت، وأدرت ظهري للرسم. سحبت الستار، وجلست على حافة سريري. كان من الحماقة ألا يهمني الحب بالقدر الذي يهم شريف. ربما كنت مختلفًا. كنت جافًا كرمل الصحراء، لأني أكمم عواطفي منذ البداية. كنت أخشى الوقوع في الحب. كان شريف قادرًا على أن يحب فتاة في كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة، كل ثانية، وليس أنا. من جهة أخرى، لم يكن ذلك يسمى حبًا ولكن حبًا عابرًا. في نهاية الأمر، لم يكن شريف يعرف عن الحب شيئًا. أنا كنت أعرف، وكنت أريده أن يكون مطلقًا. ربما كان ذلك ذريعة أبرر بها خوفي من الحب، ضعفي أمام أهوائي، هربي من كل عاطفة تبديها فتاة لي. كنت أفضل الظمأ عزلة على الارتواء رغبة.

كنت أربط أحيانًا هذا الموقف الذي أجده غير مألوف لشاب مثلي بوضعي المالي، فالواقع أني منذ عامين لحصولي على الشهادة الثانوية العامة لم أجد عملاً. كان والدي قد أوقف نشاطه المهني لأسباب صحية، كان يشكو من ربو مزمن، وكان لي سبعة إخوة وأخوات، وأمي التي لم تكن تريد بأي حال من الأحوال التضحية بالمظاهر، كانت تحتاج وحدها إلى مرتب كامل.

وقع نظري فجأة على ركام من الأشياء في الزاوية المجاورة للنافذة. هذه الأشياء، الخالية من كل ذاتية، أثارت انتباهي. نهضت لأراها عن مقربة، وكنت أعرف مسبقًا أنها أشياء محطمة، وبالتالي ليست نافعة. مقاعد فقدت ذراعًا أو قدمًا، درفات ذات مرايا مشدوخة، منضدات معوجة، ملابس ممزقة، أغطية من الصوف قرضها العُث. ولكني لاحظت للمرة الأولى أن عنكبوتًا كانت قد نسجت شبكة ضخمة، وأقامت عشها في ثقب في السقف. ورأيتها، عريضة وشديدة السواد، تختلف اختلافًا كبيرًا عن الحشرات التي اعتدت مصادفتها. وربما لأنها أحست بوجودي، تحركت العنكبوت، وبدأت تحدق فيّ بعينيها المدورتين والمستقصيتين. أحسست فجأة بالتفاهة. عادت العنكبوت إلى النسيج، فشعرت في فمي بخيط من اللعاب باردٍ برودة الخيط الذي كان يخرج من جوفها. فكرت: كلانا حشرة! لم يطل بالعنكبوت الأمر أن اعتادتني، وخيل لي أنها حيتني قبل أن تغيب في ثقبها. نعم، كلانا حشرة. هذه الحجرة عشنا. في الماضي كانت تسقيفة البيت، واليوم، للعنكبوت ولي، مدانا الحيوي.

كان بإمكاني الاحتفاظ بحجرتي في الطابق الأرضي، وألا أقترح على أمي إقامة صغارها فيها. لكني كنت أريد بناء عالم لي وحدي دون معونة أحد، عالم منعزل، حيث أستطيع أن أكون فيه حرًا تمامًا. بدت لي التسقيفة المكان المثالي. أصلحنا ما يمكن إصلاحه، بعنا كل الخردوات المعدنية والنحاسية، أحرقنا الأشياء الأقل نفعًا، حتى أستطيع في النهاية دخول عالمي دخول المنتصرين.

دخول المنتصرين؟ ليس تمامًا. لأني لم أكن مستقلاً إلا في الظاهر. ستبقى حريتي خدعة طالما ظلت أمي تلاحق خطواتي، أفكاري، رغباتي... ما عدا مغافلتها، وسرقة بعض لحظات المتعة، كنت مراقبًا بلا انقطاع. كانت فكرة أن أشارك عالم الظل وشبه الظل هذا العنكبوت السوداء مرعبة وعبقرية. كانت تجربة مبتكرة، تجربة لا يملكها أحد غيري نكاية في كل شيء. لم أكن أنكر علاقتي بالحشرة، ولم أكن أديم صراعًا من أجل العيش ما بيننا. كنت أعيش معها وكل الحشرات التي ألتقيها من وقت إلى آخر. كنت أعتبر نفسي عليها ملكًا، وهي رعيتي. وأنا بالنسبة لها سأكون الأقوى دومًا، الأكثر خطرًا، ولكن الأكثر ضعفًا بالعلاقة مع أمي وناس العالم الخارجي، الأكثر جبنًا.

وأنا أريد أن أمسح أُس كرسي من القش، أثرت زوبعة من الغبار. عندما نفخت على يدي، انتشرت في الحجرة رائحة صمغ ورطوبة. لم أستطع التحكم بسلسلة من العطس إلا بالتنفس عبر منديل من الورق. كنت خائفًا من أن تسمعني أمي. توصلت أخيرًا إلى تهدئة النوبة. ألصقت أذني على الباب للتأكد من أنها لم تكن تصعد درجي الضيق الخشبي، وبعد ذلك رميت نفسي على سريري منهوكًا، وحدقت في السقف.

قالت أمي لأبي، أمي التي كانت تعتبر أني لم أزل طفلاً:

- يقلقني الولد، راح دون أن يخطرني، وهو ليس عند شريف، فأين أمكنه أن يذهب؟

قال أبي:

- لم يعد طفلاً كما تعتقدين، فهو كبير بما فيه الكفاية ليذهب حيث يشاء، توقفي عن معاملته كطفل.

- سيظل لي طفلاً دومًا، طفلي، طفلي الوحيد.

- والأطفال الآخرون الذين لك، ليس لديهم حساب عندك؟

- لا، ليس لديهم حساب عندي، هم أولاً أطفالك.

- أطفالي وأطفالك.

- هم أولاً أطفالك. عدنان شيء آخر، عدنان طفلي، هو بكري، كل حب الأم الذي لدي له. هو مفضلي.

- ما أنت إلا أنانية، تفضلينه لأنه كبير الآن، لأنه يستطيع العمل لخدمتك.

- هذا بالتأكيد، لقد أحسنت القول، عليه العمل لخدمتي، لتحقيق كل رغباتي، وزد على ذلك سيكون الشيء نفسه للآخرين عندما يكونون في عمر يكدون فيه. على الجميع أن يتعاونوا بما أنك قاعد في البيت، مختبئ كامرأة.

- أنا المريض، مختبئ كامرأة!

وأخذه سعال عنيف.

- توقف عن السعال، هلا توقفت؟

لم يستطع التوقف.

- قلت لك توقف عن السعال، يا ضفدعة! توقف عن السعال!

توقف أخيرًا.

- لا تدعيني ضفدعة، من فضلك!

- عندما تبدأ بالسعال، وكأنك تفعل ذلك عمدًا كالضفدعة، وكأنك لن تتوقف أبدًأ.

- لا تدعيني ضفدعة!

- وتريد أن أدعوك كيف؟ ليث، ثعلب؟ لا الليث ولا الثعلب يمكنهما أن يصبحا مربوئين، الضفدعة بلى.

- لا تدعيني ضفدعة!

- تستطيع الضفدعة الإمساك بالربو لأنها تعيش في الماء.

- لا تدعيني ضفدعة، قلت.

- لا تريد أن أدعوك ضفدعة، إذن كيف تريد؟

- لا شيء.

- أن أدعوك لا شيء! حلوة هذه النكتة. لكن في وضعك الحالي أنت لا شيء.

- لا تكلميني هكذا، من فضلك! كنت في الماضي شيئًا كبيرًا، وهذا أنت تعرفينه جيدًا.

- في الماضي.

- الآن هناك مفضلك. سنرى إذا كان على مستوى رغباتك الشهيرة، عدنانك.

- لا تسخر به، سيكون كما أريد، كبيرًا وجميلاً وغنيًا. سيحب أمه، ويفعل كل شيء من أجل رضاها، ليس مثلك، يا ضفدعة!

- قلت لك ألا تدعيني ضفدعة، يا رب السماء! لا تدعيني ضفدعة!

- لن أدعوك ضفدعة، ضفدعة.

- ليس ضفدعة! ليس ضفدعة! ليس ضفدعة!

وأخذته نوبة السعال من جديد. هربت منه أمي. ركضت إلى الخارج، وبكت.

نظرت بتقزز من حولي. كالعادة، جعل أبواي مني موضوع شجارهم. كان كلاهما ينتظر الكثير مني، كانت أمي تقول ذلك صراحة، وأبي يخفي ذلك خلف سعاله اللانهائي، كما لو كان يطلب مني يد العون، كما لو كنت وحدي من يستطيع تقديم يد العون له، الشيء نفسه لأمي التي كنت في حسابها الطفل الوحيد، الصانع الوحيد للعجائب. هذا ما كان بالطبع يدفعني إلى الغضب ضد نفسي، لأن في الوضع الحالي للأشياء، لم أكن قادرًا على أي فعل، لا لهم، ولا لي. كنت عاجزًا بكل بساطة. لا شيء، كما كانت أمي تقول لأبي. ربما سأكون قادرًا على تحقيق رغبات أمي والرغبات الأخرى، الخفية، لأبي، لو لم أكن أنا نفسي. في الواقع لم أُصنع لتحقيق الأحلام، الصغيرة أو الكبيرة. كنت أنا نفسي حلمًا زائفًا، وعليّ الاعتراف بأني لا أحتمل ذلك.

كدت أختنق على فكرة أن أجد نفسي ملقيًا هنا دون أن أستطيع أن أفعل شيئًا. مررت بأصابعي المخدرة على عنقي، وبدأت أفك أزرار قميصي. خلعته، وخلعت بنطالي، سروالي القصير، وأردت أن أرى نفسي عاريًا في المرآة المشدوخة. لم تكن المرآة كبيرة بما فيه الكفاية. دخلت في سريري كالوليد الجديد، دون التوقف عن الحركة تحت الغطاء. أعدت قراءة أشعار بودلير التي كنت قد نسختها على الجدار، قرب مخدتي:

هي امرأة جميلة ذات عنق ثرية،

تترك ضفيرتها في نبيذها تسترسل.

مخالب الحب، سموم المقمرة،

كل شيء يزلق وكل شيء ينفل على غرانيت أديمها.

تضحك للموت وتزدري الفجور،

هذان الشيئان المخيفان اللذان يدهما، التي تحك دومًا وتَحُش،

احترمت رغم ذلك في ألعابها الهدامة

من هذا الجسد الركين والمستقيم مهابته المخيفة.

تمشي إلهة وترتاح سلطانة،

لها في المتعة العقيدة المحمدية،

وفي ذراعيها المفتوحتين، اللتين يملأهما نهداها،

تنادي بعينيها سلالة البشر.

تعتقد، هي أيضًا، هذه العذراء غير المُخْصَبة

ورغم ذلك الضرورية لسير العالم،

أن جمال الجسد هو...

لم أنه هذه المنحوتة الرمزية من زهور الشر، بسبب الجو المفجع الذي كان يسود. أردت الهرب من الموت والفجور، ورغم ذلك لم أكن خائفًا لا من الواحد ولا من الآخر. لكني لم أكن أجرؤ على مواجهتهما. غفوت، وحلمت بتلك العذراء غير المُخْصَبة، كما لو كنت أحلم بنفسي. عذراء بودلير تلك كانت أنا. كانت أمي في حلمي تطرق بابي. لم أكن أجيب. كانت تطرق أيضًا وأيضًا. لم أكن أجيب دومًا. انتهى بها الأمر إلى نزول الدرج الضيق الخشبي والذهاب مثقلة بالكرب. ذهبت عاريًا أنظر من وراء مصراعي النافذة: كان النهار في الخارج، وشجرة السرو. كان الفناء يبدو أوسع دون إخوتي وأخواتي حيث كانوا يلعبون بالكرة. رفعت عينيّ إلى البيت المقابل، إلى النافذة المفتوحة لجارتي، وأنا أفكر في أنها تمشط شعرها عارية أمام مرآتها، أو أنها تأخذ حمامها. كنت قد وقعت في حبها منذ عامين، وفي الوقت الحاضر كنت أعيش وحدتي دون حب. منذ عامين، كنت أحبها حبًا جنونيًا، ولا أتوقف عن الحلم بها، وأنا أجامعها في كل الأوضاع التي كان عقلي الصغير للمراهق يستطيع اختراعها. كانت حجرتها ممنوعة عليّ، فحاولت بكل الوسائل اختراقها، بتسلق السور مثلاً. لكني كنت أخاف أمها، شيطانة حقيقية كما كان يقال. لم أكن أستطيع أن أحبها من جديد، أو بتحديد أكثر أن أشتهيها، لأني كنت قد اشتهيتها حتى الموت. كنت أدعي أنني أحبها، لكني في الواقع كنت أشتهيها حتى المنون.

في حلمي دومًا، كنت أرى أول ما أرى يدي ثم رأيتني كلي عاريًا على نافذة جارتي، فتضرب مصراعيها في وجهي، وبعد ذلك استيقظت.

نهضت لأتأمل جسدي في المرآة المشدوخة. بعد الحلم كانت لدي رغبة في رؤيته كله. كنت رجل كل يوم وليس عذراء بودلير. لمست وجهي، ثديي، فرجي. كانت الرغبة في جارتي تعود إلى الولادة، وتسيل في عروقي بالتدريج. غدوت مجنونًا رغبة، أهذي على التقريب. ذهبت وجئت في حجرتي، وأنا ألهث، وأقمع صرخاتي خوفًا من أن تسمعني أمي. رجعت أمام المرآة، وعدت ألمس وجهي، ثديي، فرجي، وأنا أفكر في جارتي. كانت معي، عارية، في المرآة.

كان سعيد يضحك بهيئة خليعة. كنت مع شريف ومازن، أخيه الصغير. أوفى سعيد لمازن، فسالت كلماته في أذني:

- أقسم بالله العظيم أن الأمر كما أقول لك!

افتر ثغر مازن، وانحنى عليه، ثم بخجل:

- لم أجرب أبدًا.

عاد سعيد إلى الضحك، وضحكاته تفعل في ذقني فعل الأسنان الصغيرة المعضعضة:

- جرب، إذن. ما عليك سوى أن تجرب.

سأل مازن مهتمًا:

- وهل هناك تلذذ؟ أريد القول هل نحظى بنفس المتعة؟

أحاب سعيد، وهو يأخذ هذه المرة هيئة شهوانية:

- أعظم متعة. لكن انتبه! ستكون بعد ذلك كآبة مبهمة، وحزن، وكذلك نوع من التمزق الداخلي يقترب من الخطيئة. إنه نوع من العذاب الروحاني بعد المتعة الجسدية التي حصلت عليها، وهذا لا يدور سوى بعض الوقت، ثم يذهب. جرب، من الأجدر لك أن تجرب.

صاح شريف، وهو يشعر بالأشياء وقد غدت جادة وبأخيه الصغير وقد كاد يسقط في شباك صديقه الفاسق:

- أيها القذر! لا تعلمه! اتركه، فهو طفل!

توقفت ضحكات سعيد المنحرفة فجأة، واحتج:

- لا تعتبره طفلاً، فهو رجل، وفي كل الأحوال عليه أن يصبح رجلاً!

تدخلت:

- بممارسة العادة السرية؟

- نعم، بممارسة العادة السرية. ما رأيك في ممارسة العادة السرية، أنت أيضًا؟

- لماذا؟ لأني لست رجلاً؟

- لأنك لست رجلاً ولا امرأةً ولا شيئًا!

- وأنت، أنت شيء، أنت؟

- أنا رجل منذ ستة شهور تقريبًا، إذا أردت أن تعرف.

نبر شريف:

- يا للعار! يا للعار!

رد سعيد:

- العار أنتم، يا مضاجعي العذراوات المقدسات! ورغم ذلك يمكن لمازن أن يجرب، مرة واحدة، فهو يموت رغبة في المضاجعة، مثلكم كلكم، لكنكم لا تستطيعون، وثالثة الأثافي تخافون من أنفسكم، من أن تصبحوا ذكورًا، يعني رجالاً كما ينبغي.

توقفت فجأة عن لمس جسدي. كنت مرهبًا بجسدي. تركت الكلب المسعور فيّ يعوي حتى الإنهاك. أعدت ارتداء ثيابي بسرعة، ونزلت الدرج الضيق الخشبي قافزًا الدرجات اثنتين اثنتين. وأنا أقطع الصالون بأقصى سرعة، مضيت أمام أمي التي أمرتني بالرجوع، وشرح كل تلك التكتمات، لكني سارعت إلى الخروج غير مبال بها.

عدت من عمان، دون أقل أمل في الحصول على عمل. وجدت بانتظاري أمًا منهكة، مجردة من كل سلطة. كانت يائسة، وكان ذلك يقرأ بوضوح على وجهها. عندما أبلغتها وعود أصدقاء أبي القدامى، لم تستطع حبس دموعها. كانت تبكي وتعتذر كما لو كان خطأها كل ذلك البؤس الذي نسقط فيه. أبدت لي للمرة الأولى أنها كانت هشة، وأن سلطتها عليّ لم تكن سوى ظاهر، ككل شيء يخصها. إذن كل شيء فيها أو على علاقة بها كان بعيدًا عن الحقيقة. صورة. كل شيء كان كذبًا. كنت على وشك البكاء معها، لأجلها، لكني فضلت أن ألعب دور القاسي مرة واحدة في حياتي.

قلت لها، وأنا أزلق في شخصيتها الاستبدادية:

- جففي دمعك، واسمعيني جيدًا. سأصلح الأمور، يا أمي، هذا وعد أقطعه لك على نفسي.

همهمت أمي، وهي تمر بأطراف أصابعها على خديها:

- لا، يا عزيزي. لن يصلح شيء. ليست غلطتك، يا عدناني، يا صغيري عدنان، الحياة صنعت هكذا!

- لن تبقى الحياة إلى الأبد هكذا، يا أمي، يمكنك الاعتماد عليّ.

- أود أكثر ما أود الاعتماد عليك، لكن ماذا ستفعل؟

- لا أدري، لكن تستطيعين دومًا الاحتفاظ بالأمل فيّ.

- اعذرني، يا ولدي، إذا قلت لك إنه لم يعد لدي أمل في أحد.

- حتى فيّ، حبيبك، مفضلك؟

- حتى فيك، حبيبي، مفضلي! إياك أن تزعل مني، فلا أمل لي في أحد، في أحد!

وانفجرت تبكي من جديد. بكت على كتفي. للمرة الأولى، جرؤت أمي على البكاء على كتفي، ثم توقفت عن العويل. شَعَرَتْ فجأة بالحياء من نفسها، وقالت لي:

- عليك الذهاب لرؤية شريف. جاء عدة مرات يسأل عنك خلال وجودك في عمان. باح لي بأن لديه شيئًا مهمًا جدًا يريد أن يقوله لك.

هتفت:

- شيء مهم جدًا! ما هو؟

- لم يقل لي. ربما وجد لك عملاً، بواسطة عمه. عمه وزير، أليس كذلك؟

- كان سيقول لك لو تعلق الأمر بعمل.

- إذن لماذا جاء عدة مرات؟

قلت لنفسي لم يجئ شريف ليكلمني عن حبه العابر لهذه البنت أو تلك، ثم كان يعلم جيدًا أني كنت في عمان... وفي الحال فكرت في محاكمته.

- لا بد أن لذلك علاقة بمحاكمته، كانت لديه جلسة في القدس.

- ربما تمت براءته.

- لو تم ذلك لقال لك. لماذا لم تسأليه؟

أخذت تعصر يدًا بيد حائرة، مقطبة الجبين، شاحبة الوجه.

- لم يخطر على بالي ذلك. الحق أن كل هذه القصة خرجت من رأسي، هذه المحاكمة، هذه المحكمة العسكرية، وكل ما يتبعها. كل هذا ما هو سوى مزاح لابن حسب ونسب كشريف، مع عم وزير. هل يهزأون بنا أم ماذا؟

- لا، هم لا يهزأون بنا عندما يتعلق الأمر بمصالحهم، من بيدهم الحكم، حتى ولو كان العم وزيرًا. إذا ما شعر بالخطر، لن يتردد العم عن الانقلاب على ابن أخيه، وحتى على ابنه، لن يتردد عن إرساله إلى السجن.

- ليس شريف على مثل هذا الخطر! له من العمر ما يقارب تسعة عشر عامًا مثلك، والكل يعلم أن المؤامرة المزعومة لقلب النظام التي يتهمونه بالمشاركة فيها قضية ملفقة من ألفها إلى يائها.

- نعم، ولكن النظام الطاغية مستعد لكل شيء ليحمي نفسه ويحمي الآخرين.

- الآخرون؟ أي آخرين؟

- أبناء عمنا.

- اليهود؟

- الإسرائيليون. ومع محاكمة كهذه، ضد أحد أبنائه، يريد النظام إخافة كل الناس، والتحذير من أية محاولة أخرى لتحرير البلاد.

- تحرير البلاد! أنت؟ شريف؟ أنت تمزح!

- ليس أنا، خاصة ليس أنا! أنا لا أستطيع شيئًا لنفسي، وأقل للبلاد. أنا ولدت لأكابد ثقل وجودي. البرهان على ذلك، أنا عاطل عن العمل منذ وقت طويل. لقد نجحوا معي ما لم ينجحوا مع شريف والآخرين.

- آه! يا عزيزي المسكين. أنت مع ذلك لن تفعل من صديقك المتأنق بطلاً!

- ولم لا؟ يكفى أن نعتقد بذلك. شخصيًا أنا لا أعتقد بشيء.

أكلت خبزًا محمصًا بالزيت والزعتر، وقضمت تفاحة حمراء. خبز من القمح، ومع ذلك لم يكن أي طعم له. والتفاحة من تفاح الشام اللذيذ، لكني لم أجد أية لذة لها. كان العالم سجنًا كبيرًا، والحياة سُخرة. ألقيت نظرة خفية على أمي. كانت تحتفظ بتلك الهيئة الخاضعة والمحزَنة. ندمت للألم الذي سببته لها. كنت قد أردت أن أتحدى نفسي بالتفوق عليها، لكنها كانت تبقى الأكثر قوة بخلقها المهيمن.

سمعتها تقول في ظهري:

- هذا الصباح، صعدت إلى حجرتك التي نسيت هذه المرة إغلاقها بالمفتاح وقمت بتنظيفها قليلاً.

كانت تنظر مني رد فعل سلبي، ثم أفلتت، عدائية:

- أنا لا أفهم كيف يمكنك أن تترك سريرك النظيف هنا لتلقي بنفسك في الزبالة!

أجبت بفظاظة:

- شيء طبيعي ألا تفهمين! أنت لن تفهميني أبدًا!

- منذ قليل كنت تحدثني كبالغ والآن...

- أنت من بدأ.

- اعلم، يا ولدي، أني لا أريد إلا الخير لك.

صحت، وأنا أسعى إلى مغادرة المكان:

- أما أنا فلا!

سارعت إلى القول:

- اسمع، يا عدنان!

توقفت. جاءت تنزرع أمامي، وعيناها محمرتان. كانت على وشك البكاء من جديد. لم أشفق عليها هذه المرة، كانت تزعجني مع طريقتها في إثبات أمومتها بالدموع والابتهال، لم يكن ذلك يشبهها. كان شيء رهيب قد حصل فيها، شيء مرعب يشبه موت الروح. في تلك اللحظة، فهمت أن لأمي روح ميتة، كانت قد غدت مثل كل أمهات هذا البلد، لكن من وقت إلى آخر، كانت تعتبر نفسها واحدة تمتلك روحًا حية، قادرة على الفعل في الأشياء. كانت تخطئ.

سألتني:

- هل ستبقى هكذا كل حياتك؟

- وأنت؟

كان ذلك فظًا من طرفي، وندمت على ما قلت في الحال. لم أجد ما أقول سوى:

- لننقذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.

صاحت:

- ولكن فات الأوان. نحن لا يمكننا إنقاذ أي شيء. هم يخنقون حياتنا. هم يجعلون منا أمواتًا أحياء لئلا يمكننا القيام ومحاولة... لن أقول استعادة البلاد ورمي اليهود في البحر، هم بالأحرى الذين سيرموننا في الصحراء، ولكن فقط العودة إلى ديارنا. نعم، العودة إلى يافا، عندنا. هل تسمع؟ عندنا. هناك حيث تركت صورك رضيعًا، بشهورك الستة، عاريًا، على الحائط، هناك حيث خبأت مجوهراتي في الحديقة، هناك حيث ربى أبوك حمامه الزاجل في الفناء. قبل رحيلنا، أرسلنا رسائل نطلب فيها العون والمساعدة إلى العالم أجمع، لكنها لم تصل أبدًا. هل تعلم، يا ولدي، يا طفلي، أنني أفكر أحيانًا في ترك نابلس، وفي الهجرة بعيدًا عن ذكرياتي المضنية، بعيدًا جدًا، إلى أستراليا. ليس من الصواب أن أفكر في هذا.

- لا، ليس من الصواب.

- في 48، الحكام العرب، هؤلاء القذرون، هؤلاء الأوغاد، هؤلاء الخونة، قالوا لنا أن نترك مدننا وقرانا لأسبوع، فقط الوقت الذي يحررون فيه فلسطين التي باعوها في المزاد العلني، وها هي النتيجة، سنون وسنون من البؤس والعذاب. يهود امتلأوا بالحقد والجنون ذبحونا من ناحية، وهؤلاء القادة العرب الفاسدون الذين يعملون اليوم الباقي من ناحية.

- لم يكن من اللازم سماع قذرين من هذا النوع، لم يكن من اللازم الرحيل.

- لقد خدعنا هؤلاء العرب الفاسدون، يا ولدي.

- لم يكن من اللازم ترك البلاد.

- كانت مؤامرة فظيعة شارك فيها كل العالم.

- لم يكن من اللازم ترك البلاد.

- أقسم لك أن الأمر كان أقوى منا.

- لم يكن من اللازم ترك البلاد.

- وإذا متنا؟

- حتى موتى، لم يكن من اللازم ترك البلاد. لم يكن من اللازم سماع هؤلاء الخونة. لم يكن من اللازم الخوف من مذابح ارتكبت في دير ياسين وغير دير ياسين. لم يكن من اللازم ترك صور ومجوهرات وحمام من ورائكم.

- لم نكن جبناء بعد كل شيء!

- بلى.

- كيف تجرؤ؟

- ليس الكل. لكن لم يكن من اللازم ترك البلاد. واليوم، يجب عدم ترك نابلس، حتى أنه يجب ألا تداعب خيالك فكرة كهذه.

انفجرت أمي باكية. كان ذلك يومها، يوم العويل.

- إذن لا تقتلني، يا عدناني، يا صغيري عدنان! أنا أتألم لأجلك! عندما لا تكون في الخارج، تُحكم على نفسك إغلاق باب حجرتك، وأحيانًا لا أراك خلال أيام كاملة! الأمور لا تنتظم، لكني أقول لنفسي ربما...

- ماذا؟

- أقول لنفسي ربما... أقول لنفسي، ربما سيأتي اليهود يومًا، و...

- و...

- وكل فلسطين ستكون لهم.

- بماذا توحين؟

- إنها الطريقة الوحيدة للعودة إلى ديارنا.

- لا تكوني ساذجة، يا أمي! إذا جاء الإسرائيليون إلى نابلس يومًا، فهم لن يخرجوا منها أبدًا، ولن يتركونا أبدًا نعود إلى ديارنا. حكامهم، هؤلاء الفاسدون الآخرون، توسعيون حتى النخاع، وفي عروقهم تسيل فكرة إسرائيل الكبرى، المبنية على جثثنا.

- إذن ما العمل؟

- وما يدريني؟

أدهشني شريف، "المتأنق"، كما كانت تقول أمي:

- اسمع، علينا أن ننخرط في الحركة وإلا حفرنا قبرًا ندفن فيه أنفسنا بأيادينا.

قذفت في وجهه، بلدغة من السخرية:

- إذن أنت لم تتعلم شيئًا من محاكمتك.

- محاكمتي خراء بخراء، الكل يعرف هذا. وكل هؤلاء الضباط الذين يحاكمونني يبعثون في نفسي الغثيان...

- ... ولا يفعلون سوى تعزيز عزمك وتصميمك على الالتزام.

- على عكس ما كانوا يهدفون إليه، لقد نجحوا في أن يجعلوا مني مناضلاً، على الأقل، هذا ما أتمنى أن أكونه.

- أنت، اللاهث من وراء النساء، تريد أن تصبح مناضلاً في الوقت الحاضر؟

- نعم، أنا، اللاهث من وراء النساء! كل شيء ممكن في الحياة.

- لك، وليس لي.

- لماذا؟ يمكن للكل النضال، ليس فقط أبناء العائلات، كل من له نفس تأمل في تغيير الأشياء.

- والنفوس الضائعة أو بصريح العبارة الميتة، ماذا تفعل؟

- لا تقل لي إنك ستبقى في حجرتك تمارس العادة السرية وأنت تفكر في إليزابيث تيلور.

- أولاً أنا لا أمارس العادة السرية. ثانيًا حجرتي ملجأي، أمر شخصي كل هذا.

- لم يعد الآن. منذ يومين، ذهبت لرؤيتهم، في الحركة. قالوا لي إن الحرب وشيكة الوقوع.

- هذا لا يعنيني.

- لم يعد الآن.

- ما الذي سيتغير بالنسبة لك، سيكون دومًا الخراء إياه!

- ستكون حربك! بشرط أن تتهيأ لها، أن تلتزم فيها.

- أعرف أنه من واجبنا الوطني الدفاع عن أنفسنا في حالة الحرب، لكنها لن تكون أبدًا حربي. إنها لحرب خاسرة سلفًا.

- ليس إذا ما انخرطت في الحركة، إذا ما انخرطنا كلنا، ليثقل وزننا في وجه الجيوش العربية، جيوش يقودها خونة وأبدًا على مستوى مهمتها، جيوش ضعيفة بالنسبة "لتساهل"، لكنها قوية بما فيه الكفاية لقمع الناس والإبقاء على الأنظمة الديكتاتورية في مكانها.

- شيء جميل كل هذا، لكني أعتذر، هذه الحرب لن تكون أبدًا حربي.

- أنت تخيب أملي فيك، يا عدنان! أنت تخيب أملي فيك بالفعل!

- لن آسف على ذلك!

- الكل يتبدل، حتى عاهرات القدس، ما عداك.

- لأنهن عاهرات!

- لا، بجد، دعني على الأقل أقدمك إلى أحد المسئولين، فقط للتحدث في كل هذا.

- سبق أن تم ذلك.

- سبق أن تم ذلك! كيف هذا؟

- أنا أتحدث كما ترى، أنا أتحدث معك.

قطب شريف جبينه، وظل صامتًا. قلت له:

- هل تعرف، أحب حجرتك، لأنها حمراء كأفكارك الثورية هذه الأيام الأخيرة!

قال شريف:

- أرجوك، احتفظ بظرافتك إلى مرة أخرى.

- أنت تعتقد أنني غير قادر على فعل الثورة كأي أحمق، أليس كذلك؟

- الحق، نعم. وها أنا أكرر لك، أنت تخيب أملي فيك، يا عدنان، أنت تخيب أملي فيك كثيرًا.

لم يكن يتوقع مني قول:

- متى أستطيع التحدث إلى مسئولك الثوري التعب؟

- تتكلم بجد؟

- هل لي هيئة من يضحك؟

- اعتقدت أني فهمت أنك...

- لست إنسانًا عاجزًا، أنت تعرف. استسلامي شغلي، كما سيكون التزامي إذا ما قطعت قراري. لكني لا أعدك بشيء. أنا موافق فقط على التحدث. النقاش أولاً، الثورة فيما بعد، إذا كانت هناك ثورة فيما بعد.

في تلك الليلة، قرأت في سريري كتابًا عن الثورة الكوبية. كاسترو، شي غيفارا، وثوريون آخرون كانوا برفقتي. كانت أطراف من حديثي مع شريف لم تزل تتصادى. لم أكن غير قادر بطبيعتي، ولم أكن غير جدير، كل شيء يتوقف على قناعاتي: الحرب القادمة لم تكن حربي، ولا الثورة. ربما كان من الفائدة الإشارة إلى أنني لم أكن جاهلاً، ولا قليل الذكاء، أنني شخص لا شيء، كما كانت تقول أمي بخصوص أبي، لكن ليس عديم الكفاءة. كنت أريد أن أبرهن لأعز أصدقائي أن باستطاعتي أن أكون أفضل منه، أن الثورة تستطيع أن تكون شغلي، حتى وإن كان تحرير فلسطين يبقى خداعًا. لهذا كنت أريد مقابلة مسئول الثورة ذاك، لأقول له إن تحرير فلسطين خداع، وإنه كان يلزم البحث عن وسائل أخرى لحل المشكل، سلميًا. على أي حال هذه الحرب التي ستتفجر عما قريب ستنتهي بهزيمة. كل ما سنستطيع كسبه منها سيكون تخلصنا من الهيمنة العربية، التي تختلف عن هيمنة أمي، هي التي لم تكن مختلقة. التخلص من الوصاية العربية لأجل الذهاب بالسلام إلى ما نرجو كالحرب إذا كنا مضطرين إلى قتال أعدائنا السود والبيض والشقر والسمر، ليس فقط في إسرائيل وإنما في العالم أجمع.

كنت قد ذهبت بعيدًا بعض الشيء، أعرف ذلك، بسبب هذا الكتاب التعب عن الثورة الكوبية. رميته، وبقيت ساكنًا دون حراك في شبكة الضوء الأصفر. كان الجدار المقابل قريبًا مني، وكانت إليزابيث تيلور المصلوبة تراقبني. في الصمت المطلق للحجرة، تابعت بانتباه كبير العنكبوت السوداء الزاحفة ببطء، ببطء شديد، باتجاهي. كانت سيقانها المشعرة تزحف، ولم يكن ذلك يقلقني على الإطلاق. كنت أحب حجرتي من كل قلبي مع كل ما تحويه من حشرات وأشياء، والظلال أيضًا كانت تألفني. لم يكن هذا العالم المغلق ثقبًا لخُلد أو لفأر. كنت راضيًا. لهذا لن يذهب لقائي بالمسئول الثوري بعيدًا. طريقتي في رؤية العالم، في خلق عالمي، لم تكن تنسجم مع طريقتهم. كان كاسترو قد تركني، وكذلك غيفارا والآخرون. لم أكن قد ولدت لأفعل الثورة ولكن لأجدني في الهدوء والصفاء حتى عنكبوت مشعر لا يستطيع تعكيرهما.

وإذا ما هدموا نابلس؟ وإذا ما دمروا شارع الشويترة؟ وإذا ما حطموا ساعة السرايا القديمة؟

جعلتني هذه الأسئلة حائرًا مع مواقفي. لن يكون باستطاعتي أبدًا قبول أن تحدث كارثة كهذه. في الطابق التحتي أخذ أبي يسعل سعالاً حادًا، منذرًا بالخطر. أحسست بنفسي محاصرًا فجأة. كانت جدراني تقترب منى اقتراب السيقان المشعرة للعنكبوت السوداء، كانت على وشك سحقي. غطست في الهالة الخافتة للضوء الأصفر بينما تواصل الجدران زحفها خانقة إياي، ساحقة إياي. صرخت من الرعب.

نادت أمي، مضطربة:

- عدنان، كل شيء على ما يرام؟

دفعها صمتي إلى صعود الدرج الضيق الخشبي، وقنديلها القديم أمام وجهها. أعادت قرب الباب:

- هل كل شيء على ما يرام؟

أجبت، منقطع الأنفاس، لئلا تدخل:

- نعم، كل شيء على ما يرام!

- أنت واثق من أن كل شيء على ما يرام؟

- أنا واثق، أشكرك.

- إذا كان هناك أي شيء لا تتردد عن مناداتي.

- كل شيء على ما يرام، أؤكد لك.

- إذا كان كل شيء على ما يرام، ليلة سعيدة إذن!

- ليلة سعيدة!

ذهبت وحدي إلى الموعد مع المسئول الثوري. اعتذر شريف عن عدم تمكنه من اصطحابي لأن عمه الوزير استدعاه بلا إبطاء، لم يكن يعرف لماذا. في منزل قديم من منازل حارة الياسمينة في المدينة القديمة، وجدتني وجهًا لوجه مع رجل قصير سمين ذي شارب، في الأربعين من عمره. لم يكن شكله محببًا، وكان حول في عينه اليسرى. ليعمل على نسيان بشاعته، كان يبتسم ببلاهة. كان محاطًا بأربعة من ملازميه، كلهم شباب، في مثل عمري.

بدأ بالحديث معي عن شباب مخيمات اللاجئين، الذين قتل آباءهم اليهود أو شردوهم. لم يستعمل أبدًا كلمة إسرائيليين. كان يقول اليهود أو الصهاينة. كان أولئك الشبان في أتعس حالة، بسبب سياسة الإنهاء خدمة "للصهاينة"، فكانوا أول من حمل السلاح، وغدوا فدائيين. "ليس مثلكم، يا أبناء المدينة – كان يقصدني – المدللين، الطريين، مغنوجي النظام."

لم يدعني أجيب، وذهب في خطبة لا تنتهي عن هدف حركته المزدوج: تحرير فلسطين الذي سيمضي بتحرير الأردن. أردت التدخل، لكنه لم يسمح لي. كان ملازموه في صمت تام. كان يبدي التقدير لهم، والاحتقار لي. أردت الدفاع عن نفسي، قول كلمتين، لكن ذلك كان مستحيلاً. حتى اللحظة التي سمعنا فيها صرخات آتية من الخارج، ورأينا فيها باب الحجرة التي كنا نوجد فيها محطمًا. كان رجال الشرطة يحاصروننا.

كانت حرب الستة أيام قد شُنت، وأنا في المعتقل. ستة أيام. لم يكن ذلك كثيرًا لحرب إسرائيل الحاسمة، التي رأت نفسها بغمضة عين ممتدة من النيل إلى الفرات أو يكاد. كان ذلك من السهولة بكثير، كاللعب لهم. كان ذلك دومًا كاللعب لهم، لتواطؤ الحكام العرب وسحق شعوبهم. لم يتغير شيء لي. الجلاد فقط. كانوا يعذبونني كل يوم، أولئك الساديون، تلك الأرواح الميتة. تخليت لهم عن كل شيء ما عدا روحي. كان ذلك ما سمح لي بالبقاء حيًا: تركت لهم جسدي لأحفظ روحي. نجحت في إنقاذها، ليس بفضل العقيدة أو الروحانية، ولكن بفضل الحلم. كنت أدخل في حلمي، وهناك، كنت وحيدًا وجهًا لوجه مع نفسي. كنت أحلم خلال تعذيبهم لي من أجل جريمة افتراضية كليًا. كنت هناك لأني لم أنطق أقل كلمة في حضرة ذاك الخراء الثوري الصغير، لأن عم شريف، ذلك العفن، باعنا مقابل منصب رئيس للوزراء. كان قد سمح على ظهر تلك الخبطة الأساسية بإفشال الثورة.

شهور، سنون مضت قبل أن يطلقوا سراحي. لم تعد حجرتي أكثر من ذكرى بعيدة، كالعنكبوت الأسود: كإليزابيث تيلور، كالجدران الواطئة، كالكراسي المحطمة، كالمرآة المشدوخة، كالظلال، كالصرخات، كالتنهدات.

عندما وافقت سلطات الاحتلال في النهاية على إطلاق سراحي، ليس من دون أن تفرض عليّ شروطًا جائرة، وجدت أمي قد شاخت كثيرًا، وأبي قد ضعف جدًا، وإخوتي وأخواتي قد كبروا. لم يكونوا كلهم هناك. بالطبع لم يكونوا قد ارتكبوا الخطأ نفسه في 48، بمعنى ترك البلاد تاركين للخونة عبء المجيء لتحريرهم فيما بعد. كان معظم إخوتي وأبي وأمي قد بقوا كشوك السمك في حلق المحتل. أخبرتني أمي أن بعض إخوتي وأخواتي قد التحقوا بالمقاومة، في عمان أولاً ثم في بيروت. كانوا قد أقسموا على أن يعودوا يومًا لإطلاق سراحي. قلت ساخرًا إني حر، دون أن أعمل ثورة ولا أي شيء آخر. ردت أمي "لسنا أحرارًا أبدًا تحت الاحتلال". لم أشأ النقاش معها. لم أشأ الاعتراف بكامل استسلامي وبيأسي. لم أشأ أن أقول لها إنني بعد سنوات في المعتقل لم أعد إلا ظل نفسي، شبحًا. قالت لي أمي إنها ذهبت إلى دارنا في يافا، إن المالك الحالي تركها تدخل لترى صوري المعلقة دومًا على الجدار، وتوقف الأمر عند ذلك الحد. لم تشأ حملها معها. قالت قبل أن تنفجر بالبكاء: "انتهت يافا إلى الأبد!" للهرب منها، من دموعها، صعدت إلى حجرتي. أرادت أمي مرافقتي، لكني رفضت. فضلت أن أجد نفسي من جديد وحيدًا في حجرتي، بعد كل تلك السنين.

كانت حجرتي تسبح في الشمس، والنافذة مفتوحة على مصراعيها. وعلى عكس عهدي بها، كانت شبه فارغة، وجد نظيفة. كانت أمي قد رمت الأثاث القديم، وخلعت الستار، بدلت الشراشف، وكنست شباك العناكب. لم يعد هناك أي أثر لصديقتي الحشرة السوداء. عندما وجدت نفسي في النهاية بين جدراني الواطئة الأربعة، أحسست بنفسي غريبًا. لم أعد أعرفني. لم أعد أعرف حجرتي. انقبض قلبي. اقتربت من النافذة لأنظر إلى الفناء الضيق، المحفر. كان لشجرة السرو ذات الأغصان المتكسرة شكل فتاة فارعة القوام بشعر قصير. كانت نافذة جارتي مغلقة، والسور مهدمًا. مررت بيدى على الجدار، وعلى ما تبقى من الرسم. أحسست ببرودة سني الغياب. ارتعشت. سارعت إلى ترك حجرتي، إلى نزول الدرج الضيق الخشبي، إلى نداء أمي، أبي، إخوتي وأخواتي. كنت أرغب في شدهم مرة أخرى إلى قلبي. كانوا كلهم قد ذهبوا. إلى أين؟ لم أكن أعرف. وفي اللحظة ذاتها، سمعت طرقات مجنونة على الباب، وهذا الصوت المختنق:

- مدام هاشمي! مدام هاشمي!

فتحت بسرعة، ووجدتني وجهًا لوجه مع أم جارتي، وقد شاخت كثيرًا بعد كل هذا الوقت. كان لها وجه أصفر برتقالي، المعالم مدعوكة، والعيون عيون حيوان تائه وقع في الشرك. سألت المرأة العجوز، وهي تبحث بعينيها في البيت من ورائي:

- أمك ليست هنا؟

- لا، ليست...

كانت قد دفعتني، ودخلت:

- أبوك ليس هنا؟

- الظاهر أنه ليس...

أخذت تقتلع شعرها، تهز رأسها يمنة ويسرة:

- يا ويلي! يا ويلي!

سألت:

- ماذا جرى؟

لطمت، سقطت على الأرض، هسترت.

سألت من جديد:

- قولي ماذا جرى؟

أمسكت بيدي، فساعدتها على الوقوف. مسحت دموعها بطرف ثوبها الطويل. سحبتني من ذراعي، وقالت لي بين زفراتها ونشيجها:

- ربما حلمت! أريد أن تتأكد أنت بنفسك.

- أتأكد من ماذا؟

- قال أولاد الحارة إن جنود الاحتلال كانوا يريدون التفتيش عندنا، ف...

- فماذا؟

- أريد أن تتأكد أنت بنفسك.

- وها أنا أعيد عليك، أتأكد من ماذا؟

- من هذا.

- من هذا ماذا.

- من هذا، من هذا...

كانت إصبعها تشير إلى الفراغ. سارت بي في الزقاق القائم خلف فنائنا حتى بيتها. تبعنا أولاد الحارة، فطردتهم، وأغلقت المرأة العجوز بابها بالمفتاح من خلفنا. جعلتني أصعد إلى الطابق الأول، وسألتني، وهي تشير إلى حجرة ابنتها، دون أن تكف عن الارتعاش:

- انظر في هذه الحجرة، هلا أردت؟

كان الباب موصدًا من الداخل. انحنيت، ونظرت من القفل.

- انظر! انظر!

لم أر شيئًا خاصًا.

قلت:

- لا شيء هناك.

- انظر أيضًا! انظر جيدًا!

ترددت بينما كانت تكرر من ورائي دون أن تقف في مكانها:

- انظر! انظر! انظر!

انتهى بها الأمر بدفعي، وبدورها ألصقت عينها في القفل، ثم ما لبثت أن ابتعدت صارخة. تركت نفسها تسقط على الأرض، ورجتني أن أفعل شيئًا، فدفعت الباب بكتفي، ووجدتني هناك، في تلك الحجرة المعتمة التي تفوح برائحة الموت. فتحت مصراعي النافذة، ورأيت، في الوجه المقابل، حجرتي أنا. كنت أخيرًا في تلك الحجرة التي طالما حلمت باختراقها، متخيلاً كل الحيل للوصول إلى ذلك، واللقاء بجسدها... استدرت، ووجدتني مقابلاً لها، جميلة كما لم تكن أبدًا، العنق داخل حبل. كان جسدها الجميل العاري يتأرجح، وكلاشينكوف معلق حول خاصرتيها، كان يتأرجح بهدوء، ببطء. كان يتأرجح... كان يتأرجح. كان يتحداني... كان يتحدى العالم.



* من "الأعشاش المهدومة" المجموعة القصصية الأولى لأفنان القاسم 1972 بمناسبة نشره للأعمال الكاملة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى