مؤمن سمير أحد شعراء قصيدة النثر في مواجهة ساخنة: بدأت بالشعر العمودي ثم التفعيلة لكني لم أقابل ذاتي إلا مع قصيدة النثر .. حوار أجراه: يسري السيد

سؤال " يقين الكتابة " أو الدور المنوط بالشاعر، بادرنا الشاعر الشاب مؤمن سمير بالتساؤل عن هذه المسافة الملتبسة بين الشاعر والعالم من خلال تجربته كواحد من أصحاب المشاريع الشعرية المميزة في القصيدة الجديدة ، حيث يساهم بثمانية دواوين تنتمي كلها لقصيدة النثر.. أجاب:
- كنتُ قديماً أظن أنني أكتب لأتطهر أو لأستمتع باكتشاف أمور لم أكن أظنها موجودة ، أو على هذه الشاكلة بالذات لكنها انكشفت عند طلوعها ككتابة ، وذلك باعتبار القلم هو الإزميل الذي يزيح الأحجار عن التمثال المكتمل ، الوهمي ، المخبوء داخلنا ، لكنني شفيت ، ربما أسرع من اللازم ، من نور الكتابة وقوة دورها ، حيث مات الشاعر النبي الرائي الملهم الذي هو فخر القبيلة ولم يتبق داخلي أو جواري إلا الشاك ، القلق ، الوحيد ، العاري من أي يقين ، الذي لا يملك أن يجزم أبداً ، لكنه يقترح فقط ، ومن وراء ستار .....

> إذن لماذا تكتب ؟؟
- أكتب لأسأل، ولأمارس قلقي وخوفي وغربتي ، وكذلك محبتي وفرحي المختلس ، وأناوش الموت : ذلك الشيخ الذي يرتدي معطفاً ألوانه تتغير كل لحظة ويلعب معنا ألعابه الغامضة .. أكتب لأبحث عن ذلك الذي يقرأ نصي فيهمس : هذا صديقي ، هذا أخي القريب البعيد..

> تنتمي لجيل التسعينيات في الشعر المصري – رغم تحفظنا على فكرة أن كل عقد يمثل جيلاً- ولم تنشر منذ بدايتك إلا ما ينتمي لقصيدة النثر ، هل تتبنى فكرة أن يختار الشاعر شكلاً ما منذ البداية وينحاز إليه ويحاول أن يسهم فيه أم أن التجربة العامة أو الخاصة هي التي تدفعه لذلك؟
- بدأت الكتابة بالشكل العمودي ثم خرجت رويداً رويداً إلى التفعيلة ولكني لم ألتقي بذاتي إلا مع القصيدة الحرة التي اتفقنا على تسميتها بـ قصيدة النثر ، بعدما صكت لنا المصطلح "سوزان برنار" وعمده شعراء مجلة " شعر" في لبنان واستمر الأمر ، لكني لا أظن أنه من الحتمي أن يمر كل شاعر بهذا الترتيب ، الأمر يعود إلى طبيعة تجربته وروافدها وتوجهه الفني بل والشخصي ، هذا عن الشعراء الحقيقيين ، أما الذين يسيرون وراء الموضات فلنتجاوز عنهم ونمهد الطريق للتاريخ لينساهم ، صدقني أنا لا أصدق أي حتمية في الفن ولولا الخروج الدائم لكل شاعر على نفسه بالأساس لتكلسنا وعدنا أحجاراً!!

> الجيل التالي لكم ، الأصغر سناً يكتب قصيدة النثر بلا عقد ولا مشاكل ولا ذكريات مُرّة مع الرافضين .. ماذا ترى أو ماذا تتذكر في هذا السياق؟
- حقاً ، لقد وصل أخوتنا فوجدوا قصيدة النثر مكتسحة بعكسنا وعكس من سبقونا ، حيث كانت أكبر أمنياتنا أن نحظى باعتراف حتى ولو لم يكن من القلب ، بالوجود والمشروعية ، وأذكر أنني من لحظة أن نهرني معلمي بعدما أريته ما أكتبه معتبراً إياي ممن "يفسدون لغة القرآن" وتسبب هذا في خسارتي لأصدقائي الذين ارتابوا مني ، قررت تحت وطأة سخونة السن أن أكون مناضلاً ! – تخيل ؟ هذا ما كنتُ أظن أنني سأفعله وقتها – في توصيل قيمة التجاور والقبول بكل مختلف ، فكنت أقترح في نادي الأدب في بلدتنا أن تنظم أمسية شعرية في قرية صغيرة ، ويتم الأمر ويصفقون للجميع ويرددون ورائهم إيقاعاتهم الرنانة ويصمتون معي ، ثم أصر وأكرر الأمر في أماكن أبعد ، رغم يقيني طول الوقت أن قصيدة النثر قصيدة كتابية بالأساس ولا يصح أن تلقى إلا أنني واصلت ، وانفعل أحد الشعراء العموديين وحملني كل شائعات الكتابة الجديدة ورماني بالكفر في ندوة عامة مما أثار موجات الغضب والارتياب والخوف في بلدتي الصغيرة بإزائي .. وقبل ذلك لا أنسى مرتي الأولى في نادي أدب المحافظة عندما ألقيت قصيدة حاورت فيها التراث المسيحي فأشاد بي رئيس النادي لأنه ظن أنني مسيحي وعندما علم بحقيقة كوني مسلماً قال " ما هذا الهراء الذي قلته .. " ساحباً كل الترحيب .. حتى أمي التي تقرأ لها أختي ما كتبته في إحدى المجلات للتدليل على انفلاتي وسوء الأدب مع القدر وتُبسط الأمر بطيبة الأمهات وتقول جملة من كلامها العجيب ( يعني لو كان ذاكر شوية لغاية ما يعرف يكتب الشعر أبو ضلفتين – تقصد العمودي – زي ما كان أبوه معلق "نهج البردة " في الصالون، عشان البَرَكة ، مش الكلام بتاع الأحجبة والعفاريت اللي بيكتبه ده !!) وبعيداً عن الطرافة التي كانت تخفي طول الوقت إحباطاً وتترك مرارة تدوم في الحلق والروح ، تجد أن الأمر لا يختلف مع المثقفين ، عنه مع البسطاء فتجد رئيس التحرير ، الشاعر ، يقصي قصيدتك إلى البريد قائلاً " نثر ؟ على جثتي ! " كل هذا يا سيدي انتهى واكتشفت أنني واهم وأيقنت أن تغيير الذائقة لا يأتي إلا بالتراكم المعرفي ومرور الزمن الكافي لتثبيت كل جديد وليس بالفرض ولا بالنضال العنتري .. فلأعكف على قصيدتي إذن ولا أهتم بما هو خارجها أياً كان..

> هل ترى أن انتشار قصيدة النثر أضر بها أم أنه أفادها ورسخها؟
- عندما انتشرت قصيدة النثر في مصر وأصبح من المتاح جداً رصد أعداد لا حصر لها من الدواوين ، راكمت مجموعة من القيم الثابتة المتكلسة ، هي – وهذه هي المفارقة – على النقيض من كل ما نادت به هذه القصيدة ، فأصبحت هناك وصفة جاهزة مكونة من التفاصيل اليومية الحياتية البسيطة والابتعاد عن مقارفة القضايا الكبرى وتصدير موت الايدولوجيا والتخفف من المجاز لصالح السرد .. الخ . هذه الوصفة أدخلت الأدعياء وأغرت أصحاب المشاريع الشعرية التي تسير في الاتجاه المخالف ، بسبب سهولتها الظاهرة .. وهو ما أرى أنه مدمر لأنه لا يسمح بالتمييز بين مشروع كل شاعر وفرز الجيد من الردئ إلا بصعوبة ، فالجميع ، كذا ، يكتب نصاً واحداً .. كذلك يؤدي إلى تضييق امكانات تلك القصيدة مما يحدو بها للتآكل من داخلها .. لكن قد يكون لهذا قيمة إيجابية ، والأمر كذلك ، هي الكشف عن أصحاب المشاريع المتفردة الذين يكتبون شعراً يشبههم ويطمحون دائماً لتغيير جلدهم وتغيير ومفارقة زوايا النظر والمداخل المعتادة وقنص الشعرية من أنهار أخرى .. وهو ما يتوازى ، بكل بساطة ، مع قيمة أساسية في الشعر ، وأقصد بها "الواحدية" وليس الجماعية..

> ولكن هل تنفي تأثير الجماعة على المنتمي إليها ؟
- حتى لو انتمى عدد من الشعراء لجماعة معينة لها توجه وفلسفة أو لو انضوى الشاعر تحت جيل معين ، فإننا في النهاية سنقول : نحن بإزاء مشروع جورج حنين أو صلاح عبد الصبور أو حلمي سالم أو عزمي عبد الوهاب .... وهكذا .. رغم تأثير فلسفة الجماعة ، أو مظلة الجيل ، عليه وكونه شاهداً ، بشكل ما ، عليها . إنني أنتمي لتصور قوامه أن كل شاعر- حقيقي – هو مشروع خاص يجب النظر إلى تجربته باعتبارها وحدة خاصة ومتميزة في مسيرة الشعر ، وبذلك تكون زاوية التناول ذات ترتيب أولوياتي مختلف عما هي عليه ، فنبحث أولاً عن الشعر ومدى نجاحه في خلق خصوصية للمشروع الخاص ثم بعد ذلك نراجع بنود تماثلاته مع الآخرين القريبين بحكم السن أو سنوات النشر أو حتى السياق..

> هل تعتبر نفسك من الشعراء غزيري الإنتاج؟
- مجابه أنا دائماً بالغزارة في الكتابة ، ولا أرى ذلك عيباً ولا ميزة في حد ذاته ولا يصلح أن يكون قيمة ثابتة ، كل ذلك خارج الكتابة .. لكن مقولة الكيف المفضل عن الكم ، تظل مقولة جاهزة ، على الرغم من أي شئ ، مثلها مثل الكثير من أكلشيهاتنا الجامدة .. كل "كيف" جيد في حاجة إلى "كم" كي يتأكد . إلا إذا كان العمل " فلتة" في حد ذاته وسيغير تاريخ الأدب وهو ما أصبح نادراً . أظن أنه من الأنسب ، وإن كان ذلك ليس نهائياً بالطبع ، أن يتعامل المتلقي مع عدة تجارب لمبدع ما ، كي ينحاز لبعضها ويرى البعض الآخر لا يضيف إلى عالم الكاتب، أن يتفاعل أو لا يتفاعل مع المنجز ، وهذا هو الطبيعي ، فكيف يتسنى ممارسة هذا الدور ، أو هذه اللعبة مع من أنجز تجارب محدودة وقليلة ؟ هل تعلم ؟ أنا أحس بصدمة عندما يعلق أحد أصدقائي الشعراء الأكبر بجملة يرددها منذ عدة سنوات " الغزارة أضرتك " لقد استسهل أن يردد أكلشيهاً لا أظن أنه يصح على كل التجارب وبهذا يمنع نفسه من القراءة المدققة أو حتى الإطلاع على كل تجربة أقدمها ليريح نفسه ، مع أني واعٍ تماماً وأحاول توسيع دائرة الكتابة التي أنتمي إليها مع كل تجربة مستخدماً إمكاناتها التي ضيقها غيري على أنفسهم، ثم أقرأ كتابات النقاد فأجد أن ما يتكرر عندهم هو إيمانهم أنني أحاول أن أختلف في كل تجربة عن الأخرى وأحاول بناء خصوصية وسط هذه السوق المرعبة، لكن الأصدقاء الذين يهاجمون الحتميات والأكلشيهات يرتاحون تحتها دائماً دائماً للأسف..

> ماذا تراه يميز قصيدتك بالذات ؟
- ما أظنه يميز قصيدتي ، أو هكذا أتمنى ، أنها قصيدة لا تغلق قوسها ، بمعنى أنه من الصعب حصرها في قيمة جمالية أو تقنية معينة ، فالمتابع للإنتاج الحالي يلمح من يصر على أن الهامشي والمعيش مازال أقنوماً للقصيدة وثاني يصمم على أن التفاوت الطبقي هو المجال الوحيد للشعر أو مازال كذلك ، فنجد كل نصوصه تستعرض مشاهد تدلل على الهم الأيديولوجي وثالث ما يفتأ يتفنن في صنع المفارقة ورابع يبحث عن روح الأسطورة في المقدس وآخر يكتب نصاً فنتازياً وآخر يصنع عالماً (كارتونياً) يسخر من الواقع وآخر ينجز قصيدة وعي وآخر يحاول تهميش المجاز لصالح السرد البارد .. الخ . إن ميزة نصي أنه يتحرك بين كل القيم والأنماط والطرائق ، ومن ضمنها ما سبق بالطبع ، ولا يحصر نفسه أبداً ، نص حر لا يستطيع أن يتخلى عن رفضه واختناقه من أي تأطير وعيي أو جمالي أو تقني ، يبحث عن الشعر المختبئ في كل ما حولنا ، حتى لو كان لا يصلح ، للوهلة الأولى ، لإنتاج الدهشة وصنع الصداقة مع الكائنات .. هل نجح نصي في هذا ، لا أدري أو لا يهم ..

> هل ترى ، كما يعلن مجموعة من مجايليك أن دور المجاز انتهى؟
- لا أعتقد أبداً أن الأقوال العنيفة التي تجزم بأن دور المجاز انتهى ، منصفة ، ليس فقط بسبب اطلاقيتها ووقوعها من دون أن تدري في فخ استبدال صنم بآخر .. ولكن لأننا نحيا وسنظل ، في مجاز كبير ، كل تعاملاتنا اليومية في هذه الحياة قائمة على المجاز ، بدءاً من "صباح الخير" وحتى كتابة الشعر ، لكن أحياناً تفرض التجربة على النص أن يكون كله كناية كبرى وأحياناً تظهر المجازات الجزئية بشكل واضح .. لازالت الصورة تزين الشعر ، سواء أن كانت كلية أو جزئية وسواء كانت واضحة أو متوارية .. كما أنه ليس مهماً أبداً أن نبحث عن إيقاع صوتي في قصيدة النثر عن طريق تكرار الكلمات والعبارات والترديدات الصوتية وما إلى ذلك لنثبت أن قصيدة النثر ليست غريبة وبعيدة كل هذا البعد عن التراث السابق عليها .. وليس مهماً –كذلك- أن نجزم بأن الإيقاع السردي هو الذي يلائمها أو زيها الوحيد ..... كل هذا لا يجدي أبداً ، فليس هناك بُعد نهائي للقيم الكتابية وتشكيلاتها ، القصيدة أوسع من كل تفسيراتها وتأطيراتها وإن حددنا لها نبضها واستنكرنا خروجها الدائم ، تموت .. والشاعر يلعب دون سقف قريب أو بعيد ، ولا يملك إلا انفلاته الايجابي، الذي يصنع إطارات كل يوم ، عليه أن يثور عليها ويتجاوزها ليبقى..


* باب (نادي أدباء الأقاليم ) جريدة "الجمهورية "المصرية– عدد يوم الخميس 11فبراير 2010 العدد رقم 20449 ص 26

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى