ثناء درويش - أنفـــــــاس..

"1"
الحقُّ أقول، أني رأيت أنفاسكِ في السوق يتاجرون بها، و لا مُلصق ولا هوية تشير إلى أنها من صدركِ خرجت ذاتَ شهيق و زفير.
أردت أن أحتجَّ.. أستنكرَ.. أعترضَ.. أن أقول لا تخفى عليَّ أنفاسها وأنا اللصيق بها كظلِّها ، لكنهم أخرسوني بلجام الأنا فاختنق صهيلي.
وما كنت سأعترض لو أنها وهبتهم الحياة ، بل ربما سأفرح بأخوَّة الروح، وأيُّ همٍّ مصدرها؟!
لكنهم كانوا يتقاذفونها ككرة ، فتكبر أوهامهم أكثر فأكثر كلما دحرجوها.
أنفاسكِ الحرَّة في السوق بضاعة مزجاة ، وأنا مجرد شاهد بلا حول ولا قوة.

"2"
وكشاهدٍ ، محكوم عليَّ من جديد ، أن أرى بِلوعة أنفاسك الحرَّة تعلَّب وتُعبأ في قوالب جاهزة، عند قوم لا يكادون يفقهون أن لا فرق بين النَّفْس و النَّفَس
أنفاسك الطيبة المتجددة كزبد البحر ، تذهب جفاءً ليأتي سواها ، شممت فيها رائحة الركود و الموت.. حتى كدت أنكرها، كأني ما تنسَّمتها عمراً. بكيت بصمتٍ وهم حريتها ، فلو درت إلى أين تمضي بها السبل، ربما آثرت أن تختنق وليدة في مهدها، على أن توأد حيَّة.
لكنها السؤال اللاهث الى اللانهاية: هل أمام الأنفاس خيار.

"3"
لا لست أنسى ، ميقات لحظة رمى بها الموج جثتي على الشاطئ ، أنازع الموت على حقيقة الحياة.
وبالصدفة المقصودة كنتِ هناك ، يداً ممدودة من السماء ، تهزُّ عرش الرحيل فيهوي من أقاصيه تحت قوة نداء البقاء
فمكِ الذي نفخ الأنفاس بصدري بآآآآهٍ .. ما بين شهقة وزفرة ، فتمازج الهواء مابيننا، هل كان إلا نفخة الصور في يباب الغياب.
من يومها و أنا أتنفسكِ عشقًا ، أقدِّس كل نسمة تجري دمًا في عروقي ، لأنها لم تكن إلاكِ.

"4"
ظالمو أنفسهم و أنفاسهم ، هناك عند الخطوط الحمراء – و ما أكثرها – شهدتهم يصادرون أنفاسك.
ما الذي أثار شكوكهم فيها، و هي أنفاس عشق خالصة مخلصة ، لذات إلهية واحدة؟!
عيونهم تدور في المحاجر ريبة ، و ظنونهم تأخذ بهم إلى أكثر المواطن شبهة، فليقون القبض عليها، و يودعونها ضيق المحبس ، تحت عين رقيبة لا تغفل عنها نأمةً.
أنفاسك اللطيفة التي أحيتني ، ما أشدّ ثقلها عليهم ، يستعينون بخبراء التحليل و التفكيك لمعرفة ماهيتها و من أي صدر غريب استوردت، من حرضها وما غاياتها ، و حين لا يجدون لها نسخة مطابقة ، يحكمون عليها بالحجر خشية أن تسري عدواها ، فالحكمة تقتضي درء قنطار العلاج بدرهم وقاية .
أنفاسك الطيبة ، أه لو يدرون ، أن الأثير متواطئ للبوح بها .

"5"
في حضورك و الغياب ، تتلاحق أنفاسي باضطراب ، فلا ناظم لها و لا ميزان .
بماذا وشى القلب لها ، حتى تتابعت سراعاً ، كأنما طيفك يلاحقها ، أو تبتغي أن تطاله ، هناك عند أقاصي اللا مكان .
أنفاسي الراقصة الراكضة على إيقاع القلب .. فضّاحة لا تكتم سرّا
فكلما داريت لهفتي و جنوني ، خانتني في تشفٍّ ، كأنني غريمتها الوحيدة .
و كموج البحر تسكن حيناً ، تخادع النظر بالمسالمة ، فيما دوامات الجذب تشدني بلا هوادة و لا رحمة لقيعان مجاهيلك .
أيها المعشوق الأزليّ ، يا من بيدك مفاتيح القدر و سرّ اللحظة ، يا ربّ المواقيت …. متى تنصهر أنفاسي بأنفاسك فأغيب عني بك .. في تلاشي الكون العظيم .

"6"
الواقفون عند عتبات الآه ، رأيتهم كيف يحصون أنفاسك و يعدّونها عدّا .
كانت الألف شهقة عشق ممدودة بين السماء و الأرض ، تقيم صلاة فجرها في خشوع , فيما تكورت الهاء كانحناءة السجود ، زفرة طويلة إليك وحدك منتهاها .
و كان التحقيق على قدم و ساق لكل نفَس :
لمن ، لماذا ، كيف ، و هل …….. و كل أداة استفهام تخطر ببال لغة مراوغة تنقلب علينا حين نخالها معنا .
و كمن يتصعّد في السماء ، كم ضاق صدرك ، في انتظار وعد الغيب بلحظة مارقة تخرق و تحرق عدّاد الأنفاس ، فكان العشق يشرحها بجميل الصبر .
و لا أبرئ نفسي ، كنت أيضاً أحصي أنفاسك حتى في نومكِ ، خشية أن يفوتني التسبيح رفّة هدب .
أنفاسك سبّحة عشقي ، و لا جنة ترتجى لعاشق تسبيحه صلاة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى