الجزائر في العهد القديم و ظروف تأسيس الدولة الأمازيغية

الجزائر في العهد القديم و ظروف تأسيس الدولة الأمازيغية

(مقتطف من كتاب أنتروبولوجيا الجزائر و صراع الهوية و الوطنية لصاحبة المقال صدر عن دار الأوطان الجزائرية)


كشفت العديد من التحقيقات التاريخية أن الجزائر دخلت في التاريخ الحضاري منذ عدة قرون قبل ظهور مدينة قرطاجنة، يعني مع ظهور الحضارة الفرعونية، حيث نقرأ عن مملكة مغراوة في الجنوب الغربي من الجزائر و هي من أكبر قبائل زناتة ، استمرت في عهد صولات بن وزمار إلى غاية العهد الإسلامي، و كسيلة بن لمزم ملك البربر، ثم الكاهنة واحدة من ملوك البربر ظهرت قبل الإسلام و كانت مملكتها بالأوراس، تنتمي إلى قبيلة جراوة البربرية المنتشرة في شرق الجزائر، ولم يؤثر الإحتلال الروماني الذي دام ستة قرون في شخصية البربري الذي ظل متمسكا بنظمه السياسية و الأخلاقية القديمة و محافظا عليها، فلم يبق من آثار روما سوى تلك الصخور المنحوتة


يعرف الشمال الإفريقي ببلاد البربر، و قد دلت الكثير من الأبحاث و الآثار على قِدَم الاستقرار البشري في شمال أفريقيا، و الحديث عن السكان الأصليين لشمال أفريقيا و كيف انتشروا له علاقة وطيدة بالمنظومة الإجتماعية و ما يربطها من روابط تتمثل في العادات و التقاليد، و هذه الروابط تختلف من منطقة لأخرى، فمجتمع الشمال الإفريقي ظهر في شكله القبلي منذ فجر التاريخ، و النظام القبلي هو أول النظم التي عرفتها مختلف الشعوب، و يجرنا الحديث عن أصول الأمازيغ الذين تحدث عنهم المؤرخون القدامى أمثال هيرودوت، ديودور، سترابور، بطليموس و غيرهم، بحيث سموهم بـ: نوماداس nomadas ، أي الرُّحَّل ، و كانت مساكنهم تسمى ماباليا mapalia في شكل مستطيل، وقد كان اسم النوميد محل نقاش كبير بين المؤرخين الذين اعتبروه مشتقا من كلمة نوماداس الإغريقية كما ذكر المؤرخون وهي تعني البدو، لكن الإحتلال الروماني أزال هذا الإسم، لأنه يدل على هوية شعب و أمّة، و البربر ينقسمون إلى قسمين أو فرعين : البرانس و هم أبناء برنس، و البتر و هم ابناء مادغيس الأبتر، إلا أن ابن حزم يختلف مع المطمطي الذي يقول أن البرانس فقط من كنعان، و أما البتر فهم بنو برقيس عيلان، و يلاحظ هنا أن أقوال النسابين كانت متضاربة حتى بالتعريف بالأسماء، فمثلا قولهم أن صنهاجة من ولد صنهاج هو تحريف للفظ صناك البربري، و قيل أن من بطون صنهاجة ينتهي إلى سبعين ( 70) بطنا ، نصفهم يمتد بين كتامة و عجيسة شرقا و زواوة و ساحل البحر شمالا، و زناتة غربا و جنوبا، و الباقي موزعون في مناطق الصحراء، و قد كانوا يشكلون الثلث من شعب المغرب الأوسط ( الجزائر) و هذا ما أشار اليه الدكتور محمد الطمار في ككتاباته.​
تقول كتابات أخرى أن اسم مازيس ( mazices ) و هو اسم عدد من قبائل قدامى البربر وقع فيه تحريف كبير مع أنه مشتق من الإسم البربري مازيغ، و نفس الشيئ يقال عن الأرمن حيث حاول البعض ربط بعض قبائل البربر بهم مثل قبيلة ورمانة ourmana، كما تشير كتابات أن باربار beberes يعود مصدرها إلى شبه الجزيرة الإيبرية، و هذه الجزيرة تحتل مكانة خاصة عند دعاة الأصول الأوروبية للبربر، و قال بعض المؤرخين و منهم دزانج J.desanges : أن لغة الباسك قريبة من اللغة البربرية، و أشار هؤلاء المؤرخين أن عبارة إيبار iberes ما هو إلا تصغير و اختصار لـ: بربار berbere، و طرحت في هذا الشأن عدة تساؤلات إذا كان الإيبار أسلاف بنفس الاسم في القوقاز، فلماذا لا يكون السومريون هم أسلاف البربر؟ أمّا في جانب اللغة ، فقد ذكر حسن الوزان أن البربر لهم لغة واحدة يسمونها أوال أمازيغ awal amazigh أي اللغة النبيلة، و الدليل على قدم اللغة الأمازيغية و تعايشها مع لغات أخرى هو احتواؤها اليوم على عدد كبير من المفردات من عدد من اللغات اللاتينية و الإغريقية و العربية بالخصوص، و هذا ليس لفقرها في المفردات و لكن في الطابع الشفوي الذي لازمها منذ قرون طويلة.
و لا ريب أن المجتمعات التاريخية في الشمال الإفريقي القديم هي امتداد لمجتمع الحضارة القفصية و العاترية و مجتمع حضارة الفن الصخري في طاسيلي ناجّر و الشعب الإفريقي ( البربري ) هو أحد الشعوب السبعة القديمة الوارد ذكرها في العديد من المصادر مثله مثل المصريين و الإغريق و الفرس و غيرهم، مع أن بعض الكتابات لا تريد الإقرار بذلك، رغم أن النصوص الإغريقية ذكرت أسماء مجموعات قبلية في تعداد شعوب في الشمال الإفريقي القديم ما قبل الإحتلال الروماني و عرفوا بقوتهم السياسية مكنتهم من بسط سيادتهم، غير أنها كانت محكومة بروابط العادات و التقاليد، و قد بدأت النصوص القديمة تذكر"النوميد" بهذا الاسم منذ القرن الثاني قبل الميلاد كشعب و كقوة سياسية تبسط سيادتها بهذه القوة السياسية هي مملكة نوميديا الموحدة التي امتدت حدودها الشرقية في عهد ماسينيسا( 203-148 قبل الميلاد) إلى السيرت الكبير، لكن الصراع على العرش الذي كانت روما تغذيه لإضعاف المملكة حال دون تحقيق الهدف، حيث بدأت في التراجع بعد وفاة ابنه ميسيبسا ( مَكُّوسَنْ) في أعقاب الانقسام و الصراع على العرش الذي كانت روما تغذيه لإضعاف المملكة، ثم الانقضاض عليها في الوقت المناسب.
النصوص نفسها أشارت إلى اهتمام ميسيبسا بعلوم عصره و اطلاعه على اللغة الإغريقية مقتفيا نهج والده ماسينيسا، و لذلك أحضر إلى عاصمته سيرتا فنانين إغريق، لكن السيّادة انتقلت إلى روما بعد ظهورها كقوة جديدة، و لذلك تؤكد الكتابات أن حضارة روما ماهي إلا حضارة إغريقية ناطقة باللاتينية، و قد أحدثت هذه الحضارة تأثيرا كبيرا في مختلف مناحي الحياة الإفريقية خاصة في الجانب اللغوي، فاللغة اللاتينية لم تكن غريبة عن الشعب الإفريقي، و قد استطاعت رومانيا بقوتها العسكرية رَوْمَنَة الشعوب كشرط للحصول على "المواطنة" و هي التمسك بالثقافة اللاتينية، و اللغة كانت مفتاح هذه الثقافة، كما قام الرومان برومنة الأسماء و دمجها في الثقافة و الحضارة الرومانية، و لذلك كانت المواطنة خير أداة لتحقيق مرامي الدولة الرومانية و ترسيخ وجودها، حيث كانت رومانيا لا ترى فرقا بين الروماني بالولادة و الروماني بالتجنس في تَحَمّلِ أعباء المواطنة و هي واجب الخدمة العسكرية، لكن السياسة التي طبقتها روما أظهرت فشلها حيث لم تفقد الشعوب جذورها، و لم تتخلى عن هويتها، و كمثال كان أبوليوس المادوري يخاطب أهل بلدته ماداوروس بعبارة: أهلي النوميد و أهلي الجيتول.

هكذا تنكر المستشرقون للشعب الأمازيغي و حضارته

ما جاء ذكره يعكس رؤية عديد من الباحثين الذين قالوا أنه لا توجد دراسات شاملة و مفصلة حول تاريخ الجزائر في العهد القديم (البربر)، و ما ماهو متوفر إلا فرضيات أخذها المؤرخون عن كتابات المستشرقين، غير أن التحقيقات التاريخية تكشف أن الجزائر دخلت في التاريخ الحضاري منذ عدة قرون قبل ظهور مدينة قرطاجنة، أي بين 1500 و 1800 سنة قبل الميلاد، يعني مع ظهور الحضارة الفرعونية، كما ظهرت دولا أصلية و حضارة قوية كان يقودها رجال عظماء مثل ماسينيسا و يوغرطا، و قد تحدثت كتب التاريخ عن مملكة مغراوة في الجنوب الغربي من الجزائر و التي استمرت في عهد صولات بن وزمار من أكبر قبائل زناتة إلى غاية العهد الإسلامي ، و هو من دعا قومه إلى الإسلام، و نقرأ عن كسيلة بن لمزم ملك البربر، و قد جمع عددا من القبائل حتى يتجنب حربا مع عقبة بن نافع في مكان يقال له تهودة جنوب جبال الأوراس قرب بسكرة، كما يذكر المؤرخون الكاهنة ملكة من ملوك البربر قبل الإسلام و كانت مملكتها بالأوراس، تنتمي إلى قبيلة جراوة البربرية المنتشرة في شرق الجزائر، و الكثير من يعرفون ظهورها على مسرح التاريخ، و إن تحدث بعض المؤرخين الجزائريين عن هذه المرحلة بشيئ من التفصيل و منهم زهير إحدادن رحمه الله إلا أن البعض منهم تجنب الخوض في هذه المسائل لتعقيدها، لإختلاف الآراء بين المؤرخين، بحيث نجد مثلا بعض المؤرخين الجزائريين و منهم المفكر مولود قاسم نايت بلقاسم عندما تحدث عن شخصية الجزائر الدولية و هيبتها العالمية قبل سنة 1830 لم يتطرق إلى تاريخ الجزائر القديم بشيئ من التفصيل، لأن جل المؤرخين يعتمدون على بعض الكتابات التي جاء بها العمّ جوليان الذي لقب بـ: نبيّ التاريخ أو إمام المؤرخين، و قد وصف هذا الأخير سكان المغرب بـ: " اللقطاء" ، كما أن بعض المؤرخين يتنكرون لوجود أمّة اسمها الجزائر ، بل كدولة و كشعب على مرّ التاريخ، بحيث يركزون على العهد العثماني، و عمدوا على تشويهه، بحيث وصفوه بأنه عهد سيطرة تركية، و أن مجيئهم إلى الجزائر ( أي العثمانيين) كان من أجل تحريرهم من الحكم الأجنبي، و الحقيقة و كما يقول الباحث سليمان الصيد المحامي، فإن الجزائر التي تكونت فيها الممالك البربرية، أنجبت ماسينيسا و مسيبسا و يوغرطة ملوك نوميديا (عمالة قسنطينة القديمة) و موريطانيا الشرقية ( عمالة الجزائر و وهران) و جيتوليا ( صحراء الجزائر اليوم) كانت منذ القدم شعب و دولة ذات سيادة لها حدودها الدولية.
كما نجد أن بعض المؤرخين يتهمون الملك ماسينيسا بأنه تواطأ مع الرومان، إلا أن المؤرخ الجزائري مولود قاسم نايت بلقاسم كان من المدافعين أيضا عن ماسينيسا، حيث يقول: " إن ماسينيسا رغم تحالفه مع روما، لم ينشر اللغة اللاتينية في بلاده، بل نشر البونيقية، و تبنى الحضارة الفينيقية، أما كنافذة على الخارج، فقد اختار اليونانية، و كان هو شخصيا يتجاوز بنظراته آفاق روما ليرنو إلى الشرق اليوناني، و يستفيد من تجارب الملوك اليونان الذين لم تكن روما قد سيطرت عليهم بعد، و قد أثارت رؤيته الإستشرافية تخوف روما من تفوقه في إفريقيا، و من ثمّ استيلاؤه على قرطاجنة ليجعل منها عاصمته، أي أن روما كانت تخاف من أن تحل الدولة النوميدية محل دولة قرطاجنة و تخلفها، و تنشا لروما دولة كبرى جديدة، منافسة لها، و مزاحمة بل و مهددة لها، كما كانت قرطاجنة تماما، كما يؤكد المؤرخ فرنال أن ماسينيسا لم يعن الرومان، و لم يتحالف معهم إلا بقصد إسقاط قرطاجنة، و لو قدر له أن يعيش أكثر لحارب الرومان أيضا، مثلما فعل يوغرطة الذي حارب الرومان لمدة ثلاثين سنة، أودع السجن إلى أن مات به جوعا و عطشا، و بموته انفتحت آفاق جديدة أمام الإستعمار الروماني، حيث ضبطت خطة لتجزئة نوميديا، و لم تمض سنوات حتى أصبح شمال أفريقيا تحت حكم الرومان، و لم يسلم سكان الجزائر بالاحتلال الروماني ، حيث تصدى له عن طريق المقاومات و الثورات الشعبية، كانت أول ثورة شعبية تلك التي قادها القائد النوميدي تاكفاريناس.

العهد البربري سبق العهد الروماني

لاشك طبعا أن الرومان كانت لهم حضارة، و الذي لا يمكن تجاهله أن من يتتبع تاريخ روما يلاحظ أنها ذات حضارة زاهرة، حيث لها هياكل عمومية كالملاعب و المسارح و المعابد و الحمامات و الساحات العمومية ، كانت كلها على النمط الروماني ، فمعالم جميلة و تيمقاد و تيديس و أماكن أخرى كلها شاهدة على الحضارة الرومانية ، لكن ما هو مؤكد أن العهد البربري سبق العهد الروماني، و المطلع على ما يذكره المؤرخون عن البربر يجد أنهم كانوا يمتازون بالشرف يدعون أنفسهم " أمازيغ" أي الرجال الأحرار، و الأمازيغي لا يتبنى فكرة أو عقيدة إلا بصعوبة، و إذا آمن بها قاتل في سبيلها، كما امتاز البربري بالحرية و التشوق إليها لدرجة أنه يكره الرئاسة عليه و يتقزز منها، و إن فرضت عليه تجده يكابر و يقاوم و يصبر إلى حين تأتي الفرصة لهدمها، و نظرة الأمازيغي إلى كبير القبيلة، عادة ما تكون مبنية على الإحترام الكامل و الخضوع التام لنظام العائلة، و مع الوقت ظهر ما يسمى بنظام الخرُّوبة، و هذه الأخيرة مكونة من مجموع العائلات تنتمي إلى أصل واحد، و هذا النظام يخضع لسلطة كبير العائلة، و مجالس الجماعة تنتخب كل سنة رئيسا يسمى إمرارا أو كبيرا أو أمينا، و يقوم هذا الرئيس بتنفيذ قرارات الجماعة كما يسهر على الأمن و احترام الأخلاق وله نائب يدعى امرزاقا، و لا تسع هذه المساحة لذكر كيف كان نظام الخرُّوبات يسير شؤون السكان و يطبق النظم القضائية و السلطات التشريعية و التنفيذية في بلاد البربر، يقول أندري جوليان: " و استوحى ماسينيسا من دساتير المدن الساحلية ما مكنه من منح المدن الجديدة نظاما بونيقيا يعتمد على حكام سموا الأسباط أو الأشفاط"، و الأشفاط جمع شفاطم تعني القُضَاة .
كانت هناك مساعي من قبل القرطاجنيين لتزاوج حضارتهم بحضارة البربر الذين أسسوا "جمهورية القرية" التي تتألف من الجماعة و رئيسها، و رويدا رويدا أسسوا الحكم الملكي فكان الملك عند البربر يسمى ( أجليد)، ثم أسسوا الإمبراطورية، و قد مرت هذه الأخيرة بثلاث مراحل تكلم عنها الباحث عثمان الكعاك، عندما تحدث عن الإمبراطورية الشرقية و كيف كوّن ماسينيسا امبراطورية في القسم الشرقي من نوميديا، و قال أن ماسينيسا كان شبيها بزيري مناد الصنهاجي الذي صانع الفاطميين حتى أورث أحفاده ملكهم، حسبما جاء في كتابات الدكتور محمد محدة أن المغرب الأوسط ( الجزائر) عرفت من الدولة الرومانية النظامين الجمهورية و الإمبراطوري، و هذا لأن الإستعمار الروماني في الجزائر كان في آخر أيام الجمهورية الرومانية، و الملاحظ كما يقول المؤرخ توفيق المدني أن الأمازيغ لم يتركوا الإستعمار الروماني ينال منهم، فالروم اكتفوا بإبعاد الوندال و حكم البلاد اسما، إنما الأمازيغ كانوا أصحاب السلطان الحقيقي و أصحاب الأرض، و كان همُّ الروم هو الحصول على الثروة الطائلة و الرجوع بها إلى بيزنطا، و ظلت الأوضاع على هذه الحال إلى أن جاء الفتح الإسلامي، و قد اعترف الورمان بحضارة البربر الذين كانت لهم سفن حربية ذات الصفوف الخمسة من المجاديف، و أمام هذا التقدم لم يجد الرومان مفرا من اللجوء إلى الإغريق و الإستعانة بهم في تسيير الأساطيل لكونهم أكثر دراية منهم في هذا المجال.

علجية عيش

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى