روبرت ماكدوجلاد - فى التمييز بين المواقف النقدية والابداعية.. ترجمة : د. رمضان الصباغ

تتعدد جوانب أنشطة الفنان والعالم ، وتتعدد علاقاتهما بحيث يمكن الاعتراف بسهولة بالتناقضات العديدة بينهما . هذه الخلافات غير ذات صلة ، ولن يكون التمييز المقبول بين مجالاتهما ممكنا الا من خلال حصر شامل لنقاط اختلافهما . ومن جهة أخرى فان مظاهر كل موقف مرتبطة بشكل منهجى ، وينبغى أن يكون من الممكن ان يشير الى تمييز واسع وبسيط فى الطريقة أو وجهة النظر التى تقوم عليها كثرة من السمات المتناقضة ، والتى قد تعتمد على الانتماءات لشىء معين من الخبرة المحددة لها .

اذا كان من بين المواقف المتعددة للارادة الانسانية ، يمكن التماس المبدأ الاساسى للتمييز ، فنحن نجد أنفسنا بشكل مألوف نقدم تقسيما مزدوجا لانماط التجربة الذاتية . ومن الصعب تقديم اسم لهذه الأنواع من التمييز ؛ فلا وجود لمصطلح ملائم وحصرى . أحد هذه المصطلحات هو الموضوع المدرك ، والمصطلح الآخر هو مايتم الاهتمام به . هذان المصطلحان يمثلان جانبين مختلفين من الخبرة وليسا حدثين متمايزين فى الزمن المحدد ؛ وبالنسبة للاثنين فان اللحظات لا يمكن فصلها عن كل محتوى الخبرة .
بعيدا عن هذا التمييز للمواقف ينشأ التمييز المشتق بين جوانب لمحتوى الوعى التى نسميها وجودا ( ما يعيه المرء ) وقيمته ( ما يهتم به المرء ) ومع الوجود يتشابك موضوع الادراك . هنا يجرد المرء نفسه قدر الامكان من كل موقف شخصى تجاه الخبرة . ويعد هذا الحدث على أنه هدف محض ، على حد سواء ، للعديد من الملاحظين ؛ ويسعى فى عملية مثالية الى التمثيل الأنسب لهذه العلاقات السليمة بشكل عام . وتتعلق القيمة بالموضوع النشط . ومن وجهة النظر هذه ، فانه يتم التعامل مع التجربة كموضوع للارادة فحسب ، ودافع . وتكمن الأهمية فى اتجاه ومقدار قوته باعتبارها حافزا للنشاط . انها لحظة فى حياة بناءة .

ينشأ اثنان من الوسائط المختلفة – فى الاعتماد على تمييز هذه الجوانب من الخبرة – بشأن أى موضوع أو عملية للعالم . من وجهة النظر الأولى ؛ يبدو أنه باعتباره حاصلا على وجود هدف ومغزى شاملين ، فكل الاجزاء تعمل عضويا الى غاية واحدة . ويكمن هذا المفهوم – فى واقع الأمر – فى وحدته . فالعناصر المكونة فى حد ذاتها لا معنى لها . لقد وجدت باعتبارها أجزاءا فحسب تلقى اهميتها عبر الكل . ومن وجهة النظر الأخرى فان الموضوع أو الحدث يعتبر كاحتمال لمجموعة من العناصر ، ليست بوصفها وحدة ذات مغزى . هذه وجهة نظر ذرية .

توجد الشمولية فقط لكى يتم تحليلها ، ولكى يتم ردها الى مكوناتها ، سواء كانت مادية أو سببية . وان هذه الأخيرة هى الموجودة بشكل دائم وحاسم لتكون مستندة الى ما يتناسب مع بساطتها وشموليتها . وشكل التوليف بينهما ( البساطة والشمولية ) هو الوحدة الغائية المعتمدة لمظهرها على وجهة النظر الانتقائية للارادة الانسانية ومعاناة التحول من لحظة الى لحظة على أساس أن هدف الارادة متارجح .

يتعامل كل نشاط يجسد وجهة النظر السابقة مع الظواهر بطريقة خلاقة ، وكل تطبيق لهذا التصور الأخير هو علاج للخبرة من وجهة نظر نقدية . من خلال الموقف الابداعى ، المقصود من ثم هو جميع الأنشطة التى تسعى الى نقل مغزى موحد من الشىء او الحدث . وهدفه هو تعيين الموضوع أو العملية الواردة فى مثل هذه الطريقة ، ذلك أن التأثير الناتج عن الموضوع الادراكى البناء قد عبر الى الملاحظ .

يتعلق النشاط النقدى ، على العكس من ذلك بشكل كلى بتحليل الخبرة الى عناصرها النادرة . مع أهميته ، نقول ، بان قيمته باعتبارها تعتمد على وجهة النظر الانتقائية ، فان النقد يكون لديه القليل للقيام به . وله وظيفة واحدة هى تحديد الاتصال بين الظواهر عبر عمليات التحليل . ويسعى دائما الى حل بنية الخبرة وعرض عناصرها غير القابلة للاختزال فى علاقتها مع بعضها البعض . قد يكون الموضوع الذى لايتم تحليله موضوع اهتمام للجمال أو القيمة ، ولا يمكن أن يكون موضوعا لاى شكل من اشكال النشاط الوصفى او النقدى .
كل من وصف الخبرة ، وتفسيرها ، هو بمثابة شكل من أشكال التنظيم من قبل الارادة الانسانية الهادفة . والنشاط الابداعى والنقدى على حد سواء يلغيان استمرارية التجربة الفعلية بهدف ترتيب العناصر فى شكل مثالى . موقف كل من الفنان والعالم اللذين يشتركان فى هذه الخاصية المشتركة لاعادة التنظيم المثالى ، يتعرض للتميزمن قبل الدوافع التى تكمن وراء الأشكال الخاصة من التوليف ومن قبل المعايير التى تحدد النظام الذى يتم فيه ترتيب المواد .

يسعى النشاط النقدى الى اعادة البناء المنطقى للخبرة بهدف الوصف ، واستجابة لطلب الروح الانسانية لفهم عالمها . يضطلع النشاط الابداعى باعادة البناء الوجدانى للخبرة بهدف انتاج حالة مزاجية واستجابة لطلب الروح الانسانية للتمتع بعالمها . ومصطلح فنان يعنى هنا كل من يتعامل مع الخبرة بطريقة ابداعية ؛ ومصطلح العالم يعنى كل من يتعامل مع الخبرة بطريقة نقدية . وتطبق المصطلحات – بطبيعة الحال – على جميع اللحظات المزاجية واللحظات المتتابعة للحياة الفردية ، كما تحدث بالتناوب ، والتعامل مع الخبرة يعد الآن تعاملا منطقيا ووجدانيا .

يعد العمل العلمى وظيفة للذات باعتبارها مدركة ، وله علاقة مع وجود الظواهر . ويكون اتجاه النشاط صوب الفهم والتعبير الموضوعى الذى بعد معرفة . وهدف المرء هو الوصف من خلال تعميمات وقوانين ، وموضوع الوصف هو الواقع ومعاييره الدقة المكتملة . ويعد الانجاز عملا صائبا والفشل عملا خاطئا .

ويعد العمل الفنى وظيفة الذات باعتبارها نشطة ودائما تعبر فى شكل من أشكال قيمة الخبرة . ويتم توجيه الارادة نحو الاستخدام والتمتع عبر منتجات النشاط الابداعى . وما يعنيه المرء فيما يتعلق بالمنتج هو أن يكون مقدرا على أساس المثل العليا فحسب . ونتيجة التقدير هى القيمة . ومعاييرها الصدق والتأثير . ويعد الانجاز قداسة وكمالا ، والفشل خطيئة .

هنا لدينا مجموعتين من المصطلحات مقابلة لبعضها البعض ، والتى قد يتم وضعها فى اعمدة متقابلة باعتبارهما يدلان على شكلين متناقضين من النشاط ، وباعتبارهما يحددان مصطلحين من الفئات العظمى للكتابة اللذين ادعاءهما " دى كوينسى " "1"، على الترتيب . ادب المعرفة وأدب التاثير .
طبيعة النشاط النقدى هى طبيعة غير مشكوك فيها ، ولكن حدود التعبير الابداعى والآثار المترتبة على اتجاهه تعد اقل وضوحا . هدف الفنان ، سواء فى جاذبيته الجمالية للشخصية المدركة أو فى جاذبيته الأخلاقية لبناء الشخصية ، هو التأثير والاقناع واللعب . اختياره لمادته وطريقة ترتيبها كلاهما مسيطر عليه من قبل هذا الهدف الأوحد . وهدف الفنان فى مجال الابداع الجمالى هو تقديم شىء او حدث منتج للأثر على المتلقى .
انه يسعى – باختصار – الى توصيل حالته المزاجية الخاصة . وفى مجال الابداع الاخلاقى ، من جهة اخرى ، تكون وظيفة الفنان هى توصيل ارادته الخاصة . فهدفه هو تقديم شىء او حدث فعال فى تحويل نشاط الذات الى ما يتصدى له . فليست الحقيقة ، بل التأثير ، هى التى فى قلب النشاط الفنى ، وليست من اجل الفهم ، بل من اجل الشعور والاستخدام . وتشكيل المرء المتلقى للنحافز الابداعى . فيجب أن تكون الحقيقة – فى الواقع – هناك ، لكنها حقيقة الانطباع حيث الصدق وليس حقيقة الوصف .

يتعارض المزاجان النقدى والابداعى أو التقديرى – فى الواقع – مع بعضهما البعض . وتقدم خبرة التأويل الناجحة من وجهة نظر الى أخرى ، استحالة الاندماج بين الاثنين . وليس بوسع الفنان على هذا النحو ادراك علاقات موضوع تأمله باعتبارها تفسيرا منطقيا لما يفضله . انه يتوقف عن أن يكون فى موقف الفنان فى اللحظة التى يقوم فيها بتحليل طبيعة وأساس حكمه على القيمة . فلم يعد مبدعا بل صار ناقدا ، لأنه انقطع عن الاستمتاع بتجربته ، وأصبح مجرد ملاحظ لها . بالمثل بالنسبة للعالم يجب القول بأن تأمل العلاقات المكتشفة من تحليله لها لمصادر المتعة تعنى تحوله الفورى الى وجهة النظر الفنية .

" المراقب الوحيد للسموات
عندما تسبح كواكب جديدة فى مجال معرفته " .
اذا كان فى الحالة المزاجية التى تصور " كيتس ""2" وجوده بها كشاعر بسيط . فان الحقيقة الموصوفة تظل دائما معلقة ، وبالنسبة للخبرة الرومانتيكية وسموها كانا هما الحقيقتان الوحيدتان لهذه اللحظة . ليس بوسع العلم أن يضع فى اعتباره أيا من هذه الاشياء . ويعد الانفعال بالنسبة له مجموعة من العناصر الاستثنائية ، والارادة الأخلاقية هى رد فعل معقد وقابلة للتحليل الى مجموعة من الروابط السببية . فلا علاقة للعلم بالتقديرات ولا تحديد القيم ، ولا يدرك الجلال أو الاستخدام ، ولا الخير ولا الجمال فى موضوعاته . يوجد الكون موزونا ومقيسا ، وليس موضع تقدير أو استمتاع .
فى شرح التصنيف المفيد للعلوم باعتبارها وصفية ومعيارية ، يقال أحيانا أن الأولى ( الوصفية ) مثل علم الفلك ، والتاريخ الطبيعى وفقه اللغة وعلم النفس ، ووصف الحقائق ، فى حين ا الأخرى ( المعيارية ) مثل النحو والنطق والجماليات والأخلاق ، وتحديد القيم . قواعد اللغة – على سبيل المثال – لا تستفسر عن كيف يعمل الانسان – كما فى واقع الأمر – ويستخدم الكلمات ، او كيف استعملها فى الماضى ، هذه هى مهمة فقه اللغة( philology ) كعلم وصفى .
على العكس من ذلك ، ما يحدد كيف يجب على المرء استخام الكلمات . وبالتالى فان البديل هو الدور التوجيهى للعلم . نجد فى هذا التصنيف ان دور العلوم الموجودة فى المجموعة الأخرى مربك مع تلك الجوانب من حياة الانسان غير المجزأة التى بها وظيفة لتحديد فنون التحدث الصحيحة ، والذوق السليم والحياة الملائمة .
لا تسعى الاخلاق أبدا الى تحديد المثل العليا لسلوك البشرية ، ولتحديد ما يجب أن يشكل لدينا فكرة عن الخير والشر انها تهدف الى تحليل ظاهرة موجودة بالفعل عن الحكم الأخلاقى . وتهدف الجماليات فحسب الى تحديد شكل الموضوع الجميل وطبيعته وأساس الانطباع كتجربة فعلية يشارك فيها الناس . لا وجود لعلم ، بل ان للعلم الوصفى والتحليلى منهجه .

عمل العلم هو الاستنساخ من العالم الموضوعى للخبرة ، من حيث الارتباطات الزمانية والسببية . اما عمل الفن فهو تمثيل المشاعر الانسانية او الهدف الانسانى عبر رموز العالم الخارجى . هذا الفارق المتفرد والمتميز فى الغايات تجاه تلك الأنشطة الموجهة مفروض على ملاحظتنا فى كل مقارنة بين العمل الفنى والعلمى .
الهدف من هذا الأخير ( العمل العلمى ) هو تقديم وصف منهجى مكتمل للظواهر . فهو ليس مجرد خواص للشىء التى تقدم له ميزة أو ضررا للدراسات العلمية ، بل يعد نظاما مكتملا من العلاقات التى يحمل فيها على الأشياء الأخرى الموجودة . فليس من الممكن القول بانه لافرق فى المرتبة الموجودة فى عالم العلم ، ذلك ان كل الحقائق متساوية فى القيمة بالنسبة له . اينما يظهر التنظيم المنهجى يجب ان يكون هناك خضوع الأدنى للأعلى
ولا يعد عمله كاملا حتى يأتى بكل عنصر وحدث فى اتصال مع كل الموجودات الأخرى . فى العلم تكون كل المساهمات الفردية فى وحدة منهجية . وجميع الخواص قد اكتشفت ، وجميع العلاقات قد قررت متضمنة جميع الأعمال السابقة باعتبارها شرطا ، وهذا فى حد ذاته يعطى مزيدا من الصلاحية والأهمية لبنية المعرفة .

لا تظهر فى الفن هذه الوحدة المتعالية ، بل على العكس من ذلك ، تظهر المنافسة اللدودة ، والتفرد ، والحالة المزاجية تعقب الحالة المزاجية دون امتزاج ، ويحل تصور فنى محل تصور فنى آخر بدلا من الارتباط به لتشكيل كل أكبر. ويعد موضوع التأمل الجمالى من هذا القبيل بفضل تجسيده للمثل الأعلى للغاية لاكتمال الاعتماد على الذات . المبدا الأساسى فى تشكيل الصورة ، وفى بناء نصب وكتابة قصيدة ، وفى تكوين شخصية هو وحدة منتشرة منه ، حيث جميع وظائف أجزائه يتم فهمها وانجازها . منتج الفن يعد نظاما مغلقا يجد فيه كل حافز الاشباع ، لان كل فكرة تتخلله تنعكس الى الخلف ، وتجد موضوعها فى النهاية داخل دائرة من العناصر التى يتألف منها العمل .
لا توجد مثل هذه الوحدة التى يمكن تصورها فى العلوم الخاصة . فوصف شىء منعزل يعد امرا مستحيلا . ينظر اليه للوهلة الأولى على أنه شظية . ولا بد من تحطيم علاقاتها خارج كل جانب اذا كانت متروكة فى عرض انفرادى . فى هذا يكمن التمييز الاساسى بين المواقف النقدية والابداعية . فالعلم يشرح الموضوع الفردى من خلال ادماجه بنظام أوسع ؛ بينما يفسر الفنان النظام الأوسع من خلال الموضوع الفردى . لذا يعبر العلم عن نفسه فى مسلمات مجردة ، بينما يعبر الفن فى تفاصيل محددة . لا شىء أقل من الكل يخدم العلم باعتباره مثلا أعلى ، وفى الفن يكشف الرسم التخطيطى والصورة المصغرة عن نوع أكثر اكتمالا من الصورة النهائية او الكون .
من ثم ، تكون وظيفة الفنان هى الانتقاء وتمثيل الموضوع المفرد والخبرة الفردية ، وذلك على ان يظهر الشمولية ؛ وهكذا يحفز مخيلة كل المشاركين فى الخبرة .
تعد هذه البهجة فى موضوع مفرد وقبوله على أنه يمثل الكون غريبة بشكل كلى عن العلم . ومع ذلك ، فان الدافع الكامن ورا كل وصف ، وكل تفسير ، هو الرغبة فى الوحدة ، الوحدة التى لم تتحقق ولكن المح اليها وتم تضمينها فى التوليف ، وبالنسبة لمحاولة التفسير فانها تعبر عن السعى الى رؤية العالم كنظام عقلانى واحد . وبالتالى فهو الوحدة التى تصبح اكثر تحديدا باعتبارها وصفا لعالم ينمو أكثر شمولا واكتفاءا .

العلم المثالى هو التعبير الكامل عن الوجود ، والمعرفة التى يمكن أن تعلن فحسب باعتبارها ادراكا لذلك المجود فى شكل فنى تام ، ليس بالمعنى بعيد المنال الذى يثار أحيانا مع الشعور بأن مغزى الوجود يكمن فى هذه اللحظة ضمن ادراكه ، ونظرة الصوفى التى لا يمكن أن توضع فى مصطحات عقلية ، بل فى التحقق الكافى لعدم تصديق العلاقات المتعددة للعالم التى نعزوها للعقل الالهى .

ادراك الوجود كوحدة ، ونظام فيه معنى لكل جزء يكمن فى الكل داخل النظام لا يقود العقل التأملى خارج حدوده ، هذا ما افهمه من الموقف الجمالى . وبالتالى ، فى حوافزهما القصوى ، ايضا ، يوجد بين الشكلين من النشاط ( العلمى والفنى ) لقاء مشترك ، والتأمل التقديرى لعالم الحقيقة يصبح قمة الكمال للعمل العلمى .


هامش :

1- توماس بنسون دى كوينسى - Thomas Penson De Quincey ( 1785-1859 ) .
2- جون كيتس John Keats ( 1795- 1821 )شاعر إنكليزي من ممثلى شعراء الحركة الرومانتيكية الإنكليزية في مطلع القرن التاسع عشر .


ترجمة : د. رمضان الصباغ



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى