عبّاد يحيى - أقصر من قصة أحدهم

[إلى الآخرين.. في "اليوم العالمي لحرية الصحافة"]

من دون وعي تكوّمتُ في الزاوية البعيدة للغرفة أو الزنزانة، قدّم لي أصغر الموجودين شيئاً ما يشبه الوسادة، على يده بقايا دم جاف وجرح متقرّح، بل ثقب، كأن أحدهم وضع يده على طاولة ثم ثقبها بقلم. أشرت له بحركة تفيد أنني لست بحاجة إليها.

أكبر الموجودين سنّاً لم يتحرّك حين فُتح باب الغرفة وأدخلوني إليها، ظل مستلقياً موليّاً وجهه صوب الحائط، كان يمسك ركبتيه بيديه، كأنه نائم، وتحت رأسه شيء يشبه الوسادة. كانوا خمسة، أحدهم جالس يسند ظهره إلى الحائط وبين رجليه دلو كأن فيه ماءً، يمسك به كأنه يخاف فقدانه لسبب غير واضح. كانوا حفاة ويستلقي رابعهم واضعاً رأسه على فخذ خامسهم الجالس إلى الحائط على شكل زاوية قائمة.

لم يدم الصمت طويلاً، سألني الصغير عن أحوالي ولماذا أنا هنا، وتنحنحت منظفاً حلقي من صمت الساعتين الماضيتين، وقلت له إنني لا أدري صراحة، ضحك الأربعة المستيقظون، ومازحني أحدهم مطمئنّاً بأن الإقامة ستكون طويلة، فلا داعي للتصرف برسميّة وتحفّظ. حاولت الابتسام ردّاً على كلامه الثقيل.

كان صوت صراخ وعويل يأتي من بعيد، من غرفة ما، وكان ثقيلاً خانقاً، حاولتُ الانشغال عنه بأي شيء، وكان صاحب اليد المثقوبة يضغط على الثقب بإبهامه.

بعد دقائق فكرت بسؤالهم عن سبب وجودهم هنا، من باب الانشغال عن الصراخ وردّ السؤال، السؤال الأول في أي زنزانة، أو كسر الجليد بين متقاسمي السجن، ولكنني تروّيت، ولم يدم التروي طويلاً فسألت، وقبل أن أسمع الإجابة شرد ذهني.

من المؤكد أن الصحيفة بدأت تجري اتصالاتها مع المسؤولين والجهات الحقوقية، وزملائي الذين أخبروني أن أي تأخير يتجاوز الساعتين سيدفعهم لإثارة الأمر في كل وسائل الإعلام المتوفرة. وبالتأكيد بدأت النقابة بالتحرك وتهدد بتفعيل القضية في كل مكان. هنالك هواتف ترن في كل الأرجاء، وهنالك زملاء يراسلون تلفزة دولية جهّزوا رسائلهم الإخبارية، وهنالك صفحة ناشطة على فيسبوك بدأت تملأ الفضاء بصورتي مرفقة بكل دعوات الحرية ومترادفاتها. وبلا شك هناك مظاهرة أو وقفة تضامنية في مكان ما، ربما أمام وزارة الداخلية أو وزارة الإعلام وربما أمام مقر الرئيس نفسه.

اعتقالي كان غلطة ستدفع السلطات كلها ثمناً باهظاً مقابلها، لن يهدأ الناطقون باسم الأجهزة الرسمية وهم يحاولون تخفيف الهجمة عليهم إثر اعتقال صحافي يعمل في وسائل إعلام دولية. بالتأكيد القيامة قامت في الخارج.

كان أحدهم يتحدث، ولم ألتقط من حديثه شيئاً، كان يروي قصته على مهل لاستفادة أكبر قدر من الوقت، حاولت التوقف عن التفكير في ما يجري في الخارج والاستماع إلى قصته ولكن لا فائدة، كانت الخواطر والخيالات والتوقعات أقوى. سمعت كلمات متفرقة؛ خمسة أشهر، زنزانة انفرادية، ضرب وشبح.

عند وصوله إلى نقطة بدت وكأنها ذروة حديثه، فُتح الباب، وأشار لي العسكري أن أتبعه، نظرت إلى الشاب الذي يحكي ثم إلى العسكري، فكرت أن أطلب منه الانتظار قليلا، لأكمل الاستماع إلى قصة الشاب، ارتبكت وتملّكني الحرج والقهر. فهم الشاب الموقف وأشار ضاحكاً أنِ اخرجْ، وأتبعها بعبارة عامة "دير بالك".

تمنيت أن يكون الخمسة اعتقدوا أنها جولة تحقيق أخرى أو نقل إلى زنزانة.
كان خروجي من هناك أقصر من قصة أحدهم.


عبّاد يحيى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى