محمد كريم الساعدي - مظفر النواب.. ذاكرة وطن حر

إن الفعل الذي تنطلق منه كلمة الذاكرة الشعرية، يدل على استمرارية صورة الشيء أو اللفظ في الحفظ ، وذلك من خلال أن يكون واقعاً أولاً ثم يتحول صورة في الذهن ، على اعتبار أن الذاكرة في الشعر هذه القوة النفسية الحافظة للأشياء في الذهن قادرة على استدعائها عقلياً بمقتضى الحاجة اليها ، وهنا تصبح العملية بوجود مادة (صورية ، سمعية ، .....الخ) تشاهد أو تسمع ... الخ ثم يتم حفظها وتجريدها في الذهن أو تحويلها الى صورة ذهنية أو علامة ذهنية سواء كانت حركية سمعية بصرية وغيرها ، يتم استدعائها وقت الحاجة أو عند الضرورة من خلال استثارتها أو عرض عليها نفس المواقف السابقة التي حصلت فيها ، أو تقريب الشيء يكون قريب لها في المعاني مثلاً ، أو غيرها من المحفزات النفسية .
وفي مجال الفلسفة يرى عدد من الأكاديميين في الموسوعة الفلسفية بأن الذاكرة في الشعر هي : "حفظ الذات لنتائج تفاعلها مع العالم الخارجي مما يجعل في إمكانها ترديد واستخدام هذه النتائج في نشاط لاحق (...) وترتبط الذاكرة بالتفكير وأشكال النشاط الناشئة كنتاج لها تتم بعملية التفكير نفسها . ويتكون محتوى الذاكرة الأولية من غير الكلامية من نماذج ذهنية للواقع تكونت من خلال العلاقة المباشرة بين الذات والموضوع ، ويتوقف تكوينها على اتصال تأثير الموضوعات من حيث الوقت ، وعلى نوع الحاجة التي تحدد طبيعة التفاعل ، وفي الذاكرة الكلامية العليا – التي تقوم على الذاكرة الأولية – تثبت نماذج للعلاقات الموضوعية بين الأشياء" ( رزونتال . م، ي . يودين ،الموسوعة الفلسفية 1980 ص220) .
أما موسوعة (لالاند الفلسفية) فتجمل الذاكرة كمفهوم في ثلاثة هي : وظيفة نفسية قوامها معاودة أنتاج حالة وعي سابقة ،وبالتعميم ، كل حفظ لماضي كائن حي في حالة هذا الكائن الراهنة باعتبار الذاكرة في هذه الحالة من التعميم ، هي وظيفية عامة للجهاز العصبي ، أما الذكرى فهي حفظ ذكرى واقعة كتخليد ذكرى رجل عظيم أو حدث مهم في ذاكرة الشعوب و الذاكرة النفسية بحسب تعريف (لالاند) تعد الذاكرة الأرفع والأعقد في تصنيفاتها (ينظر: لالاند ،اندريه، موسوعة لالاند الفلسفية ، 2008 ، ص783).
أما في (المعجم الشامل) فأن الذاكرة الشعرية تأتي بالقدرة على تذكر الأحوال الانفعالية القديمة ، والذاكرة الحسية ، وهي البسيطة التي تأتي بالأحداث من باب التذكر الخام ، والذاكرة المنظمة ، وهي ذاكرة المعاني التي تنظم الذكريات على وفق ما يوظف معها من تفسيرات وتأويلات ، وكل هذه الأنواع الثلاثة هي من وظيفة الجهاز العصبي ، وهذه الوظيفة عامة له ، نشأت من اتصاف العناصر الحية وبخاصة الاحتفاظ بالتبدلات التي تطرأ عليها وربطها بعضها ببعض ، للوصول الى ما يراد استحضاره وتقديمه في مواقف معينة ومحدودة ومقصودة في اغلب الأحيان وغير مقصود في أحيان أخرى (ينظر : الحفني : المعجم الشامل ،2000، ص366).
أما الفيلسوف الفرنسي (بول ريكور) ، يرى أن الذاكرة هي ما يمثله الماضي من صور ، التي تشكل قيمة حضورية عند استثارتها وهي لا تأتي الا في سياق خاص أبعد من اللغة العادية أو التمثيل البسيط ، فهي يمكن ان ترتبط بالخيال الذي يعده في أول وابسط سلم المعرفة ، لذلك فهو يقول "ان الحضور الذي يشكل قوام تمثيل الماضي يبدو انه حضور صورة . فنحن نقول بلا تمييز بأننا نتمثل حدثاً ماضياً، أو إننا نتصوره أي عندنا صورة وهذه الصورة يمكن ان تكون شبه بصرية أو سمعية " (بول ريكور: الذاكرة ، التاريخ ، النسيان 2009، ص33.).
ومظفر النواب ذاكرة العراق الشعرية التي قدم من خلالها اروع صور الحرية التي حفظتها لنا قصائد النواب في صوره الشعرية التي مازالت هي لوحدها ذاكرة عميقة بمفرداتها وعناوينها المختلفة التي شملت خارطة الوطن المنهك بالحروب والطواغيت .. لكن هذا الوطن في وعي ووجدان مظفر النواب هو وطن يمتاز عن غيره من الأوطان بذاكرة حية ووعي مليء بالعنفوان ، وفي هذا المجال يقول الشاعر الراحل (فوزي الأتروشي ) في مجال الوطن ومظفر النواب والذي وضعه مع ثلة مميزة من العراقيين المبدعين ، إذ يقول : " لو كنا نملك الوطن الذي تخيله (مظفر النواب) و(فؤاد سالم) و(ناهدة الرماح) و(زها حديد) و(علي الوردي) و(يوسف العاني) و(نازك الملائكة) ومئات المبدعين في شتى حقول المعرفة اقول لو كنا نملك وطنا مثله لكنا وفرنا العديد من حقب التردي والتخلف والتناحر. فالوطن في ذاكرة هؤلاء قيمة عليا وسكن آمن والحب الاول والاعمق والاكثر رسوخا"(فوزي الأتروشي : مظفر النواب للشعر وطن)، وهذا الوطن النوابي المتميز يشكل ذاكرة عميقة في الحرية والعدل والثقافة القائمة على الانتصار للمظلوم ، فالشعر لدى النواب هو طريق للعودة الى مساحات الخلود التي رسمها في مخياله الشعري للعراق ، فهو تخلى عن كل شيء الا الوطن ، وكأن الوجداني لديه هو صورة عن العراق " مظفر النواب هو هذا كله مضافاً اليه الرسوخ والرفعة والثبات والتماهي مع الوطن الى حد اننا لم نعد نفرق بينهما. فقد مرت حقب وتقلبات ومحطات سياسية في حياته لكنه دائماً المنتصر شعرياً وعملياً لصالح الحق والعدل وحتى حين انشق عن حزبه كان بديله الانتماء للوطن وهو في كل الحالات اقوى وأوسع واكثر جدوى من الانتماء لحزب معين أياً كان هذا الحزب. هو الشاعر الذي تعرفه النخبة ويعرفه المواطن العادي لان قصائده المكتوبة باللهجة العامية تحولت من ديوان شعر الى ديوان أغاني وكلماتها مازالت تتردد بيننا . وهو الشاعر الذي هاجر وتعذب وابتعد جسدياً عن مرابع الوطن ولكنه لم ينسلخ عنه لحظة واحدة وكان دائماً العين اليقظة على ما يدور في ثنايا وطن لطالما تحول الى سجن كبير له ولا مثاله من المبدعين "( فوزي الأتروشي : مظفر النواب للشعر وطن) .
إنَّ الشاعر مظفر النواب الذي قدم الوطن بقصائد ملونه بطعم الحزن وصوره المختلفة التي اراد من خلالها أن يحفر صورة الوطن بذاكرة الأجيال القادمة لأن طعم الحزن لديه يولد معه الحرية التي يصبو اليها دون كلل أو ملل ففقي قصيدته (ترنيمات استيقظت ذات يوم) يقول فيها :
من نسمة الصمت..
من نبرة الصمت.. والدمع
أعرف خط العراق
ومن مثل قلبي يعرف خط العراق​
إنَّ قلب النواب هو يعرف العراق جيداً والذاكرة فيها الكثير عن الوطن وعن الحب والعطاء الذي لا ينكره أحد عليه .. فهو يعرف ما معنى الوطن وما معنى أن يفرط فيه من قبل اناس لم يعطوا للوطن حقه ، فهو يرى بأن الوطن ليس مادة للبيع وليس مادة قابلة للصراع عليه هو صورة تعلق في الأفئدة قبل قطع الدلالة في الحدود ،أو الشوارع ، هو ليس مثل روما كل الطرق تؤدي اليه هو وطن لا يؤدي اليه الا من يؤمن به ، لذا يقول في قصيدة (ثلاثة أمنيات على بوابة السنة الجديدة) الأبيات الأتية :
مرة أخرى على شباكنا تبكي
ولا شيء سوى الريح
وحبات من الثلج على القلب
وحزن مثل أسوق العراق​
ويقول ايضاً :
كل شيء طعمه.. طعم الفراق
حينما لم يبق وجه الحزب وجه الناس
قد تم الطلاق
حينما ترتفع القامات لحناً أممياً
ثم لا يأتي العراق
كان قلبي يضطرب… كنت أبكي
كنت أستفهم عن لون عريف الحفل
عمن وجه الدعوة
عمن وضع اللحن
ومن قادها ومن أنشدها
أستفهم حتى عن مذاق الحاضرين
أي الهي أن لي أمنية ثالثة أن يرجع اللحن عراقياً
وأن كان حزين​
وكذلك يقول في ابيات أخرى وينطق الحزن كل الحزن على وطن قد دعيت الى طاولته تجار الاستغلال والنهب والنفط الذي اصبح نقمة على الوطن وأهله ، وقد أصبح العراق كوطن وتاريخ لا يعرف فقط بما في باطن ارضه دون أن يكون لكرامته وجود فهو مباح ، إذ يقول في هذه القصيدة أيضا :
لم يعد يذكرني منذ اُختلفنا أحد في الحفل
غير الاحتراق
كان حفلاً أممياً إنما قد دعي النفط ولم يدع العراق
يا إلهي رغبة أخرى إذا وافقت
أن تغفر لي بُعد أمي
والشجيرات التي لم اسقِها منذ سنين
وثيابي فلقد غيرتها أمس.. بثوب دون أزرار حزين
صارت الأزرار تخفى.. ولذا حذرت منها العاشقين
لا يقاس الحزن بالأزرار…بل بالكشف
إلا في حساب الخائفين.​
إذن ، ما هو الوطن في ذاكرة مظفر النواب الحرة؟ "الوطن في مخيلة مظفر النواب ليس بقعة ارض ولا تربة مقدسة بقدر ما هو ملاذ آمن للإنسان وتطلعاته واماله وآلامه وافراحه واحزانه وأي وطن لا يوفر الامان والعيش الرغيد لساكنيه هو في النهاية سجن واسلاك شائكة وحقول الغام والوطن ، في شعر النواب ملون وبقدر الوان مكوناته فلا غلبة للون على آخر ولا وصاية لفئة على اخرى ولا أغلبية تفترس الأقلية ، وهو وطن لا فضل للرجولة فيه الا بقدر احترامه وتقديره للمرأة شريكاً وعلى قدم المساواة المطلقة" (فوزي الأتروشي : مظفر النواب للشعر وطن) لذا فإن الوطن قد أصبح عند النواب هو المعلم للحب وهو التاريخ الصحيح وليس المزور ، إذا اراد النواب أن يعّرف صحيح التاريخ فهو يعرفه بدماء التضحية للوطن ، كما يقول في قصيدته (وتريات ليلية):
وطني علمني أن اقرأ كل الاشياء
وطني علمني, علمني
أن حروف التاريخ مزورة
حين تكون بدون ماء
وطني علمني إن التاريخ البشري
بدون الحب
عويلا ونكاحا في الصحراء

المصادر
  • رزونتال . م، ي . يودين ،الموسوعة الفلسفية ، وضع لجنة من العلماء والأكاديميين السوفايتيين ، ترجمة : سمير كرم ، بيروت : دار الطليعة للطباعة والنشر ، ط2 ، 1980.
  • ينظر: لالاند ،اندريه، موسوعة لالاند الفلسفية ، معجم مصطلحات الفلسفية النقدية والتقنية ، تعريب : خليل احمد خليل ، بيروت ، عويدات للنشر والطباعة ، المجلد الثاني ، 2008.
  • ينظر : الحفني : المعجم الشامل ، لمصطلحات الفلسفة ، القاهرة، مكتبة مدبولي ،2000.
  • ريكول ، بول ، "الذاكرة ، التاريخ ، النسيان"، ترجمة ، د. جورج زيناتي ، بيروت، دار الكتاب الجديد ، 2009.
  • فوزي الأتروشي : مظفر النواب للشعر وطن ، لندن / صحيفة الزمان ، صحيفة عربية يومية دولية مستقلة ، النسخة الالكترونية ، في 15/ جولي / 2017.



- ورقة مقدمة لملتقى الشاعر مظفر النواب الذي أقامه (مركز كلاويز الثقافي / السليمانية /العراق)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى