أفنان القاسم - حلم حقيقي.. قصة

لم يوقظ الكاتب لوي مالرو زوجه في الصباح الباكر كما اتفقا، كان يريد العودة إلى صنعاء القديمة وحده، ليعيش في أجواء روايته الجديدة، ليعيش تلك الأجواء. رفع الستارة، ونظر من النافذة العالية لفندق ملكة سبأ. كانت صنعاء لم تزل تنام مشوبة بالضباب، صامتة، غامضة، غارقة في الزمن، وكان مالرو كمن يعود ألف عام إلى الوراء، ألفي عام، ثلاثة... اخترق مشهد الماضي، ورأى في الخيال كل المعارك التي دُفع فيها ثمن الانتصار غاليًا، كل النساء التي استبيحت حرمتها من أجل إخضاعها، كل السدود التي أقيمت على أنهار من الدم والدمع لم تجف إلى اليوم. كان يريد الضحك، الابتسام، الصراخ ربما، لم يكن يعرف على التحديد. كيف كان يمكنه التعبير عن فرحه، خوفه، جنونه؟ انتفض دهشًا لقوة الانطباعات التي أثارها فيه مشهد بسيط للمدينة العريقة. التفت إلى زوجه النائمة نومًا عميقًا، وعلى شفتيها تطفو ابتسامتها الرصينة، الابتسامة ذاتها التي كانت تلصقها في باريس، بينما هو لم يكن قد أغلق عينه طوال الليل. كانت غرابة هذا المكان الذي لا شبيه له تكفي لبلبلته حتى أبعد نقطة في أعماق كيانه. تذكر ما كان قد قاله لها عشية أمس، وهما في زقاق قديم:
- أنت لا تعرفين، يا ماري-كريستين، كيف تقدرين هذه المدينة حق قدرها. تنظرين من حولك كما لو كنت لم تزالي في باريس بينما أنت في قلب صنعاء، وما صنعاء لك سوى ديكور غريب، قلادة حميرية، تمثال نحاسيّ لوعل قرنه مكسور، قدم حيوان خرافي، ربما كان من سباع الطير. تضعين صنعاء على صعيد واحد وكل ما سمحت لك الحياة الباريسية بمعرفته، أو كل ما قدمه لك زوجك – والحال هذه أنا – بفضل كتاباته، من أجمل الفساتين إلى أغلى الماس، من الفندق الخاص إلى الفيراري. أنت أكثر ظاهرية من أية امرأة أخرى! ومع الأسف، (( الفائض )) جوهر متعتك، هل أقول جوهرك؟

سارع لوي مالرو إلى مغادرة الحجرة، كان يريد أن يصل إلى جوهر الأشياء ليصل إلى متعته. تمنى، وهو في المصعد، لو يأخذ بساط الريح ليعجل الوصول، وابتسم هذه المرة على فكرة الوصول إلى جوهر الأشياء عن طريق الخيال، ما كان يريده هو الخيال الصادق. ومرة أخرى، قال لنفسه إن هذه ليست حال زوجه المجردة من كل خيال. دفع باب الفندق الضخم الخارجي، ورأى سائقه شملان يقف تحت آخر درجة من الدرجات الأربع. راوده الشك في عبارة ((الخيال الصادق))، فهل هناك حقًّا خيال صادق؟ إلى أي مدى يكون الخيال صادقًا؟ أو بالأحرى، إلى أي مدى يكون الصدق خياليًا؟


وضع في رأسه أن يعيش التجربة من الداخل، سواء أكانت هذه التجربة ممتعة أم لا، ليمكنه التعبير عنها بأكثر دقة، ويجعل من قارئه يشعر بها. فكر أنه ليكتب رواية ناجحة عليه أن يكسر العلاقة بين الواقع والخيال، أن يمحو المسافة الموجودة بينهما، أن يصهرهما ليعيد تجسيدهما بشكل أفضل. كان من السهل قول ذلك. لتحويل الكلمات إلى ماس – بمعنى ليحرز النجاح لدى قرائه ويغدو غنيًا وبعد أن يغدو غنيًا أن يمكنه تقديم كل ماس العالم لنفسه – لا بد من المعاناة. الكتابة عن الموت كما لو كان موت الكاتب. الموت مجازًا، ولم لا الموت بكل بساطة، الوقت الذي توصف فيه هذه اللحظة التراجيدية، غير المجردة من المتعة.

حيّاه شملان، ثم سأله عن زوجه ماري-كريستين:
- والست مريم، ألن تأتي؟
- الست مريم تنام.


كان مالرو يتأمل السائق باهتمام، شعره الأجعد كخروف، وعيني الصقر، ولحية التيس. كان ينظر إلى قميصه المفتوح عن صدر مشعر، وإلى مئزره الجلدي، وخنجره المعقوف، المشدود بحزام عريض مزين بخرز ملون. فكر الكاتب في بطله، بطل من لحم وشحم كشملان، لكن الظاهر فيه لم يكن حقيقيًا مع ذلك. كان شابًا دومًا، على عكسه هو الذي قضى حياته في الكتابة عن الآخرين، والذي لم يكن لديه الوقت ليكون شابًا. كانت أجواء روايته تقتضي بطلاً كهذا، بطلاً يؤثر في الأشياء، مع الأشياء.
أوضح:
- الست مريم تنام نومًا عميقًا.


ماذا سيحدث لو يبعث شملان إليها ليوقظها؟ كيف ستتصرف وهي ترى هذا الرجل الميثولوجي قرب مضجعها؟ هل ستُفاجأ؟ لن يكفي هذا محو المسافة بين حقيقتها وخياله. كان كل منهما يعيش التجربة نفسها على طريقته. كانت العلاقة بينهما تظل نائية على الرغم مما كان يبديه من إرادة لتحطيم هذه المسافة، لأنه لن يضفي عليها أكثر من بصماته الخاصة: (( الفائض )) مرة أخرى. مما كان يتلف قيمة الأسلوب. كان قد وصل إلى سؤالِ كيف توصف التجربة. كان على البطل أن يختلج في مكان يختلج بدوره في أقصى الريشة. ابتسم على فكرة قديمة كانت تتسلط عليه. كان يقول (( القيمة، كل القيمة في الأسلوب! )) ليرد على الذين كانوا يؤكدون أن (( كل القيمة الأدبية في المعنى )). أي معنى والمعنى ما هو سوى قارب في بحر الأسلوب؟ لم يكن هذا يعني أن موقفه لم يتغير في ذلك النقاش القديم حول الشكل والمضمون، لكن ذلك يعيده بشكل ممتع إلى اهتمامه الأول بالعلاقة بين الحقيقة والخيال، المعروضين ككل واحد، وككل واحد منسجم.

أخذ مكانًا قرب شملان في (( التويوتا )) المجملة بكل ما أبدعته العقول الخرافية من زينات: رسومات لحيوانات خيالية وطيور بائدة وآيات قرآنية وتعاويذ مهترئة وسلاسل مذهبة وقلائد زجاج ملونة وصور ممثلات وراقصات نصف عاريات. فجأة، أخذ هذا العالم الخيالي يتحرك، فأصاب لوي مالرو الدوار، ثم جاءه صوت المؤذن من بعيد، من بعيد جدًا، خفيضًا، عميقًا، شجيًا، كأغاني الأولين. أحسَّ بكونه في حالة معاكسة للحالة التي كان قد شعر بها على نافذة الفندق قبل قليل. لم يكن يذهب إلى الماضي، كان الماضي يأتيه. تصاعد دواره. كان الحاضر ينسحب مع انسحاب الضباب عن قباب صنعاء القديمة، وكان عالم التويوتا الميثي يفيض من كل جانب ليجتاح العالم. رفع رأسًا مثقلاً، وهمهم كالغائب:
- لا تسرع!


بعد مسافة وجيزة، توقف شملان على باب أحد الأزقة الضيقة جدًا، وقال:
- لا أستطيع الذهاب أبعد.


لحظات من التردد، ثم غادر لوي مالرو السيارة. وجد صعوبة في المشي على أرض الزقاق الحجرية التي بدت له قاسية بغرابة، ففهم أنه كان يمضى بحاله من الغيبوبة لا تخلو من المتعة. لكن أن يمضي بحالة من الغيبوبة لا يعني مع ذلك أنه كان يصل إلى الخيال المطلوب. لم يكن ذلك سوى حدس الخيال، المجمل بالخضوع والعجز، ثم السقوط. لحظات مؤقتة. وبسبب ما يكمن في هذه اللحظات من سعادة عابرة لم تكن سوى لحظات فائضة: الفائض مرة أخرى وأخرى! مقابل فضاء يغلي بالتعقيد، كان يفضل الرسم بدلاً من أخذ الملحوظات، فأخرج مفكرته ليرسم تصميمًا للزقاق ببيوته المتراكبة كالصناديق العجيبة، وانتهى به الأمر إلى رسم بطن امرأة فوق فخذين مرتفعتين تستعدان للولادة. صعقته الدهشة. كيف أمكن ذلك؟ كيف أمكن للفن أن يعبر عن الحقيقة بمثل هذه الطريقة؟ بمثل هذا الخيال؟ كان قد اقترب بمكر وحيلة من العلاقة بين الخيال والحقيقة، وكان في بدية الانشطار الذي سيسمح بالاندماج. تقدم من إحدى النوافذ، ووجد أنها كانت مزخرفة بزخارف على شكل طيور وعناقيد عنب، وعلى جانبها العلوي بِقِرَب لحفظ السوائل، ربما تكون شعارات للعبادة الحميرية. ذهب في خياله إلى الوراء، كان يلقي محاضرة يقول فيها: (( الفن هو التعبير اللاعادي عن واقع عادي، اكتشاف ما هو لاعادي، هنا تكمن خصوصيته التي تبين القطع والانسجام. الواقع حتمًا هو مادة الفن، ولكنه في الفن ينتقل من حالة إلى أخرى، من حالته خامًا إلى حالته معدلاً فكريًا )).

توقفت ريشته عن إتمام الرسم عندما شاهد في الظل امرأة كانت تحمل على رأسها إكليلاً يطابق حدود شعرها الجعد المتساقط على كتفيها. كانت تلبس ثوبًا طويلاً أبيض رقيقًا، وعلى كتفها ترمي شالاً أخضر مطرزًا بخيوط من الفضة يلتف حول ردفيها، وعندما انقشع الضباب، أدرك أن ذلك كان تمثالاً من تماثيل الرومان. ومن جديد، عاد إلى الوراء. استعاد حوارًا مع إحدى معجباته: (( اكتشاف الواقع أفهمه كالخيانة الزوجية، إنه اتحاد استثنائي ومدهش بين طرفين غريبين... )). لم يستطع لوي مالرو البقاء أكثر أمام المرأة الحجرية، عاد إلى السيارة، وطلب من شملان أن يقوده إلى الفندق. لم يكن رد فعله يفسر بأية خيبة من الحقيقة، ولا بتراجع أمام هذه الحضارة القديمة، ولا بعجز ريشته التي بدأت عملها مع ذلك بداية حسنة. وتوصل إلى أن سبب كل هذا كان الابتسامة المعروفة لزوجه، تلك التي اعتادها في باريس، والتي لا تنفصل عنها.

سألت ماري-كريستين:
- آه! لماذا ذهبت دوني؟


وهذا العذر المعد منذ زمن سلفًا:
- كنت نائمة، كنت نائمة نومًا عميقًا، ولم أشأ إزعاجك.


ابتسمت ماري-كريستين، وهي تميل على صدره:
- أنت لطيف أحيانًا إلى حد اللوم!
- لا تلوميني، يا حبيبتي!
- حرمتني من متعة كنت أريدها حقيقية.


هل يطلعها على ما كان قد فكر فيه؟ وفي لحظة من اللحظات، ظن أنها كانت تهزأ به، فحاول أن يكون صادقًا:
- لم أظفر بأية متعة حقيقية.


ابتسمت ماري-كريستين من جديد:
- هذا لأنني لم أكن معك.


حاول مرة أخرى أن يبدو صادقًا:
- كان ذلك بسبب تمثال حسبته امرأة.


أمام الحيرة التي كان يقرأها على وجهها أوضح:
- تمثال روماني أو يوناني، من الحجر البارد، دون أدنى حرارة، في زقاق ضيّق ضِيق خصر إحدى الحور.


وتردد قبل أن يقول فجأة:
- لم ألاحظ إذا ما كان للزقاق مخرجًا، ربما كان هناك مخرج له، لكني لم ألاحظ ذلك. كان هناك ضباب، وكان التمثال يمنعني من رؤية طرف الزقاق.


في الليل، أخذ لوي مالرو التويوتا، وعاد إلى الزقاق. أن يكون للزقاق مخرج أم لا، لم يكن ذلك سوى ذريعة. لم يجد التمثال. فكر أنه أخطأ المكان، وتابع في خياله الحديث مع الفتاة التي كانت معجبة به:
- أحيانًا يكون الاكتشاف أحاديًّا باردًا بسبب تمرد الواقع الذي يتضح أنه أقوى من الفنان. فقدان التجانس يفسر جزئيًا لماذا الفن لا يكفي لبلوغ هدفه. هل وصلنا إلى هذه اللحظة من انحطاط الحضارة؟


وقبل أن يعود إلى الصعود في السيارة، وجد امرأة ملتفة بالبياض من الرأس إلى القدم، حسبها تمثالاً، التمثال الآخر. لكن هذه كانت تعطي يدها لطفلة في الثالثة عشرة هي أيضًا ملتفة بالبياض من الرأس إلى القدم. أشارت الطفلة إليه ليقترب، فلم يحرك ساكنًا، وأشارت المرأة بدورها إليه ليقترب، فلم يحرك ساكنًا. فجأة، خلعت المرأة حجابها، فإذا بها عارية كما ولدتها أمها، ليس هناك من النساء أجمل منها على وجه الأرض، وكذلك فعلت البنت، فإذا بها عارية كما ولدتها أمها، ليس هناك من الحور أجمل منها على ظهر الجنة. اقترب لوي مالرو، وكأنه مشدود بحبل. كان يريد الهرب، في الوقت ذاته، والنفاد بجلده. وهو منهما على مد الذراع، اختفتا. سقط من إحدى النوافذ حجر أخطأه، وما لبث أن تبع ذلك صياح رجل خشن ومهدد، فهرب الكاتب حتى السيارة ليهرب من تلك الحالة اللامتوقعة. ولوي مالرو يسير على الطريق المحفرة الممتزج الليل فيها بالغبار، راح يضحك بأعلى صوته. كان يضحك من الخوف، بعد أن كان قد شعر بكونه مهددًا فعلاً.

لم يكن كل ذلك من الخيال شيئًا، كانت الحقيقة التي أولدها التهديد، وها هو يفشل مرة أخرى في مهمة صانع الكلمات التي له. عاد يضحك لأنه اكتشف في نفسه من المشاعر ما اعتقد أنها انتهت منذ كان طفلاً، اكتشف أنه لم يزل يخاف من الأشياء. الخوف، نعم، والهرب مما ليس متوقعًا. لماذا الكتابة إذن؟ لن يقول أبدًا إن القيمة في أسلوب يترجم تسلط الواقع عليه، إلا أنه حصل على متعة ما من تلك التجربة: متعة الخوف، تمامًا كمتعة الهرب، أو متعة الابتسامة الطفيفة الدائمة الملتصقة على شفتي زوجته وإن كانت زائفة. وبعد لحظة من التفكير في كل هذا، كان مَغيظًا. إذا كان قد شعر بالرضاء قبل بعض اللحظات، فهو لا يشعر بشيء في الوقت الحاضر. لا بسعادة، ولا بتعاسة... لا يشعر بشيء. لم يكن للماس في تلك الحالة أية قيمة. لم يكن يمكن لمالرو استغلال هذا الشعور بكونه مهددًا. كان معنى الكلمات والأشياء يفلت منه، وكان يطارده الأسلوب، كان يطارده البحر، وكان مركب محطم يبتعد، وهو لا يكل عن اللحاق بالمركب، ليس من أجل الوصول إلى الشاطئ، بل ليتحطم كالمركب، وليكسر التهديد.

* * *

في اليوم التالي، كان شملان يقودهما على الطريق اللامتناهية المنطبقة مع الأفق باتجاه تعز، لكن تعز لم تكن سوى إشارة، ففي اليمن لا تتحدد الاتجاهات. كل شيء كان مفتوحًا على كل شيء. كل شيء كان حرية. كل شيء كان جمالاً، أصالة، حقيقة روائية. كل شيء كان جميلاً، كل شيء كان زائفًا، كل شيء كان كذبًا! لم يعد مالرو يشعر بكونه مهددًا. سمعته ماري-كريستين يقول:
- اليمن هو الجنة على الأرض.


هتفت ككل مرة كانت تفهم فيها فكرة زوجها:
- ألسنا في بلد الألف ليلة وليلة؟


كانت تفهمه أفضل ما يمكنها الفهم. طرف الجنة هذا كان يوجَز في عينيها إيجاز كليشه من الكليشيهات. للباريسية التي كانتها، لم يكن المكان سوى مكان للتغريب لا أكثر. ظن لوي مالرو نفسه مضطرًا إلى التحديد:
- أريد القول إننا في بلد الخيال.


تأمل سلسلة جبال سُمارة العظمى التي تتشكل وتتبدل بلا انقطاع: حيوانات خرافية أعلاها إنسان وأسفلها حصان يثب في الفضاء الأزرق الشاسع، أو أعلاها حصان وأسفلها سمكة يختلج ذيلها الأحمر المدمى، أو هي أسود مجنحة، صقور ليست مجنحة، ثيران ليست ناطحة. ومع ذلك، القرون منتصبة، والأجنحة ممتدة. أية أجنحة! أية قرون!

عاد مالرو إلى القول:
- إنه الخيال في حالته الخالصة، هذه الحقيقة هي الخيال، هذا البلد هو الفن تحت كل أشكاله الممكنة. العالم الذي يبحث عن التعبير عنه لهو هنا، فما العمل عندما يُكتب كل شيء بيد الطبيعة ذاتها؟


قبل أن يكون مشهورًا، كان يأخذ الأوتوروت كل يوم من الضاحية الكبرى حيث كان يسكن إلى باريس التي كانت تمتد إلى ما لا نهاية. كانت السيارات كثيرة بطيئة، وكانت تتقدم بصعوبة. كان البرد بالحدة ذاتها التي على طريق قطب الشمال. كانت طبيعته التي له، جحيمه بشكل من الأشكال. جحيم لم يكن يستطيع التخلص منه حتى عندما كان يوجد في قلب الجنة. هذا التعايش المفارق للحظتين من حياته كان يثقل عليه، وكان الشيء نفسه مع زوجته. لم تكن لهذه المرأة السطحية أية سمة تجمعها والمرأة التراجيدية التي في قلب اهتماماته الأدبية. كان يلامس بإصبعه إذن مسألة يعلق عليها أهمية كبيرة، مسألة علاقته بالفن من ناحية، ومسألة علاقته بزوجته من ناحية ثانية:
- بالنسبة إلى ما عشت، أعيش الآن حالة متنافرة تعطيني شعورًا بكوني غير قادر.


احتجت ماري-كريستين:
- أنت من هزَّت كتابته الجمهور عندنا! أنت، الفنان الحقيقي!


بدت على شفتيه ابتسامة مريرة:
- لو لم أكن فنانًا حقيقيًّا لما اعترفت بعجزي في اللحظة التي تفرض فيها الطبيعة نفسها من حولنا بمثل هذه القوة.


أحسته، ذلك العجز، فنظرت إلى شملان الذي يسوق التويوتا باطمئنان، ثم قبضت على ذراع زوجها:
- عليك أن تتغلب على ضعفك، عليك أن تكتب روايتك الجديدة!


لم تكفّ سلسلة جبال سُمارة العظمى عن التشكل والتلون والتألق، ففكر مالرو في أمه، السمينة الربعة، وهي تحلب إحدى إناث الخنازير، وكان أبوه، الضخم العملاق، يجبره على مناطحتها، تلك الخنزيرة المقززة. كان طفلاً، ترهبه فكرة الاقتراب منها، شمها. كان يبكي، وأبوه يشبعه ضربًا، ثم أجبره على النوم معها. ومنذ ذلك الحين، أخذت تطارده تلك النتانة، تلك الرائحة الطاعونية دون توقف، كان يشمها أينما ذهب، في أنفه، في كيانه.

قرصته زوجته ليفيق، فوجد تعبير الخائفة على وجهها.

قال لها:
- هذه هي المرة الأولى التي تعيشين فيها التجربة من الداخل، فهل تكون الأخيرة؟
- أحس باليأس.
- إنه اليأس الصادق.
- ولكني لم أزل متعلقة بك. أن تكتب روايتك الجديدة أم لا، سأبقى متعلقة بك.
- ولهذا السبب.


تركت دمعة تسيل على خدها، فنظر إليها شملان باستغراب:
- ما لها الست مريم؟ هل أخفف السرعة؟


وكادت السيارة تنزلق في الوادي، وهي تمر على جثة كلب ملقاة في عرض الطريق.
- لا، لا تخفف السرعة.


أخذ لوي مالرو يتفرس في شملان، هذا البطل الميتافيزيقي الذي كان قد قطع العصور بقي فتيًّا وقويًّا كأجنحة الصقور، حقيقيًا ككل شيء من حوله، ما عدا النظرات التي كان يلقيها على ماري-كريستين، كان يخبئ في نظراته الشهوة والفِسق.

قال الكاتب لبطله:
- لقد كذبت عليك، الست مريم هي أختي!


تفجرت الشمس على شفتيه، بينما عرى ماري-كريستين بعينيه، فميز مالرو ومضة الشبق المدمر فيهما.
- الست مريم ليست زوجتك؟


لم تنفِ ماري-كريستين، وهي ترمي زوجها بنظرة مثقلة بالعتاب، بينما كان مالرو سعيدًا، لأن شملان تحرر من علاقة سطحية. كان يخفي شهوته طوال الوقت، وفسقه، ولكنه الآن، يبدي وجهه الحقيقي، ومن الآن فصاعدًا، يغدو جزءًا من هذه اللوحة الخالدة التي كانتها الطبيعة. لم تتأخر ماري-كريستين عن اللحاق به. كانت تقترب قليلاً قليلاً من المرأة التراجيدية التي يحلم بها زوجها متخلصة من زيفها. تابع لوي مالرو نظرة شملان المباشرة إلى فخذي زوجته، ثم إلى وَرِكَيها، نهديها. كلمة واحدة كانت كافية لتجعلها عارية ومشتهاة! هل سيعريها بدوره؟ عماد الكتابة الاكتشاف. كانت لعبته خطرة ومثملة. كان يريد أن يطلق لخياله العنان حتى المرض، لأن الخيال أمام العجز في الكتابة هو كل ما يتبقى للكاتب، إنه سلواه في الألم. كان يريد أن يذلل ضعفه أمام الطبيعة بالألم، الطريقة الوحيدة للخروج مما هو فيه، ولقدرته على الكتابة من جديد.

أوقف شملان السيارة، وطلب إليهما أن يأخذا صورة للجنة التي هم فيها. تظاهر مالرو بالتصوير، فلم يكن يريد صورًا لطبيعة ميتة. كان يرغب في الاحتفاظ بكل جمال الطبيعة الحية في ذاكرته. نست ماري-كريستين لحظةً أين كانت توجد بين شجر الرمان، وسط شجر العقيق الأحمر، وغدت في جرح العقيق قطرة ندى. تحت أثر الدهشة، أخذت تجري بصخب، مسحورة، وأخذت أم مالرو تجري هي أيضًا بنفس الطريقة. كانت ناحيتها الطبيعية التي تعبر عن نفسها بتلك الطريقة، وإن كانت الأقل جذبًا، الأقل قربًا من النفس. ثم رمت ماري-كريستين بنفسها على الأرض المخضبة بدم الغزوات التي صنعت التاريخ. رفعت ثوبها حتى خاصرتيها، وارتمى والد مالرو على والدته ليدمر صورة العناق القديمة، بينما كانت ماري-كريستين تحك فخذيها العملاقتين من الجليد الجمريّ، وتأتي بعواصف البحار البعيدة. فتحتهما، وأسقطت مالرو بينهما. لقد كانت زوجته، زوجته، وليست أخته. على الأقل عندما يكونان بعيدين عن نظرة شملان. ودفعته لتمحقه في نار القمح.

* * *

قال لهما شملان:
- إنني أدعوكما على الغداء في القرية القادمة.


ابتسمت ماري-كريستين:
- بل سندعوك نحن.


ظل لوي مالرو صامتًا. كان يتابع إصبع شملان، وهو يشير إلى القرية القادمة: بيوت قديمة محفورة في كشح الجبل، بيوت نمل عملاقة، لا تتحرك، مهما دارت التويوتا بهم، تبقى راسخة أمامهم.
- ماذا قلت، يا لوي؟ سندعوه نحن.
- بالطبع.


أطلق شملان ضحكة مستفزة:
- الست مريم كريمة، حتى أنها أكرم من ملكتنا أروى وأحلى!


وأطلقت ماري-كريستين نفس الضحكة التي للسائق، ولوي مالرو يفكر في الملكة أروى، العاشقة والمستبدة، التي كانت كل شيء ما عدا الكريمة، الحاكمة بالحب والنار. كانت الملكة أروى بالنسبة له أكثر عظمة من الملكة بلقيس التي لم يقطف نهديها إلا الملك سليمان، أما الملكة أروى، فكانت لمن تشتهي، للراعي الخشن، إذا ما وقع أمر الحب عليه، أو للقاضي الرقيق، وحتى لبعض المجرمين الأقوياء الذين هم في أسرها.

- ومتى سنصل إلى قبر الملكة أروى؟


لم يجب شملان. أعاد بفظاظة العاشق الوقح:
- الست مريم أكرم من الملكة أروى وأحلى!


كان يختلس النظر إلى ساقيها البيضاوين المختلطتين بأخريين سمراوين في ذاكرته. وهو صبي، كان شملان يختلس النظر إلى ساقي امرأة القاضي الذي أمسكه متلبسًا بجرم العين، فضربه بالسوط، وضرب أمه، وضرب أباه، وعلق الولد من ساقيه على شجرة، وضربه، وضربه...

وكما قال لهما، أوقف شملان السيارة في ساحة القرية. كان الناس يبيعون القات ويشترونه، وبعضهم قد بدأ يلوك أوراقه الطرية، وكان في المطعم بعض المسافرين، وفي اللحظة التي دخلوه فيها، جاء فوج من القرويين، وجلسوا على طاولة قذرة قريبة من جهاز (( فيديو )) بالألوان عليها أطنان من الذباب والعظم وبقايا الطعام. غاب شملان في زاوية من زوايا المطعم، وراء قدر أسود ضخم يتصاعد منه البخار، وفرن للخبز يتصاعد منه الدخان، وعاد بخرقة متسخة نظف بها الطاولة، وهو يلقي بالأوساخ بين قدميهما. كانت لماري-كريستين ابتسامة غير مألوفة، بينما مالرو يتابع بعينيه امتطاء ذبابة على ذراعه. فجأة، أهوى عليها بكفه، فانطلق شملان يصهل كحصان. بعد لحظة من التردد، انطلق لوي مالرو يضحك هو أيضًا، وبالمقابل، اختفت ابتسامة ماري-كريستين الغريبة، وراحت نظرتها تضيع في الفراغ بغرابة. وضع الطباخ في جهاز (( الفيديو )) احتفاء بالسائحين شريطًا فلكلوريّ النوع حول رقصة (( الجنابي ))، وأتاهما بأطباق المرق والسلتة وشرائح الخبز. أمام مط ماري-كريستين لشفتيها اشمئزازًا، أوضح شملان:
- هذا مرق من لحم عجل حديث الولادة، وهذه سلتة. أتعرفين ما هي السلتة؟ حلبة مطحونة مع طماطم.


بدأ يمزق شرائح الخبز، ويغمسها في المرق الدسم، وفي السلتة المخاطية، ثم يفسخ اللحم الناهي بأصابعه، ويأكل كوحش. تبدت للوي مالرو صورة لأم الكاتب وأبيه، وهما يأكلان خنزيرًا مشويًّا كوحشين، وتبدت لشملان صورة للقاضي ورئيس القبيلة، وهما يأكلان عجلاً مشويًّا كوحشين. كانا يقذفان ببقايا الطعام وبالعظام لصبي، كان شملان، وكان شملان مع أمه وأبيه وبعض الكلاب. كان لوي مالرو يحاول تقليد سائقه في أكله، وبين تارة وأخرى، كان يلقي النظر على ماري-كريستين التي كانت تفعل كل شيء لتجنب سقوط أقل قطرة مرق على ثوبها الحريري، ويقول لنفسه: (( هي بعيدة! ينتزعها القرف من هذه الحقيقة الأخاذة! ))

فسخ لها شملان قطعة لحم شهية، وقدمها لها، فأخذتها بطرف أصابعها، ونقرتها بطرف شفتيها. وعن مقربة، كان القرويون يغوصون بأيديهم وخراطيمهم في طبقهم الموحد كأنه مستنقع انتشرت التماسيح فيه، وتدافعت، وتصارعت، وراحت تفجر البول والدم والصديد.

نهضت ماري-كريستين بعد أن اعتذرت، ومن خلف التويوتا، أخذت تتقيأ بشراسة.

أخفت الأمر عن زوجها عندما سألها:
- لماذا قمت؟
- نسيت شنطتي في السيارة.
- لا أحد يسرق هنا، لا أحد عاطل عن العمل. أريد القول، كل واحد يشغل حياته كما يمكن له، يحياها.


أحاطهما بعض الصبية والبنات:
- صورة، يا صديق! صورة، يا صديق!


كان شملان قد اشترى حزمة من القات، وزجاجة كوكا، وزجاجتي ماء معدني، أعطى إحداهما لماري-كريستين، بينما كان مالرو يأخذ الصور للأطفال. كانوا أطفالاً يشبهون كل الأطفال في العالم، دون أي رابط بجمال الأرض.
- لماذا يقولون لي (( صديق ))؟


كان شملان يلف حزمة القات بعناية فائقة:

- يحسبونك روسيًّا. أوائل الأجانب الذين جاءوا إلى اليمن بعد خلع الإمام كانوا من الروس، والناس هنا يدعونهم بالأصدقاء.

سألت مالرو بنت سمراء جميلة جدًا:
- هل ستظهر صورتي في التلفزيون الليلة؟


كان مشدودًا إلى ابتسامة الحورية التي لها، وتساءل إذا ما كانت البنت ذاتها التي كان قد رآها في الزقاق الصنعائي؟ رفع رأسه إلى شبابيك بيوت النمل علَّه يقع على المرأة التي كانت تصاحبها، فلمح خيالاً خلف إحدى الستائر. اقتربت التويوتا منه، والبنت تلح:

- أنت لم تجبني، هل ستظهر صورتي في التلفزيون الليلة؟

انحنى مالرو، وأمسكها من كتفيها:
- ما اسمك؟
- أروى.


نظر إلى عينيها السوداوين، فتراجعت البنت عدة خطوات قبل أن تذهب جارية، وتختفي في الظل. طوال الطريق إلى مدينة (( أب )) بقي لوي مالرو صامتًا، كان يوهم بأخذه الصور للجنة التي يقطعونها. تبدت له صورة للنورماندي، صورة من الصور الحية التي كان يحتفظ بها في رأسه. كان أبوه قد أنشأ في قلب النورماندي مصنعًا للحوم الخنازير، وكانت ماري-كريستين تنام على كتفه، ومن وقت إلى آخر ترمي حولها بنظرة سريعة. جعل أبوه من العمال طوع حذائه، وخلال ذلك، كان شملان يضع شريطًا، أو يفتح الراديو، أو يشرب الماء، وهو يختلس النظر إلى الساقين البيضاوين المصبوبتين كالسبائك الثمينة. عادت زوجة القاضي تقتحم على شملان الخيال، وقد كان في ذلك الوقت شابًّا قويًّا، ولما كان في مخدعها، فاجأه القاضي بقدومه، فقتله شملان قبل أن يهرب إلى الجنوب. أوقفهم جندي في أحد مراكز التفتيش، وفحص الترخيص بالتجوال. سأل إذا كان شملان ينقل أشياء مهربة أو أسلحة، واختلس النظر إلى ساقي ماري-كريستين، وسأل إذا ما كانا من الروس، فأجاب شملان أنهما فرنسيان، وسمح لهم باستئناف الرحلة. في باقي مراكز التفتيش، كان الجنود يلوكون القات بخدود انتفخت كالكرات الكبيرة، فلم يتحرك واحد من مكانه، وإصبع مثقلة تشير إليهم بالعبور.
- إنها ساعة (( التخزين )). في هذه الساعة القات أهم من الوطن.
- ماذا؟
- يمكن احتلال اليمن في هذه الساعة، (( الجبهة )) تعرف هذا تمام المعرفة، ومنذ عدة أيام، شاهدت بأم عيني هجومًا ناجحًا ضد أحد معسكرات الجيش.


سكت قبل أن يضيف:
- لقد كنت ثوريًّا في البداية.

لاحظ على لوي مالرو عدم الاهتمام:
- لا يهمك أن تسمع منى كل هذا.


أكد:
- بلى!


ثم علل:
- لكن الحرارة شديدة!


نظر شملان إلى شفتي ماري-كريستين النائمة، وأوضح:
- كنت أريد أن أصنع هنا ما صنعوه هناك في الجنوب، لكنهم ألقوا القبض علي، ورغم ذلك، لم يفلحوا معي، كنت عنيدًا كجحش! ثم ألقوا القبض علي مرة ثانية، وثالثة، ورابعة، حتى يئست، وصرت كالجميع. الناس هنا يفضلون القات على الثورة، يبيعون الوطن بحزمة قات.


أطلق ضحكة متشنجة، والتويوتا منطلقة على طريق تغطت بجثث الحيوانات: كلاب، حمير، وعول، ذئاب، صقور، أو معزات، بقرات، أو غربان. كان مالرو يتساءل: القات أم الثورة؟ القات أم الكتابة؟ كانت الكتابة، بالنسبة له، عملية معقدة كالثورة، ولكنه حينما ييأس لم يكن يستسلم كالجميع، كان يحتفظ بالتميز. أراد أن يصيح به: الثورة هي أن تحتفظ بالتميز دومًا حتى في أتعس اللحظات. أخذ بعض الثوار التقدم في رأسه صفوفًا من صخرة، ورموهم بالرصاص.

سأل مالرو ملحًّا:
- ومتى سنصل إلى قبر الملكة أروى؟


لم يجبه شملان، كان جبينه المسطور بتجاعيد الهم يفرز عرقًا غزيرًا، وكانت قبضتاه القويتان تحتويان المقود بعنف، ويحدق في نقطة ثابتة أمامه، والشمس ترتفع، وترتفع في السماء. كانت ماري-كريستين تغمض عينيها وتفتحهما لثوانٍ كي تلقي نظرة إلى اليمين ونظرة إلى الشمال، وكان الأوتوروت، طريق العقاب هذا، يمتد، ويمتد. كانت له بداية، ولم تكن له نهاية، وكانت التجمعات السكنية في (( لاكورنيف )) تنتصب في هذه الرؤية كعلب الإسمنت المسلح. استعاد مالرو ما قالته له فتاته المعجبة:

- روايتك الأخيرة، جعلتني أعي، وأنا أقرأها، أن هذه التجمعات السكنية في (( لاكورنيف ))، المنعزلة عن باقي العالم، المنعزلة عن نهاية الأشياء، تشكل (( غيتو )) حقيقيًا، مما دفعني إلى الغضب.

همهم لوي مالرو وقتها:

- إذا غضب القارئ وصل الفنان إلى هدفه.

وإذا بهم في قلب مدينة (( أب )) دون أن يحسوا بذلك، مدينة على طريق السفر، قائمة قاعدة، واقعة في الدخان والغبار، مدينة جاءت إلى العالم في يوم الحشر. وهم يخرجون منها بسرعة، أشار شملان إلى قمة خضراء غائبة في الضباب، وقال في الأخير:
- هناك يوجد قبر الملكة أروى.


على باب قرية (( جبلا )) الصاعدة على كتف الكون، أوقف شملان السيارة. وفي اللحظة ذاتها، جاء أحد الشبان الصغار يجري صوبهم، فطلب إليه شملان أن يصطحب السائحين ليزورا قبر الملكة أروى. كان المطر يتساقط رذاذًا، والكاتب ينظر بمتعة إلى الدرج الطويل اللامتناهي، بينما يبدو على ماري-كريستين كمن لا تريد التقدم:
- هل تظن أنها ستمطر؟


لم يأبه مالرو بسؤالها، وعلى العكس فهم شملان ما ترمي إليه:
- خذي سترتي لتغطي شعرك.


كانت سترة من جلد العجل، تفوح منها رائحة مدوخة، رمتها على رأسها، ولحقت بزوجها، وكان الشاب الدليل يقفز كالمهر، بينما طال بهما الصعود على الدرج القديم. مدت ماري-كريستين يدها لتعتمد على زوجها، وانتهى بهما الأمر إلى الوصول إلى أزقة طينية، على جانبيها دكاكين معتمة وضيقة: الحداد، والنجار، والمنجد، والوشام، والبقال، والنقاش، وبائع الخناجر، وبائع الحلوى، وبائع الأقمشة. اشترت زوجة الكاتب شالاً مطرزًا بخيوط من الذهب والفضة دفعت ثمنه مائة ريال، وربطت شعرها به بعد أن رمت بالسترة الجلدية على ظهرها، ولم تمتنع عن القول بتعجب:
- الحياة هنا أغلى من باريس!


ورغم ذلك، اشترت أيضًا عقدًا من العقيق زيّنت به صدرها، بينما اشترى لوي مالرو خنجرًا من الفضة علقه على خصره، وعادا إلى الصعود على درج قديم آخر ينتهي بالجامع الكبير. كان الشاب الدليل قد سبقهما إليه جاريًا، وعلى بابه راح ينتظرهما، والأولاد والبنات يعجون من حولهما كالديدان:

- صورة، يا صديق! صورة، يا صديق!

في فناء الجامع، ترك بعض المتوضئين البركة القديمة، وتحلقوا بالشقراء التي تبادلهم الابتسام. كانوا يثبتون نظرتهم على محاسنها أو يطأطئون الرؤوس، ويهمسون فيما بينهم. وفي داخل الجامع، جاء أحد الشيوخ ليحييهما بالفرنسية، وقدم لهما جوهرته الحجرية:
- هذا هو قبر الملكة أروى المعظمة، إنها قديستنا الجليلة!


بدأ لوي مالرو يأخذ للضريح الصور من كل الجهات، نعم، الصور، الكثير من الصور. عبر هذه الصور الميتة لميتة تنام تحت الحجارة سيبدع أجمل صورة للملكة الدموية التي غدت قديسة. ركع على الأرض، وأخذ يصور المحراب المنقوش باللغة الحميرية.

قالت ماري-كريستين:
- لم تأخذ لي صورة مع الملكة أروى.
- سآخذ لك صورة مع الأولاد.


لأن أروى لن تكون إلا له، وأخذ لها صورة مع الأولاد كما قال لها، والكل يبتسم، ثم عادا يهبطان الدرج، والشاب الدليل يقول لهما:
- هناك... بقايا القصر حيث كانت تسكن الملكة أروى.


وإذا بامرأة سمراء أجمل من القمر تنبثق من بين الأطلال هارعة، ورجل من ورائها يتبع، ويطلق الرصاص، إلى أن تمكن من قتلها. صرخت ماري-كريستين، وسارعت وزوجها الذهاب نحو جسد البائسة. دفنت وجهها في صدر مالرو، ومالرو يظن أنه عرف فيها المرأة التي كان قد رآها في ذلك الزقاق الصنعائي الملعون. هجم الرجل عليها، ونفذها بطعنات خنجره، وانتهى به الأمر بدفعها بقدمه حتى ألقى بها من فوق الهضبة. جاء شملان يجري على أثر الطلقات، وذهب بحثًا عن الجسد القتيل، فخاف أهل القرية من الورد الدموي، وتخبأوا في بيوتهم، مما اضطره إلى ترك جثة المرأة على الحجارة...

في التويوتا، قال شملان لهما:
- ارتكبت الزنى، فقتلها زوجها.

أخرج لوي مالرو مفكرته، وكتب في الهامش بخط صغير: القتيلة هي أروى، والقاتل هو أبي! فتح آلة التصوير خلسة، وهو يهمهم: دوستويفسكي لديه الحق! دوستويفسكي لديه الحق! وألقى بالفيلم من نافذة السيارة. كانت الملكة أروى قد ماتت للمرة الثانية أمام عينيه، بنفس الطريقة التي كانت تميت فيها عشاقها، ولم يكن بحاجة إلى صورة أخرى لها.


* * *

كيف يمكنه أن يصف صعود الليل في (( تعز )) على جبلها (( صبر )) الأسطوري؟ بيوتها الزاحفة حتى حافة السماء؟ أضواءها الذائبة مع النجمات، الماحية للامتدادات ما بينها؟ كيف يمكنه أن يصف اللحظة السابقة لليل؟ عندما تتحول الشمس إلى نسر، والقمر إلى ثعبان، والنسر والثعبان يتحاربان؟ اشتهى كأس نبيذ، وثغر امرأة بشعر غزير أسود. قرر لوي مالرو أن يمضي الليل في أحد قصور الإمام التي أعدت كفنادق. في صنعاء، كان قد قبل النزول في فندق حديث ليشبع رغبة زوجه، أما في تعز، فرغبته هو. كان صاحب الفندق غائبًا، فاهتمت بهما زوجه التي يعرفها شملان تمام المعرفة، حسبما بدا من حديثه معها. صعدت معهما الدرج اللولبي الحجري المعتم، ورائحة الطعام والبخور والغائط تفوح بالمكان. مروا بحجرات مفتوحة فيها بعض اليمنيين الجالسين على الأرض، وهم يحتسون الكوكا كولا، ويخزنون القات. كانوا يتفرجون على التلفزيون، ولا يبدو عليهم أنهم يرون شيئًا. على عتبة الحجرة التي خصتهما بها زوج صاحب الفندق، حجرة الإمام حسبما ادعت، كانت جيوش من النمل تقطع عليهما الطريق، فتقدم شملان بقدمي العملاق اللتين له، وسحقها. دخلوا الحجرة لاهثين للجهد الذي بذلوه، وعلى السجاد القديم تهالك مالرو وماري-كريستين. أضافت زوج صاحب الفندق فرشة من القش وبعض الأغطية، وأحضرت الماء إلى المرحاض البدائي في تنكة بعد أن غسلته دون أن تتوقف عن إلقاء النظر على ماري-كريستين، وهي تبتسم. وعلى العكس، كان لوي مالرو ينظر إليها هي، وكان مستعدًا للنوم معها، رغم جهلها وفظاظتها. لم يكن لها من المرأة ذات الشعر الغزير الأسود التي يغتذي بها خياله شيء، وكان لها ثديان طويلان، يطلقان رائحة حريفة. ومع ذلك، كان مستعدًا للنوم معها. كان ذلك ما ينقصه ليستطيع الكتابة، قوة الحب الحليف لبدائية خلاقة. وابتداء من هنا، سيخترق الجمال الأول لطبيعة مسيطرة ليسيطر عليها. لاحظ أن شملان لم يكن يتوقف عن التكلم معها دون كلفة، كان يتكلم معها، وهو يرمي ماري-كريستين بنظرة مواربة، أو بابتسامة، ومن وقت إلى آخر، كان يمسكها من يدها أو يأخذها من كتفها، لا شيء إلا ليثير غيرة الشقراء التي كان يشتهيها. كانت للكاتب وبطله نفس المشاعر، إلا أنها لم تكن لنفس المرأة.

قال شملان:
- الجماعة جائعة!

علقت زوج صاحب الفندق:
- لكن الساعة متأخرة.
- حضري شيئًا لأجل الست مريم.


فكر لوي مالرو بخصوص بطله: إثارة الغيرة لا تمنع الخيانة. كان مستعدًا لأن يخون إحداهما بالأخرى كي يصل إلى أهدافه. سمعه يحكي لزوجة صاحب الفندق عن الحادثة التي وقعت في قرية (( جبلا )). كان يحكي بصوت حياديّ، وكانت المرأة لا تكف عن إطلاق صيحات مكتومة خلف يدها، متأسفة تارة، وتارة أخرى مستنكرة. ما جدوى كل هذا؟ كانت الملكة أروى ميتة، وكانت قوة الطبيعة الأقوى دومًا. تتابعت في عقل مالرو الصور: المحاضرة، المعجبة، الأوتوروت، التجمعات السكنية في (( لاكورنيف ))، الشبان الذين يغتصبون امرأة، الذين يحرقون سيارة. كانت الصور تتساقط الواحدة تلو الأخرى، وعاد إلى ذهنه حواره عن (( خيانة )) الواقع مع فتاته المعجبة التي يخون بها زوجته، فاشتعلت لديه رغبة عاجلة في رمي زوجة صاحب الفندق على طراريح الإمام، في مخدعه، وفي الاحتراق معها في مجمرة للبخور. وفي الأخير، وجد نفسه وحيدًا مع زوجته، فأراد أن يقوم باغتصابها، وهو يفكر في الأخرى. لن يدجن شهوته، بل على العكس سيزيدها توحشًا. لن يدجن الطبيعة، وسيزيد من ألمه. كان عليه أن يتألم. عندما قال لشملان إن ماري-كريستين أخته، كان ذلك لأجل هذا السبب المحدد، ليتألم. لكن بطله قد بقي عند مرحلة النظرة، ولم يمض إلى الفعل الموجع، الفعل المعذب.

قالت ماري-كريستين:

- أنا تعبة، فاتركني!

لكنه لم يتركها، بل رفع عن فخذيها، ووضع رأسه بينهما.
أعادت وهي تدفعه:
- أنا تعبة، وهما سيعودان بين لحظة وأخرى!


وبالفعل، سمعا خطوات تصعد الدرج، فاعتدل لوي مالرو، بينما كان شملان يتقدم بصينية بين يديه ملأى بالطعام: بنت الصحن، وعسل، وبيض بالبندورة، وأرز، وشاي.
- هل تريدان شيئًا آخر؟


أجاب مالرو بنبرة مقتضبة:
- لا شيء.
- هل آتيك ببعض القات؟
- لا، أشكرك.
- إذن، ليلة سعيدة.


وقبل أن يذهب أشار إلى المكان الذي كانت توجد فيه سيارته، عبر النافذة المصنوعة من زجاج من كل الألوان:
- سأنام في السيارة كالعادة.


كالعادة، ألح القول كما لو كان يريد أن يقول لماري-كريستين إنه مخلص للمرأة التي يحبها. في نهاية الأمر، لم يكن قادرًا على الخيانة، على استحداث حالة غامضة من أجل الخلق. حالة ناضجة. الفن هو هذا، حالات ناضجة.
- إذا كنتم بحاجة إلى أي شيء، فلا تترددا عن طلبه من أم محمد.


تأمل للحظة ماري-كريستين، كان يبدو عليها التعب، وذهب مع ابتسامة أخيرة لها.

سألت ماري-كريستين زوجها:
- هل تريد قليلاً من العسل؟


كانت هي من يشتهي بعنف، فصعد عليها، دمويًا كليث، شرسًا كفهد، لكنها ضربته بحذائها، والتفت بغطاء قبل أن تنام في زاوية رطبة. طوال الليل لم ينم لوي مالرو، كان ينظر من النافذة إلى التويوتا التي ينام فيها شملان، وكلاهما لم يحظ بجسد عار، جسد ماري-كريستين. وعلى عكس الكاتب المطارد بصورة امرأة صاحب الفندق، كان السائق الذي خزّن كمية من القات لا بأس بها مطاردًا بأطياف المرأة القتيلة. أغوته، فقتلها رجلها. أغواها، فقتله رجلها. اتفقا على فعل العشق معًا، فقتلتهما القبيلة. صعدا من الموت، فوجدها طفلة في الثالثة عشرة، اغتصبها، فقتلته القبيلة. آه! كم القتل كثير، كم الدم غزير في هذا البلد، كم الاغتيال يسير! حتى الأحلام تدمي!

راح لوي مالرو يعاود الإصغاء إلى فتاته المعجبة في اللحظة التي كانا فيها في السرير.

سألت:
- والمعرفة؟
- المعرفة لا تكفي الفن، إنها تكتفي به تمامًا كما ترتضي بالواقع دون الخيال. حقيقة أن أكون معك هي كما لو كان غوته وفاوست يوجدان معًا بعد الانتهاء من هذا العمل المتفوق. يتبدد الاكتشاف، وترصد المعرفة على باب الفن بقصد خيانة جديدة، ومن ثم اكتشاف جديد، يتبعه تبديد جديد
- تبديد أم تجريد؟
- كلاهما حالة خاصة.
- حالة مطلقة؟
- حالة واعية. في لحظة الخلق، كل حالة مطلقة حالة واعية. إنه إبداع وليس فلسفة. إبداع ذو فلسفة.


كان لوي مالرو يشك في كل شيء: لم تكن للخلق فلسفة. زد على ذلك، لم يكن هناك خلق واحد بل عدة، وكانت لكل خالق فلسفته. فلسفة كانت تتبدل تبعًا للموضوعة، وخاصة تبعًا للحالة. وأية حالة مهولة كان يعيش! أخذ بممارسة العادة السرية، فاقتربت زوجته منه بجسدها الجليدي، ملتهبة، وبدأت بالصعود عليه والهبوط بشراسة حتى اللحظة التي فيها فرّغ. أطلق نفسًا، وتبدت له من الأفق البعيد أرتال من العربات التي تجرها وعول النار، وهي تقذف النهار على العالم. اصطدم بضوء النهار، ورأى تعز، وهي تبتعد في حضن المستقبل المتحطم المعالم. رأى قصورها المنهارة، وأزقتها المحفرة، وناسها الذين لا يفكرون إلا في التجارة. ورأى رهطًا من النساء، وهن يلطمن، ويولولن، عند قدمي أحد الموتى، وأخريات، وهن يصفقن، ويغنين، عند قدمي إحدى العرائس. رأى تعز، وهي تهجر نفسها من نفسها، واحدة تهجر عينيه، وأخرى تقتحمهما.

وماري-كريستين تجلس في المقعد الأمامي إلى جانب شملان، كانت تطلق صيحات متواصلة على مرأى جمل يجر عربة بين الجموع الصارخة بالبضاعة، وطلبت أن يأخذ لها زوجها صورة معه:
- لم يعد لدي فيلم.
- ماذا؟ لتشترِ فيلمًا!


أطلقت صيحة جديدة على مرأى امرأة ملتفة بالسواد من قمة الرأس حتى أخمص القدم ، وهي تسوق سيارة، فعلق شملان:

- المرأة في تعز متحررة أكثر من المرأة في صنعاء أو المرأة في عدن.
- هل أنت من تعز، يا شملان؟
- أنا من صنعاء.
- لا بد أن الغيرة تأكل قلبك.


ضحك شملان بعنف، كان لا يعرف الغيرة. وقف أمام مصور قائلاً لمالرو:
- بإمكانك أن تجد فيلمًا هنا.


هبط الكاتب دون حماس، فلا صور بعد موت الملكة أروى القديسة والدموية. على كل شيء أن ينقش في الذاكرة الحية. الملكة أروى، بلد الخيال، الطبيعة الأولى، ستبقى إلى الأبد خارج الكتب إلا إذا ولد كاتب بعقل شديد الشمول كهوميروس، قادر على خط الكلمات الأولى المقالة على شرف الإنسان والطبيعة، كلمات تكون الطبيعة نفسها، بمعنى الوحيدة التي تبقى ما بقي العالم. حتى كتاباته التي كانت تساوي كل ماس الكون لن يكون لها أية قيمة. ما لبث أن عاد، وترامى إلى جانب زوجه:
- لم أجد فيلمًا.


مما أغضبها:
- هناك مصور آخر على الرصيف المقابل.


- لا يوجد عندهم فيلم، يقولون إنهم لم يروا أبدًا آلة تصوير مثل آلتنا العتيقة. كل آلاتهم حديثة جدًا!

تدخل شملان:
- سنجد فيلمًا في مكان آخر.


سارت التويوتا في الأزقة المحتشدة بالبشر، والسائق لا يتوقف عن إطلاق النفير، ولا عن تمثيل دور الدليل: هذه نجمة داود على حمام، وهذا نبع عمره ألف عام، وهذا قصر، قصر على قصر، للإمام. وعندما مضوا ببائعي القات الحاملين لضممهم الخضراء الندية، سأل السائق:
- من يريد أن يخزّن معي؟

ابتسمت ماري-كريستين، بينما ضغط لوي مالرو آلة التصوير الفارغة على صدره متأملاً السوق المكتظ بالناس المتحركين إلى أبد الآبدين، فتابع شملان:
- الست مريم ستخزن معي.


ركّز عليها عينيه، فأحست بنفسها عارية. بحثت عن زوجها بعينيها، فوجدته غائبًا. سألته عندما ذهب شملان:

- أنت زعلان لأنك لم تجد فيلمًا.



تظاهر لوي مالرو كمن لم يسمع شيئًا، فقالت ماري-كريستين:
- كان علينا أن نشتري من باريس كمية كافية، لماذا لم تفكر في هذا؟

عاد شملان بزجاجة كوكا وزجاجتي ماء معدني وضمة قات سعيدًا كما لو كان يعود بامرأة. لف الضمة بكوفيته بعناية شديدة، ثم أنامها قرب ماري-كريستين، فتسربت نداوتها إلى فخذها. دفع السائق إليها بزجاجة ماء بارد، وقال:
- الطريق إلى الحديدة ستكون جهنمية!



لم يبد مالرو أي تعليق، كان لا يريد أن يجد فيلمًا، ويتمنى لو تجعل الحرارة شملان ينسى ذلك، ولكنه توقف أمام مصور قرب جامع ذي أعمدة كثيرة، فقالت زوجة الكاتب:

- يا ليتك تجد فيلمًا لتأخذ لي صورة بين الأعمدة.

بعد عدة لحظات، عاد الكاتب ليتهالك على المقعد الأمامي:

- هل وجدت فيلمًا؟

دمدم مبتسمًا:

- لم أجد.

خاب أملها، ومالرو يقطع، مرة أخرى، شوط الخيبة، سعيدًا تعيسًا في آن. كانت المتعة التي تثيرها خيبة زوجته سلواه. أخذ شملان الطريق الخارجة من تعز، وغدت الحرارة أكثر فأكثر ارتفاعًا. ألقى لوي مالرو الكاميرا بين قدميه، ونسيها تمامًا. راحت الحرارة تصارع أفكاره، فسمع شملان يقول:

- منذ عدة أيام، كانت هذه المنطقة نهبًا للمعارك، معارك استعملت فيها الأسلحة الأوتوماتيكية والدبابات، وبقيت (( الجبهة )) سيدة المنطقة لأيام قبل أن تنسحب. الناس هنا منقسمون، الذين مع الجبهة والذين ضدها، الذين مع الحكومة والذين ضدها.


تبدت لمالرو وجوه الثوار الضامرة وأفراد الجيش، كانوا يسوقون بعضهم البعض إلى الموت، وكانت العواصف تقتلع الشجر من جذورها. همهم مالرو:

- الموت هو البداية، تمامًا كالثورة!



عندئذ قالت ماري-كريستين لشملان:
- أفترض أنك مع الجبهة.
- أنا مع الحكومة.

بعد مسير دام أكثر من ساعة في طريق مقفرة، توقف شملان ليملأ خزان البنزين. طلب من لوي مالرو أن يقدم له جزءًا من الأجرة، فاستجاب فورًا. دفع السائق ثمن البنزين، وسأل الكاتب:
- هل تريد قناني؟
- قناني؟
- هنا يهربون الويسكي. القنينة غالية، لكن الماركة جيدة.
- لا، أشكرك.


تابعت ماري-كريستين شملان بعينيها، كان يتحدث إلى أحد الأشخاص الذين كانوا يوجدون هناك، وكان لوى مالرو يحدق بعيني ذهنه في المرأة التي كان قد رآها في الزقاق الصنعائي، والتي قتلها رجلها في (( جبلا )). كان يحدق في الملكة أروى التي كانت هناك في قلب الصحراء منتصبة، ملتفة بالبياض من قمة رأسها إلى أخمص قدمها، ثم خلعت حجابها. انطلق شملان، وراح يعمل دورات كثيرة من حول المرأة العارية، والكاتب عاجز عن التصديق. عندما توقفت السيارة، هبط بسرعة، فلم يقع على أحد. بعد قليل، لحقت بهم سيارة مرسيدس، هبط منها الرجل الذي تحدث شملان إليه، وأعطاه كيسًا من البلاستيك عليه صورة لوي مالرو، مما جعل ماري-كريستين تطلق صيحة اندهاش:
- انظر إلى صورتك، يا مالرو!
قال شملان بابتسامة باردة:
- هي حقًّا صورة السيد لوي.
- إنها الأكياس التي كانت دار النشر قد طبعتها بمناسبة صدور كتابك الأول. أتذكر؟
لم يجب لوي مالرو. كان كل ما كتبه لا يساوي في الوقت الحاضر أكثر من زجاجة كحول، والبرهان على ذلك، ها هو يقع، في هذا البلد البدائي، على كتابه الأول الذي يتمنى حرقه من كل قلبه. مر شملان بيده على الكيس، وأخرج زجاجات الويسكي التي أخفاها تحت مقعده. أوضح:
- لهذا الويسكي رائحة النفط، إنه آت من بلدان الخليج.
- ومن يبعث به؟
- أحد الشيوخ الذين لهم نفوذ.



وقهقه:
- يمنعونه عندهم، ويهربونه عندنا! لكن الحكومة الآن تغمض عينيها على كل شيء يخصهم. وعلى العكس، تفتح ذراعيها لكل المهربين من الأمريكيين إلى السعوديين إلى الصينيين إلى الروس، ولا تقف الأمور عند هذا الحد. ألم أقل لك؟ أحد شوارع العاصمة شقته مصر، وعبدته الصين، ورفعت أرصفته روسيا، وزرعته أمريكا. الأراضي التي من حوله يبيعها رؤساء العشائر بالذهب، يهدمون كل ما هو قديم، وفي كل يوم، ترتفع عمارة حديثة. هذا شكل آخر من أشكال التهريب.



بعد مسير أكثر من ساعة في الصحراء، عاد لوي مالرو يرى امرأة الزقاق الضيق في صنعاء، وهي تنغرس في ضباب الرمل، فينوس حقيقية، جمالها كان سببًا كافيًا لشن حرب بين رؤساء العشائر، وكان بمقدورهم أن يشتروها بالذهب أو يستبدلوها بعمارة حديثة. غدا مالرو شيخًا عاجزًا دميمًا، وما لبث أن أغفى، وهجم عليه الحلم الشرس من جديد. قوس النصر راح يتحطم، وبرج إيفل راح ينهار، والمسلة راحت تتصدع، والسين بأمواجه راح يتفجر في الشانزلزيه، ورجال الشرطة راحوا يكسرون الأبواب في (( لاكورنيف ))، يهدمون كل شيء، ويسوقون العائلات بعنف إلى سيارتهم المصفحة، والخنازير راحت تهجم على أبي مالرو، وهو يعدو بأقصى قواه، إلى أن سحقته بحوافرها.



نظر شملان إلى لوي مالرو، فرآه ينام نومًا عميقًا. كانت ماري-كريستين مستسلمة للحرارة، تراخت، وجعلت رياح جهنم تهب بجسدها. تطاير ثوبها دون أن تأبه بذلك، وبانت فخذاها البيضاوان الطويلتان. ضاعف شملان من سرعة السيارة وأنفاس الريح. هل يمد أصابعه إلى بطون السمك الغريضة، ويجبل البحر والنار والعسل؟ وإذا ما صحا مالرو ماذا سيفعل؟ نظر إليه ذاهبًا في نومه العميق، ونظر إلى الجسد الأبيض المندمج بالحرارة والريح. كانت ماري-كريستين تفتح عينين ثابتتين، كانت تنتظر ما لا تريد الانتظار، وكل شيء الآن كان يتوقف على الاقتحام. صاحت في جسد شملان كل شهوات هارون الرشيد وأنفاس شهرزاد الصانعة للحلم، واحترقت أصابعه رغبة في لمسها. وفي الأخير، مد أصابعه، وأراقها على فخذها، فأحست بها أشد من الجمر وأطرى من الحليب. تحركت أصابعه حركة قوائم العنكبوت العاصية، وقبضت عليها من أعلى فخذيها، فقرضت شفتيها، وسقطت في الانتشاء، وغرقت في التخلي. لم يكفها لسع الريح، ولا غضب الشمس، وشملان لم يعد شملان، غدا نصفه حصانًا مجنونًا، ونصفه الآخر صقرًا أعمى: أحس بأصابعها تداعب عنقه، فخصره، فخنجره، وتسحب خنجره، وتجعل قبضته في قبضته، وتلقي بقبضته على بطنها، وتخنق قبضته تحت بطنها، والحرارة تسحق الحرارة، وهو يدق قبضته، ويحفر في الخطيئة. دمرتها القبضة العاصية، وجرفها الرحيل القاتل في المتعة القتيلة. انهدم مرة أخرى برج إيفل العظيم، والقبضة المتوحشة سيطرت على العالم. طرق شملان شيئًا في الطريق، وكادت السيارة تفلت من بين أصابعه، فصاحت ماري-كريستين على رؤية جسد يلفظ الدم من رأسه، ومن قلبه، ومن فخذيه. توقفت السيارة، هبطت إليه بخفة، فانشل لوي مالرو على منظر الدم. نظر شملان إلى القتيل بين ذراعي ماري-كريستين البيضاوين، فاحتج، وحثهم على الهرب:
- لم يرنا أحد، وعلينا أن ننفد بجلدنا!



فتشبثت المرأة البيضاء بالمائع الأحمر، ورفضت:
- نتركه يموت دون أن نسعفه؟

بدا لوي مالرو غارقًا في تأمل لوحة الدم على الذراع البيضاء، وحنان الجليد الحار. بحث عن سبب للحنان، وعن سبب للالتهاف، وقال لنفسه، سعيدًا: هي مأخودة بمشهد الدم. كانت تبدو خائفة، مرتعبة. حجب ابتسامته، لأن الحادث أفقد امرأته رشادها. كان كل هذا الرشاد يكمن في هذا اللحم الأوروبي الملون بدم يمني متخلف لم يكن ينتظر الموت.

سمع لوي مالرو ماري-كريستين تهتف به:
- قل شيئًا، يا لوي!

فسبقه شملان إلى الكلام:
- ما هو سوى كلب، واحد من الحيوانات الكثيرة التي رأينا جثثها ملقاة على الطريق.



لكنها شدته إلى صدرها بحنان، وقالت مصممة:
- سآخذه إلى أقرب مستشفى.



ضرب السائق جبينه بحذائه، وانفجر:
- أين هو المستشفى في هذه المنطقة المقفرة!

- سننقله إلى الحديدة!
- لكنه سيموت في الطريق!



توجهت إلى زوجها:
- سنأخذه إلى المستشفى، يا لوي، ولن ندعه يموت.



هز لوي رأسه، وقال لشملان:
- تعال، احمله معي، سنضعه إلى جانب الست مريم.


أطاع شملان عن غير رضى. غدا اليمني كتلة منفرة من الدم، وأخذ السائق يشتم بصوت خافت. سبقت ماري-كريستين شبه القتيل إلى التويوتا، وطلبت إليهما أن يريحاه في حضنها. أخذ لوي مالرو مكانًا في الخلف، وانبجست أمه أمامه، عارية، عارية كخنزيرة، في حضنها خنزير شيخ جريح يقذف الدم من فمه. وقبل أن تنطلق السيارة من جديد، وضع شملان شرطًا:
- إذا مات قبل أن نصل إلى المستشفى، رميناه في الطريق.



كانت نبرة شملان حاسمة، فلم يحتج منهما أحد. كانت ماري-كريستين تبدو مأخوذة بالجسد المدمى الذي لا يتحرك. كان يبدو عليه عدم الوجع، وبالأحرى كانت ماري-كريستين هي التي تتوجع. كان زوجها ينظر إلى الرأس الجريح بين ذراعي زوجته كتحفة من التحف الفريدة، ويفكر أنها تتوجع وجع الرجل. أية سعادة! بدت قلقة، تمسح بيدها على شعره، وهي تفكر في وصولهم إلى المستشفى. كان مالرو هو أيضًا مأخوذًا بمشهد الدم، فأخرج مفكرته، وكتب هذه الكلمات: الفن يعجز عن إنقاذ الإنسانية، لكنه يبدو جبارًا بخصوص قتلها!

فجأة، تحول فم اليمني إلى نافورة حمراء، وغدا رأسه ثقيلاً كصخرة. اجتاح ماري-كريستين خوف يَعْجِز عنه الوصف، وحاولت إبعاد الرجل دون أن تفلح. أوقف شملان السيارة، وبعون مالرو جذب الميت من قدميه، ورأسه يضرب في كل شيء، ثم ألقيا به إلى الوادي. عندما أراد لوي استعادة مكانه إلى جانب زوجته، أمرته بتركها وحدها. بعد مسافة طويلة لم يتبادلوا فيها كلمة واحدة، رمت رأسها بين كفيها، وانفجرت باكية. استبدت بشملان شهوة جامحة، ودون تردد، رفع ذراعه، وجذبها إلى كتفه. أسكرتها رائحة العرق التي تنبعث من إبطه، رائحة الموت، رائحة الموت تجتاح العالم أخيرًا. رأى مالرو زوجته تسحل تحت ذراع شملان، ولم يبد أي تعليق. كان يشمها، هو أيضًا، رائحة الموت الحامزة تلك. كانت رائحة موته. لهذا لم يكن يتألم. كان قد فعل كل ما بوسعه لأجل الوصول إلى تلك اللحظة التراجيدية بحدة، ولم يكن يتألم. كان الموت يغدو قوة إضافية بين يدي الطبيعة الجبارة. شعر بضياعه الأبدي. راحت السيارة المنطلقة في الفضاء الرحيب تذهب ناحية اليسار وناحية اليمين إلى أن تمكن السائق من السيطرة عليها وإيقافها. هبط لينقل لهما أن إحدى عجلات السيارة تصدعت، وليس لديه دولاب تبديل، فنظر مالرو إلى الشمس الغاربة، ونزل بدوره ليطأ بقدمه أرض الصحراء التي كانت لم تزل تلفظ الهواء الساخن. عندما أخذ ثلاثتهم في السير تحت الجمال الوحشيّ المطلق للغروب، ولم يعد الكاتب يرى سوى خيالاتهم الضائعة في الفضاء الفسيح، راح يدمدم بعض ما حفظه عن هوميروس:



- يا زوجة عوليس المصون، يا ابنة لائرت، إذا كنت لا تزالين راغبة في سؤالي عن أصلي، فإني مخبرك بذلك، ولكنك بهذا تجلبين لي من الحزن أكثر مما أطيق، فمن المؤلم للرجل الذي طوف بعيدًا، وعانى كثيرًا، أن يتكلم عمَّا قاساه.



إن في وسط البحر جزيرة تدعى كريت، وإنها لأرض جميلة خصبة، يقيم فيها الكثير من السكان، وفيها من المدن تسعون... إلى هناك قدم عوليس حينما كان مبحرًا إلى طروادة، فقد حادت به الريح عن سبيله... إني أذكر أنه كان يرتدي معطفًا مزدوجًا من الصوف، بلون الأرجوان البحري، شبك بمشبك من الذهب نقشت عليه صورة كلب أمسك ظبيًا من عنقه، وقد صيغ صوغًا عجيبًا وضح به تشبث الكلب بفريسته وجهاد الظبي للإفلات. وكان يلبس ثوبًا أبيض ناعمًا يشبه أديم البصل الجاف، كانت النساء يعجبن به كثيرًا، ولا أعلم هل أعطاه هذه الأشياء أحد، فقد قدم له كثيرون العطايا، وأعطيته أنا أيضًا سيفًا وثوبًا.


لا تقولي هذا، يا زوجة عوليس، وكفي عن الندب لأن عوليس ما زال حيًّا، وهو جد قريب يقيم في أرض التسفروتيين، ومعه الكثير من الهدايا... ذهب إلى ذوذونا حينما كنت هناك، ذهب يستوحي زوس، إذ له هناك هاتف غيب وسط سنديانة. هل يرجع إلى بلده جهرًا أو خفية، كوني على يقين أيتها السيدة أن عوليس راجع في هذه السنة العاشرة، عندما يدخل القمر القديم في المحاق، ويولد القمر الجديد.


رأى مالرو في ضوء القمر يد زوجه، وهي تذوب في يد شملان، عدة أمتار من أمامه، أو هي يد شملان التي تذوب في يد زوجه، ولم يتوقف عن إلقاء النشيد. كان كل شيء يصغي إليه: السماء والأرض والدم وكل أبطال القصص، كل حشرات العالم وطيوره وحيواناته، كل الأنهار والزهور، الشلالات والبحار، والجبال البعيدة الشاهقة بدأت تتحرك. سمع تأوهات لذة زوجه وشملان، ولم يكن يحلم. بل كان يحلم، كان يحلم (( حُلْمَهُالحقيقي )) أخيرًا. ذوبان المحتمل واللامحتمل. تقدم من التأوهات، وتبدت له صورة من صور ألف ليلة وليلة. صورة فاسقة، جميلة، جميلة لأنها فاسقة. وبعد أن لعق شملان الدم عن الجسد الأبيض، وجده منشغلاً في بناء بيت حجريّ صغير. ادعى مالرو أنه بيت طفولته بعد أن وجده، عالمه الماضي، فهدمه شملان بقدمي العملاق اللتين له، وسار به وبزوجه إلى أحد الأكواخ التي يندر الوقوع عليها، والتي وجدوا فيه بدويًّا شيخًا ضائعًا في ضباب الكيمياء. كان يحول الماس إلى كلمات، ومن فترة لفترة، يصغي إلى صداح الريح الآتية من بعيد.

كان البدوي الشيخ يقول:

- للتوصل إلى كتابة الطبيعة، إلى وصفها، يجب عكس طريق الخلق. بمعنى، تحويل الماس إلى كلمات. والحالة هذه، تحويل كل ما هو أغلى في الحياة. هكذا يكون التنافس مع الطبيعة، وإلحاق الهزيمة بها.



على مقربة منه، كانت نارجيلة ضخمة مزينة بنقش لامرأة عارية، في يدها اليمنى قطعة من البخور، وفي يدها اليسرى سراج مقدم للآلهة. ترامى لوي مالرو على إحدى الطراريح التي تغطي الأرض، ووضع رأسه على إحدى المخدات، بينما وقفت ماري-كريستين أمام المرأة المنقوشة، وهي تلاحقها بعينيها عاجزة عن ملاحقة نفسها في مرآتها. أخذ شملان يتنقل في بيت الرجل، وكأنه يتنقل في بيته. وبعد قليل، عاد ليقول لزوج الكاتب:
- هناك بئر إذا أردت الاغتسال.


لكنها طلبت:
- اغلِ الماء أولاً، فأنا أخشى الميكروبات.


أطاع شملان بينما كان البدوي الشيخ يضحك في عبه، رمى مالرو بحزمة قات، فراح يفصل فروعها الطرية، ويلوكها. أشعل الرجل البخور، ووضع في (( الفيديو )) شريطًا ملونًا لامرأة أمريكية تهز مسدسًا هزات متواقعة مع تخلع الوَرِكَيْن، وقدم للجميع كوكا كولا. نظر الكاتب مرة أخرى، ولم ير سوى خيالاتهم. وبدلاً من إلقاء بعض سطور لهوميروس، سمع أبياتًا للمتنبي تخرج من فم الشيخ، فانجذب إلى صُنعها البسيط بغرابة، الغريب ببساطة:


اليوم عهدكم فأين الموعد = هيهات ليس ليوم عهدكم غد
الموت أقرب مخلبًا من بينكم = والعيش أبعد منكم لا تبعدوا
إن التي سفكت دمي بجفونها = لم تدر أن دمي الذي تتقلد
قالت وقد رأت اصفراري: من به؟ = وتنهدت، فأجبتها: المتنهد
فمضت وقد صبغ الحياء بياضها = لوني كما صبغ اللجين العسجد
فرأيت قرن الشمس في قمر الدجى = متأودا غصن به يتأود
عدوية بدوية من دونها = سلب النفوس ونار الحرب توقد
وهواجل وصواهل ومناص = وذوابل وتوعد وتهدد
أبلت مودتها الليالي بعد = ومشى عليها الدهر وهو مقيد

أحس مالرو باختراقه الطبيعة، بالطير على بساط الكلمات. ترك الصور المتراكبة لقوس النصر المتحطم وبرج إيفل والأوتوروت والمحاضرة ومظاهرات الأول من أيار. كانت زوجه قد ذهبت ليغسلها شملان، فوصلت ضحكاتها إلى أذنيه، ووصلته بالمعرفة القديمة، ابن رشد والرازي وابن سينا وابن طفيل... ولوي مالرو يذهب دومًا إلى مطلقية الكائنات والأشياء، يطلب مزيدًا من الخدر، مزيدًا من الوهم، مزيدًا من المحال. قال له البدوي البصير إن السر الخفي من الصعب الكشف عنه، والهوى من الصعب إشباعه. حكمة رجل الصحراء هذه لم يسمعها مالرو من نفس الأذن، ترك نفسه يذهب نحو المطلق، أراد أن يمسك المتعذر إمساكه. أخيرًا، جاءه فم المرأة العارية من زجاج النارجيلة تحت معالم امرأة زقاق صنعاء الملعون. هكذا كان مالرو يراها. كائنة الحلم هذه اتضح أنها ابنة البدوي الشيخ. في تلك اللحظة، قطعت ماري-كريستين سحابة البخور كناسكة تخرج من الخرافة، لتمسك زوجها بالخطيئة الأولى. لكنها هي، امرأة كل الملائكة وكل الشياطين، لم يكن باستطاعتها مع ذلك أن تدرك في كل هذا طرف الحقيقة، عندما يختلط الزائف بالحقيقي وعندما لا يكون الحقيقي سوى نتيجة للزائف. وقعت في الخطأ في اللحظة التي قبضت فيها على خنجر شملان، وطعنت البدوي الشيخ. كان البدوي الشيخ في ظنها وراء كل هذا، سقوط زوجها، سقوطها، وخيانتها. كان هو، هذا الساحر الآتي من عصر آخر. قتلته إذن، وقلبها يفيض بالحقد. كأم مالرو، على الطرف الآخر من العالم، عندما قتلت الخنزير الشيخ في مكان زوجها المستبد، المحرك الحقيقي، والمنفذ لكل الآلام التي عانتها. طعنت الخنجر في الظهر، وفي القلب، وفي جمجمة الحيوان المسكين. ضربته أكثر فأكثر، بخنجرها، خوفًا من أن يبقى نفس واحد له. سالت أمواج الدم. سالت في بحار الكون.


كان مالرو يهمس في أذن البدوي القتيل، وهو يتخبط في الدم، ويبدو كمن يعبث به:

- كما قلت أحسن قول، نستطيع التنافس مع الطبيعة المسيطرة، ولكن ليس دون تراجيديا.


نقل شملان خنجره القديم، كان يسطع دمًا وضوءًا، وكان شملان خائفًا، خائفًا بشكل مرعب، كان خائفًا خوفًا فوطبيعيًا. لم يكن سوى علاء الدين والمصباح السحري قادرين على وضع حد لهذا الخوف. بيد أنه ليغطي المرأة التي كان يعتقد أنه يحبها، صرخ: أنا القاتل! أنا القاتل!

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى