سميرة عزام - سجادتنا الصغيرة

سميرة.jpeg

لاشكَّ أنَّ أسفنا لفقد سجادة صغيرة تضيع من بيتنا كان كبيراً، ولكن أسف أبي، بصورة خاصة كان أكبر، فهي قِطعة السجاد الوحيدة التي اشتراها. ولعل مبعث أسفه لم يكن فقدان شئٍ اشتراه، ودفع فيه مبلغاً من النقود، فقد خيل إلينا أن السجادة بضياعها قد فوتت عليه أن يجد مناسبةً طبيعيةً يتحدث فيها إلى زائرينا، الذين تستلفت السجادة الحمراء المعلقة على الحائط اهتمامهم، عن زيارته لإيران..
لقد فُقدت السجادة يوماً،... إذْ كانت أمي قد نشرت بعض قطع السجاد والأبسطة على إفريز الشرفة، بقصد تشميسه قبل أن تلفه وترفعه، إيذاناً بانصرام الشتاء، فهذا دأبها ودأب كل بيتٍ في كل موسم.
ومع أن أمي تُقسمُ أن وضع السجادة لم يكن يسمح لها بالانزلاق إلى الشارع إلا أنها انزلقت.
فما أصبح الصباح إلا ولاحظت أمي اختفاءها فهرولنا نبحث عنها... على الرصيف فلم نجد شيئاً، فقد مرت ساعتان على انبثاق الفجر، وذَرَعَت الرصيف خطواتٌ كثيرة، والواقع أن أقدام السابلة لا تنقطع حتى في الليل. لم يكن ثمة خيطٌ نستطيع أن نمسك بطرفه، ولقد تأثرت أمي فبكت، وانفعل أبي لكنه لم يبكِ، و وجمنا نحن الأولاد ولكن وجومنا لم يُقعدنا عن تناول طعام الإفطار بشهية.
قلت: إن ذلك كان قبل سنوات،وقد كدنا ننسى السجادة إلا حين نفتقد عُري جدارنا في الشتاء، وكان آخر شئ نتوقعه أن نصبح ذات صباح، فنجد السجادة كومةً أمام الباب وقد شُكّت فيها ورقة صغيرة، وكانت أمي أول من رآها هناك، حين فتحت الباب لبائع الحليب، فصاحت دَهِشةً وما صدقت عينيها، واندفعت تَهُزُّ أبي بعنفٍ حتى يستيقظ، فقام وكانت الورقة ما تزال في مكانها إذْ أحجمت أمي عن فتحها قبل أن يرى أبي السجادة وكيف تكومت أمام الباب.
لقد اعترف واضعها أن الجو أمطرت عليه ذات ليلٍ، ولما رفع رأسه، لاحظ-بمقدار ما سمح له مصباح الشارع- أن ثمة سجاداً مبسوطاً على إفريز هذا البيت، وقد وقف أمام السجادة الساقطة متردداً ثم لم يتحرج آخر الأمر من حملها، شاعراً بأنَّ الأمر لا يخلو تماماً من قبح السرقة، ولقد احتفظ بها طوال هذه المدة، ولكنه عز مؤخراً على أن يتوب إلى ربه، وأن يجعل توبته مقرونة بأداء الفروض، فلما همَّ بأداء صلاته الأولى اختار هذه السجادة لركوعه، إلا أن حين فرشها وشرع في الصلاة، أحس كأن هِزَّة كهرباء ترجُّ جسمه رجّاً عنيفاً. كيف يبدأ توبته بالصلاة على سجادةٍ مسروقةٍ؟!... وهكذا لفها وأعادها مختاراً راجياً الله إلا يحتسب فعلته مما لا يغتفر من الذنوب.
ذلك كان مضمون الرسالة، ولقد كانت فرحتنا بالسجادة تفوق حُزننا على ضياعها، أما أمي فقد انفعلت كعادتها، وأما أبي فانه لم يقل شيئاً بل حدق في الرسالة ، ثم طواها بهدوء، ورفع السجادة وحملها إلى زاوية من بيتنا وراح يُصلي،... أجل لقد غدا أبي مصلياً مواظباً منذ ذلك الصباح.



.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى