حسام المقدم - في مدينة لا تعرف أن الأفيال تطير.. قصة قصيرة

قال الدليل:

أمامنا صحراء، ومن ورائها صحراء أخرى بكثبان عظيمة متموجة. سنعبر كل ذلك، ثم أتركك أمام المدينة التي تطلبها.

…..

تقف مُنهكا على أول المدينة وتتعجب: مدينة مشاع، يدخلها الداخل فلا يُوقفه حُراس أو تمنعه أسوار. تتوكل على ربك وتخطو، لكنك لا تكاد تتجول بعينيك قليلا حتى يضطرب رأسك. تُمسك لسانك، وأنت الغريب، عن أي كلام سوى لنفسك: أعرفكم يا أهل المدينة، والله أنتم الذين روى عنكم جَدُّنا “الجاحظ”. (عليك أن تخاف على نفسك، فربما تكون عينا جدك العظيم قد انتفختا وجحظتا من مرض البحلقة والتدقيق في مُدن الله، وخلق الله). نعم أنتم هؤلاء: “إن أُناسًا.. إذا لَبِسوا الخِفَافَ في الستةِ الأشهرِ التي لا ينزعون فيها خِفَافَهم، يمشون على صُدُورِ أقدامِهم ثلاثة أشهر، وعلى أعقابِ أرجلهم ثلاثة أشهر، حتى يكون كأنهم لم يلبسوا خِفافهم إلا ثلاثة أشهر”. انقطع خبر “الجاحظ” الكبير عند هذا، وعليك أن تفعل فعلا واجبا، إذ يهل طيفه أمامك، بأن تُقبِّل عِمامته ومن أسفلها جبينه. تواصل بعدها طوافك بنفسك، لترى الإلهام المتفرد الذي دعا هؤلاء الناس إلى إهمال الأشهر الستة التي يكونون فيها حُفاة، ثم الالتفات وإعادة النظر في الستة الأخرى التي يلبسون فيها النِّعال. لقد رأوها مُدّة طويلة في زمن لا يأمنون فيه النوائب وجليل المصائب، فخافوا على نِعالهم، وقسَموا من جديد: يمشون على أطراف أصابعهم ثلاثة أشهر فتسلم النعال من خلف، ثم على كعوبهم ثلاثة أخرى فيريحون ما كانوا قد مشوا عليه من قبل. هكذا، وبفضل هذا الإلهام، يكون أي جزء في النَّعل لم يمس الأرض إلا ثلاثة أشهر طوال العام.

حين دخلتَ المدينة لابسا الجلباب ومن تحته السروال، كان الناس، من الرجال والنساء والأولاد، في زمن السير على الكعوب. لم تأخذ وقتا، وركزتَ على كعبيك، سائرًا بساقين مفتوحتين قليلا، كما لو أنك قد عُدتَ لأيام خِتانك البعيدة! في المشي بهذا الشكل مشقة، لكن لا عليك، ستعتاد الأمر. اقتربْ من هذا الرجل الماشي مع ابنه الصغير: “يا عبد الله، هل هناك مقهى قريب”؟ يهش في وجهك: “نعم هناك على أول الشارع، لكنّي أراك غريبًا، اذهب أولا إلى كُتَّاب مولانا”. تستغرب: “كُتّاب؟ وماذا أفعل في الكُتّاب”؟ هو الآخر مُندهش: “لتتعلم كيف تحيا بيننا يا رجل. قوم كثيرون من هؤلاء الذين تراهم كانوا غرباء، ثم أصبحوا مِنَّا”. تُذعِن بلا جدال، وتتفكر في مكرهم الكبير، حين لم يُحيطوا مدينتهم ببوابات أو أسوار. تطلب إليه أن يأخذك إلى هناك.

يسرق المشهد عينيك: خلقٌ كثير من كل الأعمار، والألوان والأجناس، يقفون بين يديّ المُعلِّم، أو يقعد بعضهم على الأرض، وآخرون على دِكَك نصف عُمر. تُلقي السلام، فيردون جميعا بألسنة مختلطة. صوت المُعلِّم أميزهم وأعلاهم نبرا وفخامة في مخارج الحروف. يُشير إليك لتدنو، فتنزاح أجساد بمقدار ما يُنفِذ جسدك. عمامته مُحكَمة ملفوفة بمهارة، في طبقات فوقها طبقات. (يأتي على خاطرك أن فَكَّها يحتاج امرأة ماهرة في تقشير وإزاحة طبقات الكُرنب المسلوق دون إفساده، تمهيدا لعمل المحشي العظيم). يطلب إليك أن تمشي أمامه ليراك. تتوكل على ربك وتُشمّر جلبابك، وتتجاوز في ذلك حتى تقبض عليه بفمك، مُوقنا أن السروال يستر. تنقل قدميك المشبوحتين على كعبيهما، نقلات محسوبة، ويداك تُجدّفان في الهواء دون أي أمل في وجود كتف أو ذراع تسندك. تجتهد وتُعافر، دائرا في الحيِّز حول الشيخ ومُريديه. يرفع يده إليك أن كفى، فتمشي إليه في شبه اتِّزان. بوجهه البشوش عظيم الهيبة يسألك:

“ما اسمك، ومن أي بلد يا بنيّ”؟

“اسمي “حسام الدين بن المقدم” يا مولانا، وجئتكم من بلدٍ يلبس أهلها الحمقى نِعالهم طوال العام، ولهم فيها أشكال وتصاميم كثيرة”.

“هم فعلا من الحمقى، كيف لا يُريحون نعالهم من باب الاقتصاد والحرص أولا، ثم مخافة على أقدامهم من ترقق جلدها كأقدام العِيال، وأن تنحبس في النعال فتُخرج روائح غير محمودة. وما حكاية التصاميم هذه؟”.

“نعم، هم ليسوا مثلكم تصنعون مراكيبكم على نمط واحد للنساء والرجال، وهو كما أرى ذلك الشبشب المفتوح من جوانبه للهواء وله إصبع من قُدّام. إنهم يشغلون أنفسهم بالنّعال، ويجعلونها مفتوحة ومسدودة وطويلة برقبة وبكعب عال”.

“هذا هو العلم الذي لا ينفع، ففي النهاية اسمه نعل، تركبه القدم وتدوسه على الأرض. ثمّ إنكم، حسبما أراك، قومٌ أقدامكم طريّة، لم تتعود حصباء الطريق ومشاقّه. نحن كما تعرف، من أيام أجدادنا الأوائل وحتى يومنا، ومن أغنى أغنيائنا إلى الفقراء والمساكين؛ نبقى ستة أشهر بلا نعال، وهذا الأمر أكسبَ أقدامنا تمام الخشونة والقوة للقيام بأي عمل، في مرعى من مراعينا الممتدة، أو في فِلاحة بُستان.

“هذا حق، فضلا عن أن كعوبكم وأصابع أقدامكم المفلطحة، أصبحت ناشفة وجامدة من تَعَوُّدِ ارتكاز أجسادكم عليها، وذلك والله شديد على الأعداء الذين لا يعرفون هذا السلاح، حين توجِّهونه لبطونهم، أو ترفسون به صدورهم فهو أصلب من الصخر”.

“فتح الله عليك. إذا دار عليك العام وأنت بيننا، فستكون لك معنا أيام. وسآخذك للأمير لما في عقلك من رجاحة، وهو بالمناسبة يبحث عن نديم يؤانسه بالحكايات، وإنها فرصة أن تروي له ما كان من أمر قومك مع نِعالهم، وسائر أمورهم الأخرى”.

….

ولفَّ بك العام، حتى أتممته بين أولئك القوم اللِّطاف. أكملتَ المشي على كعبيك، وتعبتَ في الأشهر الثلاثة التي خطوتَ فيها على أصابع قدميك.. والأهم الزمن الممتد لحَفَاءٍ جعل جلد قدميك في جُمود وحرشفة جلد التمساح. وحين أُذِنَ لك أخيرا بالدخول على الأمير، رأيتَ منه إكراما وإعزازا يفوقان ما تصوره خيالك. رجل متبسط لأبعد مدى، وليس مثل الأمراء المتعالين أو الرجال المنفوخين. طلب إليك أن تقص عليه أخبار بلدك وأهله الحمقى، بشرط ألا تترك كبيرة ولا صغيرة. رحتَ تحكي، وترى أثر ما تقوله على وجه الأمير، فيسُرّكَ اتساع عينيه وانخطافهما. غمرتَه بماء الحكايات في موسم الفيضان. قلتَ أشياء تحدث في بلاد واق الواق، وطُفتَ على أفيال تطير، ونجوم تنزل من السماء لتغطي وجه الأرض بالنور الأبيض لليلة واحدة، ثم تصعد في الصباح.

تظل تحكي حتى آخر الدهر، إلى أن يرد أمر البعثة السِّريَّة التي كَلَّفك بها الأمير: ستذهب لبلدك مُتخفِّيا، وتعود من هناك بزوجِ من النّعال له رقبة وهذا للأمير، وآخر بكعب عالِ سيكون لزوجته. وبعد إتمام المهمة، سيأتي دورك في تدريب الأمير نفسه على السير بقدم منبسطة في النعل، وليست مشبوحة من أمام أو خلف. زاد في طلبه أيضا لأشياء مما قُلتَها، عن الفيل الطائر والنجوم النازلة. حاولتَ أن ترواغ وتتعلل، لكن لا مفر من موافقتك على الذهاب. في النهاية ودعكَ الأمير بنفسه في موكب من رجاله، وأخذَ منك تعهدا بحفظ السر والعودة إليه.

….

يا لها من أيامٍ كانت، ويا له من أمير.. ذلك الذي لا يزال مُنتظرًا حتى اليوم.


حسام المقدم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى