عبدالناصر الجوهري - أنا دون غيري - بـــــرحْلكِ - أوْصيْتِني

ترمَّلتِ ،

ثمَّ ترمَّل - بعْدُكِ - صبْحُ المدينةِ حين رحلْتِ؛

فعاود يحْثو السَّواد على رأسهِ

والتُّرابْ

تذكَّرتُ حين لمحتُ العصافيرَ - أُمِّي -

تُحوِّطُ صفْصافةً في انتحابْ

تذكَّرتُ كنتُ أُقبِّلُ وجْهكِ،

كان جميلًا ،

وريقكِ مسْكُ الرُّضابْ

وكنْتُ أظنُّ الفراقَ سرابْ

أريدُ التَّعلِّمَ منْكِ

خفايا اختياز جسور البِلَى،

طبقيَّتهمْ في صراع المعيشةِ،

سرَّ الدَّعاءِ المُجابْ

فكيف تناقلْتِ عيشًا مريرًا بنا

لا تخافين درْبَ الصِّعابْ؟

تحمَّلتِ أمِّي

وما تعرفين القراءةَ ،

وما تعْرفين الكتابةَ،

والاكتتابْ

فحين تجىءُ مِنَ القريَّةِ الهاشميَّةُ جدَّتنا

مُسْرعًا كنتُ أجري تجاه القطار ،

وأقفزُ بين الحواري ،

وكنتُ مُصابْ

ويأخذني طولُ مسْبحةٍ في يديها

وما سلَّةُ الخوْص إلا احتفالًا ،

فما نسيتْ طيِّباتُ السَّغابْ

تذكَّرتُ أخْتي الرَّضيعةَ بين ذراعيكِ ،

كيف تُشفَّعُ فيكِ

وتحْملُ روْحكِ بين الرِّحابْ

وكيف سلكْتِ الحياةَ بلا معْبرٍ،

كيف احتملْتِ مطايا الخرابْ؟

وكيف ارتضيتِ اغترابكِ عَنْ قرْيةٍ

جئْتِ منها ولم ترْجعي

بعْد فقْدِ الأحبَّةِ ،

أو بعد أىِّ مُصابْ

أَمَا زلتِ تخشين أُمِّي نعيقَ الغرابْ؟

كيف اغتربتِ بتلك المدينة وسط الشَّقا ،

والحرابْ؟

فلولاكِ ما كان لي أىُّ جذْر انتسابْ

فأنتِ وشمْتِ القريحةَ - يا دُرَّة الرِّيف - بي ؛

لم أكنْ شاعرًا،

ناظمًا شاغلتْهُ المَهَا فاستتابْ

فكيف مزجْتِ مع الفقْر ينبوعَ تلك الفصاحةِ ؛

فاشتقتُ بحْرَ العُبابْ؟

أخالكِ بين السُّطور حروفًا

ستنْبُتُ فيها المجاز،

ومسْودَّةٌ لا تُوثِّق غير مرار الغيابْ

فكيف يُفرِّطُ فيكِ قُساةُ القلوبِ،

ويُتْركُ جُثْمانُ راحلةٍ دون أىِّ حجابْ؟

شقيقاى لم يسْتطيعا مُواراة موْتكِ في الاغترابْ

هُما لكِ لا يسْتحقان انتسابْ

فرَّطا في وداع الأحبَّةِ ،

في حين تلك المسافاتُ وارتْ عليكِ الثِّيابْ

وأنتِ الحبيبةُ تسْتحقين نور الملائكِ حولكِ،

جئْتُكِ أُمِّي ؛

لأقرأَ فاتحةً للكتابْ

وأعلمُ حين أُقصِّرُ ؛

أنَّكِ تُخْفين عنِّي العتابْ

وحين ترجَّلتُ خلفكِ كنتُ أشقَّ الطريق

أزفُّكِ نحو جنان الإيابْ

وتمضي الجنازةُ بين الدِّيار

وتفتحُ للموتِ بابْ

فكلُّ المفارق في الحُزْن بابْ

تطيَّبتِ أمِّي

وبين الشَّوارع ريفيَّةٌ تلعبُ الحَجْلةَ وسط الصِّحابْ

تناقلْتِ بين الحُقول لرعْي الجواميس،

ما زال صوتكِ بين السَّواقي يصدُّ الذِّئابْ

تطيَّبتِ أُمِّي؛

لتأخذكِ الصِّبية الآن..

مِنْ أجل جنْي العناقيدِ في كرْم همِّ بلغْتيهِ

أو كرْم ذاك السَّرابْ

تطيَّبتِ أُمِّي؛

كأنِّي أراكِ بفرْدوسِ ربِّي

وولدانها طُوِّفتْ بالشَّرابْ

كأنِّي أراكِ بقصْرٍ الزبرجد فاح مسْكُ البداوةِ منْهُ،

وبالشُرفاتِ دنتْ هادلاتُ القبابْ

أراكِ كذا تدْخُلين

بلا أىِّ مُعْضلةٍ ،

أو حسابْ

بلا أي سابقةٍ للعذابْ

كأنِّي أراكِ بطيَّات ذاك الصِّراط ِ،

تمرِّين كالبْرق ،

حيث إلى جنة اللهِ فيها الخلود أنابْ

تشمِّين زهْر السُّرور

وبابُ الفراديس يُفتحُ ،

ذوْقي عناقيدَ رحْمتهِ ،

أو طهورَ الشَّرابْ

إلى الله روْحُكِ عادتْ لبرزخها

في حواصل طير الجنان

مُعلَّقةً بالعرْشِ حيْثُ القناديلُ مأوى مقامٍ،

مُطابْ

أفيضي علىَّ

فما زال حُزْنكِ ساعي البريد ،

ويحملُ منْكِ إلىَّ خطابْ ؟

وألْسنةُ الأمس تلهثُ خلْفي

دخانٌ قريبٌ يسبِّبُ كل اشتعال الحرائق،

مُنْتظرًا للثقابْ؟

يُضيِّعُ مكْيالُ إرث النِّصابْ

ويفْتحُ للبلديَّةِ كشْفَ حسابْ

فأفْلتِّ كيف مِنَ الكيْدِ ؛

والكيْدُ كان بكل الصَّنابير أمسْى مُذابْ؟

فشبَّ اليتامى وراءكِ قد أفْطمتْهم ليالي الشَّقاء

على عضَّةٍ للضُّرُوس ،

ونابْ

أفيضي علىَّ

تُعيدين لي ضحكةً

عانقتْ ثغْرَ ذاك اللَّمَى المُسْتطابْ

قلادتكِ الذَّهبيَّةُ قد ضيَّعتها سنونُ اغترابكِ ..

وقْت الشَّبابْ

أنا دون غيري - بـــرحْلكِ - أوْصيْتني

حين أُسْقطَ منْكِ شغافٌ مِنَ العُمْر،

آثرتِ برْزخَ كشْف الحجابْ

هُنا طفلتاىَ صرخْنَ عليكِ،

ويرْغمْن شوقَ الفؤادِ على الاحتسابْ

فــأينكِ والدَّارُ ثكْلى لفقْد الأحبَّةِ أُمِّي

سألتُ -وربّكِ - عنْكِ الجِرارَ،

الدَّجاجَ،

هَوَى العتباتِ،

البلادَ

وما بادلتْني الجوابْ

سألتُ القوافي وشطْرىَّ بيْتي المُنغَّم

كيف استبنْتِ بحدْسكِ بئر الغيابْ

غدًا تسْتريحُ خُطاكِ ،

وربَّاتُ تلك الحِجال تلمْلمُ قشَّكِ،

لا تسْتطيعُ صعود الأعالي،

فقد أعْجزتْ كل تلك الرِّقابْ؟

فلا همَّ ،

لا مُرَّ أوْدعكِ الأمْس راىَ السَّلامةِ ،

والانسحابْ

فنامي،

اطْمئنِّي وصاياكِ صارتْ

حدائقَ ملْء السَّحابْ.





شعر: عبدالناصر الجوهري - مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى