عبد القادر عقيل - الحصار

أخرجتُ رأسي من السيارة ، وناديت على ابني الصغير استحثه على الإسراع في المجيء . أطلت زوجتي من نافذة البيت باسمة الثغر وقالت :

’’ سيأتي حالاً ‘‘ .

طبع محمد قبلةً سريعةً على خد أمه ، ثم ودعها بيده وركض نحو السيارة .كان يوماً مشرقاً ، صافياً ، مؤاتياً للقيام بجولة في السيارة . كثيراً ما يطالبني ابني ، الذي لا يتجاوز الخامسة من عمره ، أن أخرج به للتنزه، ولكثرة مشاغلي فقد أرجأت هذه الفسحة إلى يوم عطلة مناسب . زوجتي فضّلت المكوث في البيت ، فهي تخاف كثيراً من ركوب السيارة ، ولكنها أعدت لنا الكثير من الشطائر والحلوى كأنما سنرتاد صحراء بعيدة . شعرتُ براحة عميقة وأنا أرى محمداً جذلاً ، يكاد يرقص من فرط سروره .قلت له :

’’ سأريك جبلاً عظيماً يقع في نهايات المدينة‘‘.

قال بغبطة :

’’ وهل سنتسلق هذا الجبل ؟ ‘‘ .

أومأت له بالإيجاب ، وأخذت ألفق قصصاً كثيرة عن أيام طفولتي ، وكيف تسلقتُ الجبل بنفسي، وتهت فيه عدة أيام ، ثم خرجت سالماً وعدت إلى البيت . رأيت الدهشة تغمر وجهه وهو يستمع إلى قصصي الملفقة، ولم يهنأ باله إلا بعد أن أجبته عن عشرات الأسئلة : عن الأشياء التي رأيتها داخل الجبل، وعن الطريقة التي وصلت بها إلى البيت ، وأدق التفاصيل الأخرى . صاح فرحاً :

’’ ها هو الجبل ‘‘ .

وصلنا إلى الطريق المؤدي إلى الجبل . انعطفتُ وسرت مسافةً قصيرة ، إذ بدورية الشرطة تتجه نحونا ، فأوقفت السيارة لأستطلع الأمر .

’’ - ماذا حدث ؟ ! ‘‘ .

ترجل أحد أفراد الدورية وتقدم بخطواتٍ واسعة نحونا . ارتبكت قليلاً . قال الشرطي :

’’ ممنوع دخول هذه المنطقة ‘‘ .

تجرأت وسألته عن السبب ، فأوضح لي أن جريمة قتل قد وقعت بعد ظهر اليوم عند منحدر الجبل ، وأن رجال الشرطة يقومون بتفتيش المنطقة . رجعتُ إلى الشارع العام ، وأوقفت السيارة شارداً بفكري في الجريمة التي وقعت . من القاتل ومن المقتول ؟ .

قال محمد :

’’ أين سنذهب الآن ؟ ‘‘ .

قلت له وأنا أحرك السيارة في اتجاهٍ أمامي :

’’ سنذهب إلى مكانٍ جميل عند شاطئ البحر‘‘.

وأقنعته بقصص ملفقة أيضاً عن السمكة الكبيرة التي تغني في البحر وتلعب مع الأطفال . وعندما ألقى عليّ بأسئلته الفضولية لم أستطع أن أجيب لأنني كنت أسأل نفسي : كيف يمكن أن يقتل الإنسان إنساناً آخر؟ .

’’ - أين شاطئ البحر ؟ ‘‘ .

’’ - سندخل الآن عبر بساتين النخيل ، ثم نصل إلى الشاطئ ، كثيراً ما جئت إلى هنا وأنا صبي صغير ‘‘ .

وما أن سمع ذلك حتى ألقى عليّ بأسئلته المتلاحقة. انحرفت عن الشارع العام ، ودخلت في شارع فرعي يؤدي ، حسب علمي ، إلى شاطئ البحر ، لكنني أوقفت السيارة حائراً حين رأيت شارعين أحدهما يتجه إلى اليمين والآخر إلى اليسار . لا أذكر أنني رأيت هذين الشارعين من قبل . ترددت في اختيار أحدهما. قال محمد :

’’ لنذهب من هنا ‘‘ .

وافقته على عجل ، ودخلت في الشارع الذي يتجه إلى اليمين. وجدت نفسي في طريقٍ ضيق لا يسع إلا لعبور سيارة واحدة ، وعلى طرفي الشارع نخيل كثيرة، واقفة ، ميتة ، والأرض تبدو ، لكثرة ما استنجدت بالماء ، متشققة ، ومتصلبة . كل شيء يوحي بالخراب في هذا المكان . واصلت السير مرتجياً الوصول إلى الشاطئ ، أو إلى طريق آخر أقل وحشة وكآبة .

’’ - متى نصل إلى الشاطئ ؟ ‘‘ .

لم أحر جواباً لأنني لاحظت أن مجموعة هائلة من النخيل الميتة تقف في منتصف الطريق وتمنعنا من المرور . شعرت بغيظ شديد . ما الذي دفعني للوقوع في هذا المأزق.

’’ - متى نصل إلى الشاطئ ؟ ‘‘ .

’’ - سنعود من حيث أتينا ، من المحتم أنني أخطأت المكان ؟ ‘‘ .

وحتى أسلك طريق العودة فلا بد أن أرجع بالسيارة إلى الخلف مسافة ثم أعدل من وضعها . شعرت بألم في رقبتي من جراء الالتفات إلى الخلف . عند المنفذ الضيق أدرت السيارة وأصلحت من وضعها لنندفع إلى الأمام عبر الطريق الذي جئنا منه .

’’ - أين سنذهب الآن ؟ ‘‘ .

’’ - سنعود إلى الشارع الذي يتجه إلى اليسار ، وهو الطريق الذي سيصل بنا إلى الشاطئ‘‘.

قطعت مسافة في الطريق ولم نصل إلى الشارع العام ، ثم بغتة وجدت النخيل الميتة واقفة في طريقنا . مستحيل ، كيف جئت إلى هنا ثانية ؟! .

’’ - متى سنصل إلى الشاطئ ؟ ‘‘ .

’’ - اصمت ودعني أفكر قليلاً ‘‘ .

لا مجال للتفكير ، يجب العودة إلى الوراء والإصلاح من وضع السيارة والخروج من هنا بسرعة. بعد لأي وصلتُ إلى المنفذ الضيق ، وانطلقت بسرعة إلى الأمام. قطعنا مسافة في الطريق ، ثم رأيت أمامي النخيل الميتة من جديد . يلج الخوف قلبي فاضحك ضحكة باهتة.

’’ - لنعد إلى البيت ، لا أريد أن أرى السمكة الكبيرة‘‘.

قلت له والقلق يستبد بي :

’’ أنا أيضاً أريد العودة إلى البيت ‘‘ .

نزلت من السيارة لاستكشف الأمر . تبعني محمد. مشينا معاً في الطريق الموحش الكئيب . وقفتُ أنظر إلى الطريق الذي جئنا منه. المفترض أن يُرجعنا إلى الشارع العام ، فكيف إذن نعود في كل مرة إلى هذه المنطقة ؟ !. سحبت يد محمد وعدتُ مسرعاً إلى السيارة . أرجعت السيارة إلى الوراء . كنت مضطرباً جداً ، ولم أعرف إن العجلة الخلفية تنحرف لتنغرز في حفرة طينية . حاولت مراراً إخراج العجلة من الحفرة ولكن دون جدوى .

’’ - أريد أن أعود إلى البيت ‘‘ .

غضبت وصرخت في وجهه :

’’ أنا أيضاً أريد العودة إلى البيت ‘‘ .

لم يحتمل غضبي فبكى . انتابني شعور بالندم فقرّبته من صدري ، وطلبت منه السكوت والسكون ريثما أجد حلاً ، لكنه أصر على بكائه . قلت له :

’’ امكث هنا وسأحاول إخراج العجلة من الحفرة ‘‘ .

توقف عن البكاء ، وتبعني ثم وقف يراقب ما أفعله . أجهدت نفسي وجربت كل الوسائل ، كان واضحاً أنني أحتاج إلى مساعدة شخص آخر ، وهذا الصغير ليس بوسعه أن يأتي عملاً . تمنيت لو أن سيارة تمر من هنا ، أو يأتي أحد لنجدتنا . كانت الشمس تنحدر نحو المغيب ، وهذا ما زاد من قلقي . رفست العجلة ولعنت اللحظة التي فكرت فيها أن أخرج من البيت . كان محمد خائفاً ، يلتفت حواليه كثيراً، ويلتصق بي كأن شيئاً ما سيخطفه مني . عدت للمحاولة مرة أخرى ولكن ذهبت محاولتي سدى ، والظلام بدأ يرخي أسجافه ، ويزيد من الوحشة والكآبة . توقفت بعد أن دهمني الإنهاك والتعب .

’’ - ألن نعود إلى البيت ؟ ‘‘ .

’’ - سنبقى هنا الليلة ، وفي الصباح الباكر سنعود إلى البيت ‘‘ .

لكنه بدا غير راضٍ عن فكرتي . أدخلته في السيارة وجلسنا ننتظر .

’’ - أريد أن أذهب إلى أمي ‘‘ .

سألت نفسي : هل سأجد حلاً لهذه الورطة ؟ .

طلبت منه أن يحكم إقفال باب السيارة ويرفع زجاج النافذة تحسباً من تسرب الزواحف إلى الداخل. أخرجت له بعض الشطائر . تناولها ، وحكيت له بعض الحكايات المسلية فاسترد بعض هدوئه . فكرت في أن أخرج وأمشي إلى نهاية الطريق ، فقد اهتدي إلى الشارع العام ، ولكن حلكة المكان ووحشته جعلاني أستعيض هذه الفكرة بالانتظار . نام محمد ، بينما بقيت أصيخ لأية حركة تصدر في الخارج ، وبين الفينة والأخرى التفت إلى الوراء للتأكد من عدم وجود أي شيء .

قلت لنفسي : لماذا يورط الإنسان نفسه هكذا ؟.

فجأة تجمدت في مكاني ، وارتعدت فرائصي. في البدء خلت نفسي أتوهم ، ولكن تأكد لي أن شيئاً يتحرك في الظلام . وضعت يدي على مفتاح التشغيل ثم تذكرت أن السيارة لن تتحرك بسهولة ، فخفضت رأسي حتى صرت تحت المقود . كان الظلام كثيفاً ، والنجوم منطفئة ، والقمر شحيح الضوء ، ولكنني استطعت أن أرى فتاة تقف أمام السيارة . يبدو أنها عرفت أنني في الداخل فأخذت تشير إليّ أن أذهب إليها . رفعت رأسي وأمعنت النظر فرأيتها تذهب ثم تعود وتشير إليّ . أشعلت فجأة المصابيح الكاشفة فاختفت الفتاة وبقيت النخيل الميتة الواقفة . أطفأت المصابيح حتى لا يسبب اشتعالها في موت البطارية ، وأخذت أرقب بتوجس ما يدور في الظلام الكثيف .

حدثت نفسي : سأنام ولن أصحو حتى يبزغ الفجر. ولكن عيني أبتا أن تركنا للنوم في مثل هذا الوضع ، فبقيت ساهراً . أخافتني حركة محمد وهو يهب من نومه . كان يريد أن يتبول . أخرجته بهدوء من السيارة ، وطلبت منه أن يتبول بسرعة بينما قمت بفتح الصندوق الخلفي وأخرجت منه آلة حادة يمكن أن ندافع بها عن أنفسنا . أنهى تبوله فأدخلته السيارة ، وأحكمت إغلاق الباب من الداخل . أمسكت الآلة الحادة بيد ثابتة ورجعت للمراقبة. رأيت الفتاة ثانية . أشعلت الضوء . اختفت. نظرت إلى الساعة ، كانت تشير إلى الحادية عشرة. أمامي خمس ساعات على الأقل لينبلج الصباح. كيف ستمر هذه الساعات الطويلة ؟

أغمضت عيني محاولاً النوم ، ويبدو أنني نمت بالفعل ، فحين استيقظت فجأة ، اعتقاداً مني بأن شخصاً ما يسترق النظر إلينا، كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل . تابعت النظر في الظلام الذي بدأت عيناي تتعودانه . رأيت الفتاة الصغيرة تتقافز وترقص وتدور حول النخيل الواقفة ثم تقف وتنظر إلي طالبة أن أذهب إليها . رأيت أنها في هذه المرة تدنو الهوينى نحوي . أشعلت الضوء . اختفت . خشيت أن أصاب بمكروه من جراء هذا التوتر والضيق الذي أنا فيه ، ولكنني تماسكت، وأخذت أفكر في طريقة أخرج بها العجلة من الحفرة في الصباح الباكر . انتفضتُ من رقادي مفزوعاً ، كان محمد يهزني ويطلب مني أن أتحرك . نظرت إلى الساعة . كانت الساعة السادسة صباحاً . قمت على عجل لأنفذ الفكرة التي ومضت في رأسي .

أخذت أبحث عن بعض الألواح الخشبية القوية ، ثم رفعت السيارة بالرافعة ، ووضعت الألواح على الحفرة الطينية ، وأسرعت لإبعاد السيارة قبل أن تتكسر الألواح . نجحت الفكرة ، فصفق محمد وصاح مبتهجاً . ركبنا السيارة وعدت إلى الوراء . أصلحت من وضع السيارة ، واندفعت إلى الأمام بسرعة جنونية محاولاً الخروج من هذا المكان. قطعت مسافة قصيرة وجسدي كله يرتعش خوفاً من أن تظهر أمامي النخيل الميتة ، ولكنني أطلقت صيحة فرح عندما رأيت الشارع العام الذي دخلنا منه أول مرة . قال محمد مغتبطاً :

’’ لنعد بسرعة إلى البيت ‘‘ .

قلت له :

’’ بأقصى سرعة ‘‘ .

على جانب الشارع العام رأيت صبية تلوّح بيدها طالبةً أن أتوقف . وصلت إليها وتوقفت . لم تكن تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها ، تلبس ثوباً ضيقاً مشدوداً على جسدها النحيل . شعرها قصير جداً ، ومسحة من الشر الغامض تكسو وجهها الصغير . حدجتني بنظرة ماكرة ، وتقدمت نحونا . تذكرتُ وجه الفتاة التي كانت تظهر أمامي ليلة البارحة ، فحركت السيارة مبتعداً عنها قبل أن تصل إلينا . نظرت في المرآة الخلفية فرأيتها واقفة تنظر إلينا وتطلق ضحكات ساخرة جداً .


عبد القادر عقيل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى