إبراهيم درغوثي - متاهـــــــــات.. قصة قصيرة

تنبيه :

قبل أن تبدأ في قراءة هذه القصة ، أريد أن أعرض عليك حكاية هذه الحكاية ، حتى لا تختلط عليك الأمور، وتتشابك في رأسك الأزمان والأمكنة . لأنك واجد فيها حضور لافت لشهرزاد وشهريار وهما كما يعرف الناس جميعا ، تقريبا ، شخصيتان أثثتا حكايات : ألف ليلة وليلة . الأولي ، بنت وزير جمعت بين النباهة و الحكمة ، فحمت بنات جنسها من الاغتصاب و القتل بدم بارد . والثاني ملك مخدوع في رجولته، ملك ككل الملوك الأشاوس ، اكتشف بعينيه الاثنتين زوجته وقد تفخذها واحد من عبيده السودان ، فثار لرجولته وقرر إفناء بنات حواء من الوجود . ولكن شهرزاد اللبيبة شدته بحكاياتها فأرجأت عمليات القتل إلى أن استولدها فلذات أكباده ، ففازت بروحها وبأرواح صويحباتها .

وبما أنه من حقك أن تتساءل عن سبب وجود هذا الملك المخدوع وجاريته الحسناء في نص قصصي حديث ، فإنني أردت أن أعفيك من طرح هذا السؤال ، أو التفكير في طرحه ، لأنني سأشرح لك الأمر بكل بساطة . ولك أن تقبل هذا الشرح أو ترفضه .

لك أن تسخر مني ، أوتطنب في مدحي والثناء على عبقريتي التي لن يجود الدهر بمثلها مرة أخرى .

كل هذا متروك لنباهتك وفطنتك فقط .

أما أنا فسأقول كلمتي وأمضي إلى المجهول . لأن هذا النص الذي ستأقرأه بعد قليل لا ناقة لي فيه ولا جمل كما يقول المثل العربي القديم . فكل ما في الأمر أنني اشتريت من بائع كتب قديمة معروضة على قارعة الطريق في نهج من أنهج تونس العتيقة ، نسخة من كتاب ألف ليلة وليلة .

لم تكن النسخة في حالة جيدة لذلك لم يطلب مني البائع ثمنا مشطا ، وإنما طلب بضع دنانير فقط .

عندما كنت بصدد تصفح الكتاب ، جلبت انتباهي كتابة بخط اليد على مدى الصفحات الأخيرة . ( قد أكون مسبوقا لهذه الحيلة في سرد أحداث هذه القصة ولكنني لم أجد غيرها فاغتنمت غفلة بعض القراء ومررتها ،على أمل أن أنجح فيما أخفق فيه من سبقني في هذا الباب – والله ولي التوفيق ) .

قلت في نفسي ، هي تعاليق قارئ على هذا النص ، وهي عادة كثيرا ما استعملها القراء ، ربما قتلا للوقت ، أو للتنفيس عن هم مكبوت ، أو لاستعراض معلوماتهم ، أو لسب الكاتب والتهجم على أخلاقه ، وغير ذلك مما تجود به النفس البشرية الأمارة بالسوء . وأغلقت الكتاب .ولم أعد إليه إلا هذه الأيام . فقد انشغلت بأخبار الحروب والكوارث الطبيعية التي ضربت الدنيا في كل مكان ، ودأبت على مشاهدة التلفزيون إلى أن كل بصري وتضعضعت أحوالي ، وضاقت بي الدنيا حتى صارت أصغر من خرم إبرة .

كنت عندما أصاب بهذا المرض ، مرض الكآبة ، أعود إلى المكتبة أقتل فيها الوقت مع أصدقاء لا يملون صحبتي أبدا .

هل هي الصدفة التي قادت خطاي إلى رف كتب التراث وإلى تلك النسخة من كتاب ألف ليلة ولية التي اشتريتها منذ شهور ، ونسيتها ، ربما .

فقد عدت إلى الكتاب أتصفحه ، فوجدت هذه الحكاية المكتوبة بخط اليد . حكاية تملأ الصفحات الأخيرة من الكتاب مع تعليق من صاحبها يقول فيه أنه أنجز هذا النص ليشارك بقية الكتبة الذين تداولوا على تأليف هذه المدونة منذ مئات السنين . وأنه يرجو ممن يفكر في إعادة طبع كتاب ألف ليلة وليلة أن لا يسقط هذه الحكاية من الطبعة الجديدة . ويعد بكتابة حكايات أخرى .

وقال كلاما كثيرا أسقطته حتى لا أثقل عليكم أولا ولأنني وجدت فيه ثرثرة لا طائل من ورائها .

إذا أقنعتك عزيزي القارئ هذه المقدمة فما عليك إلا أن تواصل القراءة ، وإذا ظهرت لك تفاهة هذا الكلام فذره لمن خلقه ولا تلتفت إليه ، وأنا متأكد أنك لن تندم على ذلك.

أم المتاهات :

أو ليلة كليلة القدر :

ماذا لو أفاق أحدكم ذات صباح وهو يملك رصيدا ماليا يساوي مليارين ونصف المليار من ملاليمنا التونسية . نعم يا سادتي الكرام ، ملياران ونيف . وحتى أقرب الرقم لمن لا يحسن تحويل الملاليم التونسية إلى دولارات أمريكية ، من قراء لغة القرآن ، أقول إن هذه الثروة تساوي بفلوس العم سام اثنان من ملايين الدولارات . أي نعم ورب الكعبة ، مليوني دولار . و ما على صاحب هذا الرصيد المالي إلا إن يبدأ بالعد .

و لكن وحتى لا أذهب بطمع الطامعين بعيدا أقول لكم إنني صاحب الحظ السعيد . فأنا من انفتحت في وجهه كوى وشبابيك وأبواب ليلة القدر في غير موعدها . ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر . ليلة هي عندي أغلى من الدنيا وما فيها : من ناطحات السحاب الأمريكية ، إلى البنوك السويسرية ، ومن آبار النفط السعودية إلى مناجم الذهب في إفريقيا الجنوبية . ليلة خير من ألف ليلة وليلة التي غنتها سيدة الطرب الأصيل أم كلثوم بردت أمطار الربيع ثراها ، وشنف الله آذانكم بصوتها ومغناها .

المتاهة الثانية :

أو ماذا يحصل لك حين تتغول عليك زوجتك

أبدأ الحديث بذكر الله والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبدا لله ، فأنا مواطن يؤمن بالقدر ، خيره وشره ، ولا يجادل فيما قدره الله لعباده من أرزاق في اللوح المحفوظ في عليين منذ أن قذفوا في الأرحام نطفا لا حول لها ولا قوة . مواطن مما كان يعرف سابقا ببلاد إفريقية التي غزاها في قديم الزمان وسالف العصر والأوان عبادلة الله السبعة ، ففتحوها وأدخلوا أهلها دين الله الحنيف بالحكمة والموعظة الحسنة . وصارت تعرف لاحقا بتونس الخضراء ، زينة البلدان وعروس المدائن . أنا ياسادة يا مادة ايدلنا ويدلكم على طريق الخير والشهادة مواطن من الشعب الكريم لا علاقة لي إطلاقا بما صار يعرف في هذه الأيام بالوسائط الحديثة للاتصالات ، أي بعالم الكمبيوتر والأنترنات ووسائل الاتصال عن بعد وغيرها من هذه الخزعبلات . فأنا تعلمت في كتاب القرية. أكتب ما تيسر من المعارف الدينية والدنيوية على لوح خشبي مبارك ، مصقول بطبقة من الطين الازب أخط عليه بقلم من القصب بعد أن أغمسه في السماق . والسماق لمن لا يعرف ، هو مداد مصنوع مما علق بمؤخرات الكباش ، يخلط بالماء ويوضع على نار حامية حتى يتخثر ويصير كالحبر الصيني .

وكبرنا فتركنا القصب والسماق ، وصرنا نكتب بالقلم الجاف على الأوراق البيضاء ، ونتفنن في الرسم وفي نقش الحروف ولا نمل ، إلى أن جاءتنا هذه الاكتشافات الحديثة فقلبت دنيانا الهادئة رأسا على عقب .

امتلأت منازل المدينة بهذه الآلات الإليكترونية العجيبة ، فتصدرت المجالس كما كان الحال في بداية ستينات القرن الماضي عندما اكتشف العالم أجهزة الراديوهات العملاقة . وكنت أجدف ضد التيار، فقد امتنعت عن الحديث في هذا الموضوع امتناعا تاما ولم أترك لأحد من الأهل فرصة طرح إمكانية شراء جهاز إعلامية وإدخاله إلى بيتي ، إلى أن حرك الأولاد أمهم ضد هذا الموقف المتطرف من رجل مثلي يدعي أمام العالم المتحضر أنه من أنصار العلم ، ويؤمن بأن الأمريكان نزلوا على سطح القمر ، وبأن الإنسان قرد ناطق بالكلام المبين ، وبأن هذه الأرض عجوز شمطاء عمرها يقاس بمليارات السنين . وحرضوها بالهمز واللمز ، فاشتد عزمها على النزال . ورغبوها في صندوق العجب ، هذا الذي يحوي العالم بين جنباته . وطلبوا منها أن تناصبني العداء إن أنا امتنعت عن قبوله في بيتنا . فتهربت من عينيها في أول الأمر ، ومن غمزاتها فيما بعد ، ومن إلحاحها على تنفيذ أوامر أكبادنا التي تمشي على الأرض . وماطلت ، وتناسيت ، وادعيت ضيق ذات اليد إلى أن هجرتني وتركتني أنام وحيدا في فراش ليالي الشتاء الباردة ، فرضخت للأمر ولسان حالي يقول : لست أول من تغولت عليه ربة بيته يا رجل ، ففز بدفئها ونفذ أوامرها وأمرك لله .

وكان ما كان . بعد أيام ، تصدر قاعة الجلوس في بيتنا العامر، جهاز كمبيوتر بتوابعه وزوابعه أغنانا عن التلفزيون ، وأدخلنا عالما آخر لم أكن أعرف أنه موجود .

وتلك حكاية أخرى لم تدر بها شهرزاد .

وشهرزاد هذه ليست تلك التي قد يكون الواحد منكم سمع بعضا من حكاياتها أو قرأ شيئا منها في كتاب ألف ليلة وليلة ، وإنما هي زوجتي المصون ، أنا ، شهريار بن عبد الله بن عبد الله بن عبد الله بن ألخ بن سام بن نوح بن ألخ بن آدم عليه الصلاة والتسليم . وقد قررت بمحض إرادتي أن أقص عليكم بنفسي حكايتي هذه . أولا لأنها تختلف بعض الشيء عما تعودتم عليه من قص شهرزاد العجوز لشهريار الآخر ، شهريار الحكاية القديمة ، تلك التي تخرج من جعبتها كلما أعجزتها الحيلة ، جنا وغيلانا وشياطين طائرة ، وهذه أشياء لم تعد تقنع في هذا العصر . وثانيا لأنها لا تعرف عن قصتي الشيء الكثير، فهي تجهل هذه العوالم الجديدة ولا تفقه في دنيا القص الحديث شيئا يذكر . هكذا بكل بساطة ، حتى لا تذهب بكم الظنون مذاهب أخرى ، ولا تتأولوا هذه الكتابة تأويلا آخر .

المتاهة الثالثة :

أو قصة شهريار مع المليوني دولار

كان يا ما كان ، في قديم الزمان وسالف العصر والأوان ، كان يعيش في قرية من قرى بلاد العرب التي شملها الله برحمته ، رجل يدعى عبدالله ، رجل مستور الحال ، يتداين في بعض المرات من البنك الذي يملك فيه حسابا جاريا ينزل فيه راتبه في أواخر كل شهر، ولكنه كان يسدد ديونه ولا يتلكأ في التسديد ليعود إلى الاستلاف مرة أخرى ، وهكذا دواليك ، قوت على موت ، إلى أن فاجأه مرة جهاز كمبيوتر اشتراه منذ أيام بثروة لم يكن يحلم بها . تخيلوا معي مغارة علي بابا بما حوته من كنوز سرقها حراميو كل الدنيا ، من المافيا الإيطالية حتى مروجي المخدرات في مدن أمريكا العظمى : ذهب وألماس ، ودولارات وأورووات ، وتحف فنية ، ولوحات لرسامين من عصر النهضة حتى بيكاسو و... ما لا عين رأت ولا أذن سمعت وما لا يخطر على بال، تيجان من الذهب الخالص كانت فيما مضى فوق رؤوس أطاحت بها وكالات المخابرات المركزية ، وعصي من الأبنوس كان جنرالات من دول العالم الثالث يزينون بها خطواتهم المنتظمة على وقع الأناشيد الرسمية فوق زرابي المخمل المفروشة في مطارات العالم ، وأقمشة من الحرير النفيس المزركش بخيوط الذهب و... شيء لا يمكن أن يحصيه إلا الله العلي القدير . هكذا قدرت ، أنا محدثكم ، عبد الله وصفيه ، قيمة الثروة التي كسبتها بعدما ترجم لي أحد أساتذة معهد القرية التي أسكن فيها نص البريد الإلكتروني الذي وصلني. رسالة مكتوبة بأنكليزية تضوي حروفها المباركة كنجوم السماء في ليلة صيف ، حولها لي الشاطر حسن إلى العربية ،فأغمي علي أولا ، ثم أفقت من الإغماءة ، فحولت منزلي إلى قاعة أفراح وليال ملاح وأنا أردد لكل من هنأني بهذه الرحمة التي نزلت علي من سماء أنجلترا العظيمة :

- رحم الله رجلا عرف قدر نفسه ، ها هي اللغة الأنجليزية تأتيني بما لم تقدر عليه لغة الصحراء المقدسة . فبالله ، و والله ، وتالله ، وبإذن الله ، الرازق العليم ، القادر الكريم ، الذي يعطي ولا يمن ، ويهب بدون حساب . أنه ، لو قدر لي حقا هذا الفوز المبين لجعلت كل أطفال كتاتيب عالم المسلمين يقرأ ون كلام الله بهذه اللغة الرائعة .

ونذرت للرحمان نذرا عظيما ، بأن أشتري بجزء كبير من هذا المال ، وا... عجبي، أجهزة كمبيوتر أفرقها على كل طالب علم ليفوز معي، ربما في مرة قادمة ، بهذا الرزق الحلال . فمما ورد في تذييل الجائزة ، أنها تفرق على الخلائق مرة كل سنة .

وبما أنني فزت بها هذه المرة ، فليس من الغريب أن تكون في العام القادم أيضا من نصيب واحد آخر من هذه البلاد التي اصطفاها الله وكرمها وجعل من أممها خير أمة أخرجت للناس . يأمر أهلها بالمعروف ، وينهون عن المنكر، ويتعاضدون عند الشدائد ، ويحبون لبعضهم ما يحبون لأنفسهم ، ولا يتركون للعدو موطئ قدم فوق أرضهم . شعوب وقبائل اختارها الله وكرمها بالبترول يا أخي ، فأرى الخلائق جنات نجد و دبي والكويت سيتي بالعين المجردة حتى يتأكد الجاحدون والكافرون والذين في قلوبهم مرض من أن رب العرب يملك في خزائنه أيضا جنات عدن ، تلك التي وعد بها المتقين من عباده الصالحين . جنات تجري من تحتها الأنهار ، وتغرد فوق أغصانها الأطيار.

وظللت أحلم بهذه الثروة ، لأنه ذهب في ظني ، بادئ ذي بدء أنه بمجرد الإعلان عن الفوز، وبكلمة سحرية مني ، كأن أقف أمام باب المغارة التي حدثتكم عنها قبل قليل ، و أهمس : افتح يا سمسم ، فتنفتح أمامي أبواب بنوك العالم لأغرف من خيراتها ما شاءت لي الأقدار واللغة الأنجليزية الكريمة . ولكن ظني ذهب أدراج الرياح . فقد استدعى الأمر أكثر مما تحسبت له .

كان علي أن أقطع سبعة بحور ، وأصعد سبعة جبال وأتوه في سبع صحار لأنال مال العيون الزرق .

وتلك حكاية أخرى لم تدر بها شهرزاد كما قلت لكم في المرة السابقة .

المتاهة الرابعة :

أوالشاطر حسن يذيع السر .

طلبت مني شهرزادي أن لا أكثر من الحديث حول موضوع هذا الكسب الذي خرج لنا من بلور جهاز الإعلامية الذي جهدت هي وأولادها في الحث على اقتنائه بينما كنت أعادي الفكرة . وذكرتني بأنها قاطعتني ، وهجرت الفراش الحلال حتى رضخت للأمر وجئتهم بتلك الآلة العجيبة التي ربحنا من ورائها هذه الثروة . وصارت تلحف بتذكيري بأن المشرفين على هذه المغامرة يؤكدون على الاحتفاظ بالسر، وبعدم البوح بالرقم الفائز في السلسلة . هذا الرقم الذي وقع اختياره من بين مائة ألف بريدي الكتروني .

وترفع يديها إلى السماء ، وتبوس كفيها ، وتتمتم : ما أرحمك ياالله ، بريدنا يفوز من بين مائة ألف بريد . ما أكرمك يا الله وما أسعدنا برحمتك الواسعة .

وبما أنها تعرف أن حبة الفول لا يمكن لها أن تبتل داخل فمي ، كناية على أنني ثرثار، مهذار ، فإنها نظرت في عيني نظرة أورثتني ألف حسرة ، ولم تزد على ذلك شيئا .

ولكن من أين للمسكينة ولي بالستر بعد أن ذاع الخبر في طول البلاد وعرضها منذ أن فارق الشاطر حسن باب دارنا . فقد تهاطلت علينا التهاني من حيث نعلم ومن حيث لا نعلم . تهاني بواسطة التلفون العادي ، وبأخيه المحمول ، وأخرى بالبريد العادي ، وبالبريد السريع . واتصالات بالإيمايلات ، وغيرها بالبطاقات البريدية الرائعة . ولكن أهمها جميعا تلك الزيارات الفردية والجماعية التي صارت تحصل لنا في عقر دارنا آناء الليل وأطراف النهار . زيارات لم نكن نحسب أنها يمكن أن تقع لنا لولا تلك الجائزة السعيدة التي قلبت حياتنا وحولتنا من حال إلى حال ، وسبحانه تعالى مغير الأحوال . سبحانه أعبده وأنوب إليه ، فلولاه ما حصل الذي حصل .

زارنا رجال سياسة من كل ألوان الطيف . جنتلمانات ، أجسامهم الفخمة مدسوسة داخل بذلات فاخرة ، تزينها ربطات عنق تعبق منها روائح العطور الفاتنة . جاءوا يطلبون الود والصحبة وقضاء شؤوننا الخاصة متى أشرنا بذلك . قالوا لنا : اكتفوا بالإشارة ولا يهمكم شيء بعد ذلك .ودخل بيتنا لأول مرة رجال أعمال كبار وصغار يقطر الشحم تحت خطاهم . شحم لزج ، متخثر، نتن كالفساء . كان الصغار يرغبون في أن نشاركهم أرباحهم القادمة و كان الكبار يعرضون علينا أرباحهم الحالية . اطلبوا، قالوا لنا ، ولا تخجلوا ، فالمال كثير، ولا فرق بيننا وبينكم إلا بالصورة المرسومة على العملة .



المتاهة الخامسة :

أو - أنا الغني وأموالي المواعيد - .



حتى لا يقال أنني أسرق أشعار الغير وأنسبها لنفسي ، أعلن لمن يعرف أن هذا عجز بيت شعر استلفته من صاحبي وخليلي أبي الطيب المتنبي برد الله ثراه .

يوم وصلنا الإيمايل الذي طلب مني فيه إرسال نسخة من جواز سفري و رقم حسابي الجاري في واحد من البنوك التونسية التي تتعامل مع الخارج لتسهيل إرسال الأموال التي ربحتها ، وحتى يصلني هذا الخير إلى باب الدار – كما قالوا لي - كان أطول يوم في حياتي .فقد خرج الخبر للخاصة والعامة في لمح البصر، كيف خرج هذا الخبر وتناقلته الألسن بهذه السرعة ، لست أدري ، إذ بمجرد أن وضعت قدمي أمام باب الدار حتى هجم علي جمع غفير من البشر لا يعلم عدده إلا الله : رجال ونساء وأطفال ، وشيب وشباب . كانوا متبوعين بضاربي طبول ونافخي مزامير وحواة ، آكلي عقارب ، ومصارعين ، ومريدي زوايا وتكايا. التف الجمع حولي ، وصاروا يتصايحون ويتدافعون كل واحد منهم يريد الوصول ليدي ليلثمها ويتبرك بها . وأنا ، وقد أصابني الذعر خوفا من أن أموت مختنقا ، أنادي مستغيثا ، ولا مجيب إلى أن أغمي علي ، وظن أنني فارقت الحياة . حينها فقط تفرق الجمع من حولي . وبدأت الجوقة في النواح والصياح وفي لطم الوجوه والعويل والبكاء .وأنا أنظر بعين القلب لما حل بهذه الأمة التي - تحرث على البرق - .

بعد هذه الحادثة التي كادت تؤدي بحياتي ، ألزمتني زوجتي والأهل والأقارب والأصدقاء ومن زارنا في الأيام السابقة من ذوي الشأن بعدم مغادرة البيت . قالوا : لن نجعلك ضحية لهؤلاء المجانين ، وسنتكفل بمستلزمات حياتك ، فقر عينا ، ونم ملء جفونك عن الشاردة والواردة .

ونمت ، كما قالوا لي ، فامتلأت رفوف المطبخ بما لذ وطاب من لذائذ الدنيا . وامتلأت جيوبي بلفائف من ورق النقد .

ولكن ما نغص علي هذه الجنة أنني كنت حين أقف وراء شباك بيت الجلوس الكائن في الطابق الخامس من العمارة التي أقطنها ، أرى صفوفا من الخلائق متراصة قدام باب العمارة . صفوف طويلة ، تكاد لا تنتهي .

كانت الخلائق تنادي باسمي، وتطالب بحقها فيما كسبت من مال اللغة الأنجليزية الكريمة . وأنا من وراء شباكي ، أعجب لهؤلاء الناس ، ولحالي ، وألعن الساعة التي طاوعت فيها نفسي وأدخلت إلى البيت هذه الأعجوبة التي أربكت حياتي وحولتني بين عشية وضحاها ، وليل تلاها إلى معبود لكل هذه الجماهير الغفيرة والخلائق الكثيرة . وأندم بسرعة على هذا الكفر بالنعمة التي حرضنا ربنا على أن نحدث بها ، فأستغفر الله ، وأعد نفسي بأن أحمد ربي وإن داستني أقدام العامة، ونهشتني الأفاعي السامة وقروش الطامة .

ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز القدير الذي يفرق الأرزاق ولا يمل ولا يكل ، به أستعين ، وعليه أتوكل في حل صغائر الأمور وكبائرها . فهو من يرزق الخلق بغير حساب ، فلولا رحمته الواسعة لعميت عيون اللغة الأنجليزية عن رؤيتي ، ولتاه بريدي الإلكتروني في هذا البحر المتلاطم من بريد العالم الحر ، والعالم المتخلف ، وما بينهما بريد العالم البين بين .

كنت أقول لنفسي أنظري يا ابنة الكلب كم هي عظيمة رحمة ربك ، فلا تنسي ذلك وعضي على هذا الكلام بالنواجذ وإلا أكلتك ضباع الجبل وبالت عليك الثعالب .

وقد هان من بالت عليه الثعالب .

المتاهة السادسة

أوالهاتف الذي حذرني من الخناس

دسست بين هذه الجماهير الواقفة تحت سمائي من كان يهرب إلى البيت ، بين الفينة والأخرى من يحدثني عن سبب وقوفه في هذا الصف .

كانت إجابات بعضهم غريبة وعجيبة ، لو كتبت بالإبر على آما ق البصر لكانت عبرة لمن يعتبر .

هزني بعضها حد البكاء . وضحكت من البعض الآخر حد البكاء أيضا :

كان يا ما كان ... في قديم الزمان ... وسالف العصر والأوان ...

كان رجل فقير الحال ، رث الهندام ، يدعى لقمان.

وكان ....

وكانت امرأة جميلة ، طويلة القد رائقة الخد ، ولكنها لم تكن تملك من حطام الدنيا شيئا .

كانت هذه المرأة ...

وكان وكانت ...

وكانت وكان ...

وكنا وكانوا ...

وسيدي ، ينقصني ألف دينار لأزوج هذه اليتيمة .

وسيدي ، لم أقدر على دفع معلوم كراء البيت ، وصاحب البيت يهددني بالطرد . وأنا لا أملك عشا لفراخي .

وسيدي ، ماذا لو تدفع عني بلاء قرض هد كياني ، من البنك الفلاني ، والبنك العلاني ، والبنك الفلاني العلاني ، والبنك العلاني الفلاني .

وسيدي يا سيدي ...

وأنا أقول في نفسي و لنفسي : ها قد أصبحت سيدا يا ابن الكلب ، يا ابن الجوعانة والجوعان ، فما تراك فاعل بهذه السيادة ، وهذا الشعب الكريم ماثل بين يديك ، يرجو رحمتك ، ويطلب عطفك وحنانك .

يا حنان يا منان .

يا سيدي قضاي لحوايج .

إلى أن وصل الإيمايل الأخير الذي قلب كل الموازين رأسا على عقب . طلب مني أن أدفع ألف باوند لاستخراج الأوراق الخاصة بالربح وأن أرسلها في أسرع وقت على الحساب الجاري لبنك في أنجلترا ، أو أن أحضر بلحمي ودمي الحار إلى بلاد البرد و الضباب لأقوم بهذه الإجراءات وأعود سالما غانما بما كسبت من رزق حلال . وخيروني .

فقلت ، والحيرة تأكلني أكلا لما : الخير فيما اختاره الله .

ونمت ، أو على الأصح كنت كالنائم حين سمعت هاتفا يهتف بي :

- حذار يا ابن الناس من الخناس الوسواس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس .

- حذار يا ابن محبوبة ، ولا تكن كالثعلب الجائع الذي أطمعته ضخامة الطبل .

وسرد عن مسمعي أمثلة كثيرة تدين الطمع والطماعين أوردها من حكم الأولين والآخرين .

ولم يتركني إلا بعد أن تأكد من عودتي إلى عالم اليقظة .

أفقت مذعورا ، و صدى الصوت الذي كلمني في المنام يتردد في الغرفة صافيا كرنين الذهب ، وعرق بارد يسيل من كامل مسام بدني .

كان ثقل عظيم يحط بكلكله على جسمي ، وكل أوجاع الدنيا تضغط على رأسي وصدري وتقطع أنفاسي .

وبدأت أسقط في بئر بلا قرار .



المتاهة السابعة

أو متاهة المتاهات

هل تعتقد عزيزي القارئ أن حكاية كهذه ممكنة الوقوع

وأن اللغة الأنجليزية سخية مع العرب إلى هذا الحد

هل في مقدورك أن تصدق بعد الآن هلوسات القاصين وكذبهم وذهابهم إلى أساطير الأولين وخرافاتهم ليثبتوا بها حكايات اليوم

أنا ، صانع هذه الأكاذيب الحديثة أقول لك من جانبي صدق كل ما قرأت قبل قليل .

أقول لك ، غرائب هذا العالم الجديد لا تحصى ولا تعد ، فلماذا لا يربح مواطن صالح ثروة كثروة علي بابا وقد تواتر مثل هذا الربح في أخبار التلفزيون .

كل ما في الأمر أن الكاتب أوعز لسارده أن ينهي هذا النص بتلك النهاية حتى يقطع الطريق على الطماعين ، وما أكثرهم .

هل تصدق السارد أم تصدقني

اترك لك الخيار

سلام ...
  • Like
التفاعلات: فاطمة الفلاحي

تعليقات

قرأتها كثيرا ..
وعند كل قراءة أجدني مقصرة في حق كل متاهة ،،

لا أراها من النصوص السهل تناولها
ستبقى عالقة بذهني ..
عجبتني في " أو تطنب في مدحي والثناء على عبقريتي التي لن يجود الدهر بمثلها مرة أخرى ."
وها أنا أمدحك وأثني على عبقريتك .
 
أعلى