عبد القادر عقيل - ليت عندي الشوكران / وهل أجرؤ؟

عبد القادر عقيل - ليت عندي الشوكران / وهل أجرؤ؟





هذا هو اليوم الرابع منذ أن أبحرنا .
هذا هو اليوم الرابع وأنا في جوف السفينة ، ملقىً بإهمال على فراش من الخيش .. رفيق الجرذان السمينة التي تتراكض بشغب من حولي ، والصراصير الدهنية التي تتحرك بحرية على جسدي وتتساقط بغباء على رأسي .
هذا هو اليوم الرابع ، والألم الرهيب يمزق جسدي . لحمي تساقط . عظامي برزت. جلدي به فتحات غائرة، صوتي اخشوشن ، وعدت لا أقدر على التنفس . أسناني تساقطت ، وفقدت حاسة التذوق . قدماي تقرحتا ، وعدت لا أقوى على السير . يدي التوت ، وأصبحت كالمخلب الصلب . وجهي تغيرت ملامحه ومعالمه . شعري تساقط .
لقد تعفنت تماماً ، وليس بوسعي أن أحيا .
هذا هو اليوم الرابع ، وأنا أتآلف مع صرير السفينة ، وأصوات ضخّ الماء إلى البحر، ورائحة الماء الآسن في قاع السفينة ، وأبخرة السمن الرديء ، وعفونة سمك القرش المجفف، وصوت الربان وهو يقرأ متباطئاً ، كعادته ، سورة ياسين بصوت جهوري مثير للضحك ، إذ كان يلفظ السين ثاءً .
يطلّ علي وجه الطباخ العريض بشاربيه السميكين ، وحاجبيه الكثيفين ، وهو يأكل التمر ويلفظ النوى ، وبيده حصتي من الطعام . يضع الأكل في زنبيل وينزله بالحبل خشية أن يصاب بالعدوى . يسحب عود سواك من عمامته الصفراء الباهتة ، وينظف أسنانه ثم يختفي .
قلت له : أريد مرآة .
لكن بدا لي أنه لم يفهم ما قلت .
* * *
كان الرجل يقطع درباً نحو الفرسخين بخطوات بطيئة جداً . يتوقف لحظات ، يلتفت حواليه ، ويلتقط أنفاسه ، ثم يواصل مسيره . يصل إلى جبل صعب المرتقى ، تحوطه أشجار كثيرة أغلبها البندق والصنوبر . على قمة الجبل تتراكم الثلوج في أشكال آدمية.
يقف الرجل عند فتحة الجبل ، فتصدر عنه آهة ألم موجع . يبلل وجهه بالماء الذي يترشح من سقف الجبل . يرى دهليزاً طويلاً ، فيعبر الدهليز منحنياً حتى يصل إلى عين ينبع منها ماء قراح .
جلس قرب النبع حتى أتاه المخاض ، فنزل الجنين إلى فخذه ، وبدأ فخذه في الانتفاخ ، فأطلق صيحة استنجاد تردد صداها في جنبات الجبل ، ثم أخرج سكيناً وشق فخذه ، فازداد صراخه ، وأزرقّ لونه ، حتى كاد يغشى عليه من شده الألم . مدّ يده داخل فخذه وأخرجني ، ثم سد الشق برباط وخرج تاركاً إياي في الجبل وعيني تذرف الدموع معلناً قدومي إلى هذا العالم .
* * *
افتح عيني على صوت انفتاح باب القمرة فأرى رجلاً لونه مثل لون التمر . مكحل العينين ، عظيم الأنف ، لحيته مخضبة ، عليه ثوب أبيض ينغلق عند العنق بزرين من الذهب ، يداعب حبات سبحته المصنوعة من الكهرمان .
كان يقلص عينيه الضيقتين ويحدجني بفضول واضح .
قلت له : أريد مرآة .
لكنه هدر كالرعد:
كم هي نتنة رائحتك .
ثم سعل سعالاً جافاً وبصق ما في فمه ومضى .
* * *
أرى نفسي أمام بحر متلاطم الأمواج . في البحر صندوق خشبي يطلّ منه رأس طفل صغير .. أخضر العينين ، منتصب الأذنين ، يستنجد بيده الصغيرة . حاولت دخول البحر لكنني خشيت الغرق . ثم رأيت حوتاً عظيماً يبتلع الصندوق والطفل في جوفه . ورأيت نفسي ماشياً على رمال صحراء محرقة ، وغيمة منيرة تسير فوق رأسي أينما سرت .
عيون في الرمال تطلق ، كالتنانين ، ناراً هائلة ، فتحوّل الليل نهاراً ، وتبعث بأدخنة غليظة تتراكم في السماء .
أرى جثث جنود منتشرة ، بإهمال ، على مد البصر . هياكل عظمية داخل بزات عسكرية رثة . أقنعة غريبة الشكل . دبابات مدفونة . حطام طائرات . بقايا ذخائر .
أي بلاءٍ ، وأي خراب حلّ بهذا المكان ؟ .
وصلت إلى باب مغروز في الرمال . دفعت الباب فانفتح . فرأيتُ اني وسط مرايا كثيرة تحوط بي من كل صوب . جلست على الرمل الحارق أرى كيف تلتفت المرايا إليّ وأنا في حضرتها .
سمعت طرقاً يهتف بي . فتحت الباب ، ورأيت جمعاً من الناس يرتدون ثياباً بيضاء يبتغون الدخول ، فأدخلتهم . قام من بينهم كبيرهم ووضع تاجاً مرصعاً بالعقيق والزمرد على رأسي وعاد إلى جماعته . ثم سمعتهم يقولون لي بصوت واحد :
- أنت أفضلنا ، وأشرفنا ، وأكبرنا ، وليس في العصر من يوازيك ، فرد أمرنا إليك ، وكن منقذ الأمة ، والقائم بالحق ، فإنا تحت سمعك ، وطاعتك ، والقائلون بما تراه ، يا أعلم الناس ، وأحكم الناس ، وأتقى الناس ، وأحلم الناس ، واسخي الناس .
ثم سقطوا مكبوبين على وجوههم . طلبتُ منهم أن يقوموا ، فأعطوني عمامةً بيضاء ، موشاة بالذهب ، وثوباً مبطناً باللون القرمزي ، وسيفاً مرصعاً بالأحجار الكريمة ، وفرساً شقراء بسرج ولجام مزخرفين بالذهب ومرصعين باللآلئ .
نظرتُ إلى نفسي في المرايا فأصابتني الغاشية من شدة جمالي .
* * *
شعرتُ بأن صرصاراً كبيراً أخذ يتحرك على شفتي . فزعت وصرخت وحركت يدي لأبعد الصرصار ، فتساقط بعضٌ من لحم يدي . لم أستطع التحمل فبكيت بحرقة . أية نهاية بائسة أعيشها ؟.
يطلّ عليّ وجه الطباخ العريض . لابد انه سمع صرختي . تطلع إلىّ متسائلاً . وبدا كأنه يريد التحدث معي فشجعته بأن ملتُ ناحيته . لكنه لم يتكلم
قلت له : أريد مرآة .
قال : نعم ، نحن في طريقنا إلى مستعمرة المجذومين ، أنت لم تزرها من قبل ، أليس كذلك؟ . انها جزيرة واغلة في البحر ، لا يقترب منها أحد ، فالبحارة يتطيرون منها ويتشاءمون .
توقف عن الكلام ، وفتح عمامته الصفراء الباهتة وأعاد ترتيبها من جديد على رأسه الضخم. لاحظتُ أنه لا ينظر إليّ وهو يحادثني . كان يعبث بأي شيء أمامه ، وكثيراً ما يحكّ شعر رأسه ، ويميل برقبته ، أو يفرك يديه بحركة عجلى ، أو يعرك عينيه .
- معنا ثلاثة وسبعون شخصاً بينهم خمس نساء وطفل رضيع . هل تعرف ان في المستعمرة جبالاً تتوقد منها بالليل نار عظيمة ، أما المجذومون فمآكلهم هناك من ثمار أشجار الموز والنارجيل وقصب السكر . نعم . وبالمستعمرة الكثير من الأغنام الجبلية ، ويقال ان بها حيواناً هائلاً له قرن واحد معقف يغرزه في بطن من يقف أمامه .
ابتلع ريقه وقام كأنه تذكر شيئاً ما ، وأغلق باب القمرة وراءه .
* * *
رأيتُ نفسي ماشياً في زقاق ضيق طويل لا نهاية له . على طرفي الزقاق جداران لا يلتقيان . توقفت . استدرت . عدت . لكنني وجدت نفسي في طريق لا نهاية له . توقفت . واصلت التقدم في الاتجاه الآخر لكنني لم أصل إلى أي مكان.
جلست محدقاً في الجدار العالي . ماذا يكمن وراءه ؟ . وضعتُ أذني على الجدار فسمعت ما يشبه غناء الماء .
قلت لنفسي : هل النهر وراء الجدار ؟ . كيف لي أن أصل إلى النهر ، وكيف لي أن أخترق الجدار ؟ .
رأيت نفسي واقفاً أمام الجدار الأسود الكالح . كنت أفكر في وسيلة أتسلق بها الجدار .
التفت ورائي ورأيت مئات البشر المجذومين المشوهين وهو يزحفون نحوي . كانوا أشبه بالموتى وهم يتحركون . اقترب مني أحدهم ، وكان قبيحاً إلى حد لا يوصف . وقال : أين هو ؟ إلى متى هو لا يسمع ولا يجيء ، أهو خفي أم ظاهر ؟ . لقد انتظرناه طويلاً ولم يأت ، قالوا انه سيملأ الأرض عدلاً ، ويشفي جميع السقام والمجانين والمصروعين والمفلوجين ، لماذا إذن خذلنا وهجرنا . قل له ليأت مع السحاب ، وليأخذ أسقامنا ويحمل أمراضنا وينجنا فإنا ها هنا هالكون ‘‘ .
* * *
هذا هو اليوم السابع منذ أن أبحرنا .
وهذا هو اليوم الثاني ولم يطلّ عليّ وجه الطباخ العريض ، ولم يحضر لي طعاماً ، ولم أسمع أية أصوات . حتى الربان توقف عن قراءة سورة ياسين .لا شيء سوى صوت تمايل الصارية ، وارتطام الموج بالسفينة . صرخت منادياً عدة مرات . استولى عليّ الذهول والانسحاق فثمة ما يقلق في الأمر .
انتظرت ثم تحركت بصعوبة وتسلقت السلم العمودي ، وصعدت إلى سطح السفينة. كانت السماء ملبدة بدخان أسود كثيف كريه الرائحة . ماذا حدث هنا ؟ . داخلني رعب شديد وأنا أشاهد جثث الركاب متكوّمة في كل مكان . أحركهم واحداً واحداً ، لكن لا أحد يتحرك . عيونهم الجاحظة تنبئ بأنهم لن يعودوا إلى الحياة . ماذا حدث هنا ؟ . كيف لم أسمع استغاثاتهم ؟ . كيف ماتوا جميعاً ؟ .
جلستُ خائفاً في ركن . ماذا أفعل الآن ؟ . هل سأموت مثلهم ؟ . ماذا أفعل بكل هذه الجثث ؟ . ماذا أفعل بالسفينة ؟ . كيف أديرها ؟ . إلى أين أتجه بها ؟ . أية نهاية بائسة تنتظرني .
* * *
رأيت نفسي طفلاً أنظر عبر الفتحات الصغيرة في الباب . وراء الباب كانت أختي مشعثة الرأس ، منكفئة على وجهها تبكي بحرقة شديدة ، كانت ترفع وجهها المخضل بالدموع بين الحين والآخر وهي تعض على أطراف أصابعها . كانت أمي واقفة وهي في أشد حالات الغضب تقول كلاماً لم أفهمه .
رأيت طفلاً رضيعاً لا أدرى من هو من أين جاء . كان ملفوفاً في قماط أبيض . بدأ في البكاء فأخذت أمي قطناً كثيراً ودسته في فمه حتى صمت تماماً ، في حين كانت أختي تخفي رأسها بين ركبتيها .
رأيت نفسي نائماً بين مئات الجثث على سطح السفينة . شعرت بيدٍ تهزني هزاً خفيفاً . فتحتُ عيني ورأيتُ الموتى يسحبونني من رجليّ بقوة ويقذفونني في البحر في مواجهة مجموعة من أسماك القرش المفترسة .
أجاهد في الوصول إلى السفينة ، وقبل أن أمسك بالحبال شعرت بأن نصفي الأسفل قد انشطر عن جسمي..
* * *
بشق النفس أخذت أجرّ الجثث ، جثة تلو جثة ، وألقيها في البحر . بدأت بالرجال ثم جاء دور النساء الخمس . كنت أتجنب النظر إلى الوجوه خشية أن أتردد في قراري .
أنهكني التعب حين وصلت إلى جثة امرأة كانت في ركن بعيد . كانت تخفي شيئاً تحت ثيابها السوداء ، كأنما تريد أن تصدّ الموت عن الوصول إليه . سحبتها فسقطت على الأرض وفي حضنها طفل رضيع ميت.
انتبهت إلى أصوات وحركات غريبة في البحر . ألقيت نظرة فإذا بي أرى عشرات من أسماك القرش تحيط بالسفينة وهي تفترس الجثث ، فأحسست بدوار وغثيان .
عدتُ إلى المرأة والطفل الرضيع . جلست أتأملهما في صمتهما الأبدي . كان طفلاً جميلاً . عيناه كستنائيتان واسعتان ، مفتوحتان ، شاخصتان إلى السماء ، كأنما مسهما الرعب من مشهد الموت . كان ملفوفاً في قماط أبيض ممزق . من رقبته تدلى مصحف صغير مذهب.
لماذا يموت طفل مثله ؟ . أي ذنب جناه ليلقى هذا العقاب ؟ . تذكرتُ طفلاً جميلاً مثله تركته أمه ميتاً عند باب المسجد بعد أن وضعت الكثير من القطن في فمه .
نظرت إلى عينيّ المرأة الحولاوين . كانت في وجهها مسحة صبوية تمسّ الروح رغم بروز وجنتيها وشحوب جبينها .
سوّغت لنفسي رفع ثوبها والكشف عن ساقيها . كيف لم ألمس جسد امرأة من قبل؟. مددت يدي وأخذت أتحسس فمها الواسع ، وشفتيها الباردتين . أخرجت نهدها الكبير من فتحة الثوب فرأيت دائرة سوداء كبيرة تتوسطها حلمة يابسة . كدت أضع شفتي على الحلمة إلا انني شعرت بانسحاق بالغ وبغيظ مهين ، فلم أكُ في حياتي شنيعاً إلى هذا الحد .
انسحبت إلى ركنٍ تاركاً المرأة والطفل الرضيع . وقررت أن لا أقذف بهما إلى البحر ليكونا فريسة لأسماك القرش .
* * *
فتحت عينيّ فداهمتني رعدة هزّت بدني . رأيت قدامي أبي وأمي جالسين عند رأسي . كانت أمي في ملابس بيضاء كالثلج . تبتسم لي وهي تمسح بيدٍ على رأسي ، وبالأخرى تحرر شعرها الجميل الذي كان منوّطاً بشريط أبيض .
سألتها : أأنتِ أمي ؟ .
لم تجبني بل أخذت تهدهدني بصوتها الرخيم ، ثم تمددت بالقرب مني واحتضنتني بقوة خشيت معها أن تتساقط بقية أعضائي .
رفعتُ بصري فرأيت أبي يبتسم وبيده مروحة من القش يهزها برفق علينا.
قلت له : أبي ، أنت هنا ؟ .
قال : نعم ، وسنأخذك معنا ، لن ندعك تموت هنا وحيداً .
قلت له : ولِمَ لا أعيش إلى الأبد ، لِمَ أنا بكل هذا القبح ، لِمَ كل هذا العقاب ؟
أخرجت أمي من تحت ثوبها مرآة وقالت :
- انظر ، كم أنت جميل .
شعرتُ بغصة في حلقي ، واختلجت الدموع في عيني ، وأخذ صدري يعلو ويهبط في اضطراب واضح .
بدأت أنشج عالياً : لا أريد أن أموت ، لا تتخليا عني .
* * *
هذا هو اليوم التاسع منذ أن أبحرنا .
جلست أنظر إلى جثة المرأة التي بدأت تتعفن . خيّل إليّ لوهلة انها فتحت عينيها . وضعت رأسي على صدرها لعلي أسمع شيئاً ولكن دون جدوى
كانت أسماك القرش قد ابتعدت عن السفينة منذ يوم أمس . وهذا ما دفعني لأن ألقى بجثتها في البحر . أما الطفل فقد وجدت له صندوقاً خشبياً قديماً . مددته فيه وأنزلته إلى البحر برفق .
كنت حزيناً ، يائساً من حياتي . لا أعرف ماذا أفعل أو أين أذهب . فجأة بدأت السماء تمطر مطراً أسود كالقار ففزعت واختبأت في ركن أحمي نفسي من الموت .
* * *
رأيتُ نفسي في مواجهة الجدار الأسود الكالح . أخذت أفكر في وسيلة أتسلق بها الجدار .
قلت مستجيراً بما وراء الجدار :
أنت أملنا الباقي ، فلا تخذلنا ، خذنا من هذا الأسر ، كفانا عذاباً وانتظاراً .
وضعتُ أذني على الجدار علني أسمع رداً ، لكنني لم أسمع سوى غناء الماء . رأيت انني أضرب الجدار ضربات قوية برأسي ، فينشدخ رأسي ولا أخترقه.
* * *
فتحت عيني على دويّ عنيف رجّ السفينة رجاً عظيماً . وكدت أتراجع إلى المؤخرة لولا انني تشبثت بعارضٍ خشبي . رفعت رأسي ببطء ، ورأيت ان السفينة قد جنحت على شاطئ مجهول .
ثمة جثة رجل طافية على الماء بالقرب من السفينة .. كان ممدود اليدين ، ووجهه إلى أسفل ، محاطاً بمئات الأسماك الصغيرة . قررت مغادرة السفينة والنزول على الشاطئ، لكنها كانت مهمة شاقة وعسيرة ، إذ شعرت بأنني سأموت قبل أن أنزل دون مساعدة من أحد .
كان الشاطئ هادئاً ، خالياً من أية حركة . مشيت كثيراً دون أن ألمح شيئاً سوى تكوّم الدخان الأسود الكريه في السماء ، والغيوم السوداء التي تحجب الشمس ، ورائحة حديد محترق . لعل هذا الموت قد حلّ في هذه الأرض أيضاً ؟ .
فجأة لاحت لي من بعيد أبراج مدينة ما . كانت الحرائق تستعر في كل مكان . كل شيء يحترق . اقتربت بوجلٍ فأبصرت ما روعني . كانت المباني مهدمة يتصاعد منها الدخان الأسود ، والجثث الآدمية متكدسة في الطرقات في أكوام رهيبة .
رأيت عيونهم قد سُملت ، ورؤوسهم هشمت ، وحناجرهم قطعت ، وجلودهم سلخت ، وأوصالهم مزقت . ثمة رجل مسن منزوع الأحشاء ، ومصاب بطلق ناري في صدغه . قنبلة يدوية لم تنفجر كانت موضوعة تحت جثة طفلة شقراء . علم أبيض مثقوب من كل الاتجاهات ، وتحته جثة امرأة مسنة بترت رجلها .
كانت الشوارع ملجومة بالصمت . لا حياة هنا . لا شيء سوى الحرائق والدخان والموت . أي بلاءٍ ، وأي خراب حلّ بهذا المكان ؟ .
أرهقني المشي . وبدأت أشعر بالآم مبرحة في جسدي كله . ماذا أفعل الآن ؟ . هل أعود إلى البحر ؟ . هل انتظر هنا كي أموت مثلهم ؟ . هل أتابع سيري فلربما ألقاه فينجيني من الهلاك ويشفيني من السقم ؟ .
بصعوبة عدت إلى الشاطئ ، وجلست مستنداً إلى صخرة مغطاة بسائل لزج أسود . اليأس يسحقني وهذا السكون الثقيل أوهمني بأنني أصبت بالصمم .
رأيت ريشة حمامة بيضاء طافية فوق الماء . تأملتها . مددت يدي ورفعتها . هل هذا كل ما تبقى من حمامة مسالمة ؟ .
تناهى إليّ صوت أنين آدمي متقطع . من أين يأتيني هذا الصوت ؟ . استندت إلى الصخرة الملساء كي أنهض ، إلا أن يدي انزلقت بسرعة فارتطم رأسي بقوة بالصخرة . صرخت من شدة الألم ، وانتصبت ببطء ، ووقفت مترنحاً ، واختلاج حار يسري في رأسي.
مشيتُ باتجاه الصوت ، فرأيت صليباً مرفوعاً باتجاه الشرق . دنوت من الصليب، فرأيت رجلاً مرفوعاً على خشبة الصليب مقطوع اليدين والرجلين مخضباً بدمائه . ارتعشتُ وتفرست في الوجه المصفر . إنه من أريد . لكن كيف يموت من هو مثله ؟ .
قلت مستدراً شفقته :
- لا تتخل عني ، أشفني ، أنقذني ، نجني من الهلاك . انزل من على الصليب وطهر هذه الدنيا وامنحها عدلاً .
لكنني لم أسمع أنينه فقد صمت إلى الأبد .
صرخت وأنا أعفر رأسي :
- لا تتركني هنا ، ستزهق روحي ، لا أريد أن أموت .
* * *
أخرجت الريشة البيضاء ، وغمستها في دمي ، وقذفتها عليه مودعاً .
* * *
رأيتُ انني وسط مرايا كثيرة تحيط بي من كل صوب . جلست على الرمل الحارق أرى كيف تلتفت المرايا إليّ وأنا في حضرتها .
سمعت المرايا تقول :
- أنت أفضلنا ، وأشرفنا ، وأكبرنا ، وليس في العصر من يوازيك ، فردّ أمرنا إليك ، وكن منقذ الأمة ، والقائم بالحق ، فإنا تحت سمعك ، وطاعتك ، والقائلون بما تراه ، يا أعلم الناس ، وأحكم الناس ، وأتقى الناس ، وأحلم الناس ، واسخي الناس .
نظرتُ إلى نفسي في المرايا فوجدتني مخلوقاً لم تر مثله عيناي . كان وجهي كالقمر الدري ، عليّ جلابيب من نور ، شعري حالك الظلمة يسيل على منكبي ، عيناي براقتان بلون العسل ، وشفتاي عقيق ريّان ، وخدي كالرمان ، وحاجبي كالهلال ، وجبهتي غرّة البدر ، كتفي بديعة ، وعنقي كالمرمر ، وقوامي مائس ، أحرك يدي فأنثر مسكاً ، وأحركها مرة أخرى فأنثر دنانير .
قمتُ ونكحتُ المرايا كلها ، فما بقى منها مرآة إلا ونكحتها بلذة عظيمة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى