أنس الرشيد - بلاغةُ الخُبث: (تأسيسُ الأخلاقِ على الخبث). المحاججة بالرغبةِ الميتافيزيقية.

في كتاب (حياة لثريودي تورمس)، الذي ترجمه عن الإسبانية عبدالرحمن بدوي. حكايةٌ في بطن حكايةِ؛ حملتْ في رحِمها سِمةَ المُحاججة بالرغبة الميتافيزيقية.
والحكاية المقصودة تقبعُ في بطن الرواية المؤطرة بــأن (لثريو) صبيًّا، ماتَ أبوه في الحرب، وعاش في كنف أمه وهي تخدمُ في فندقٍ ما. وفي يومٍ نزل في الفندق رجلٌ أعمى، اتّخذ من (لثريو) خادما له في طريق سفره. فحكايتنا تنتمي لبطنها من حيث السماتُ الكبرى، وتفارقها من حيث البناء المستقل في إطار المحاججة.

ومن خلال السرد يبينُ مرادي فأقولُ:
مرّ (لثريو) الصغير مع سيّده (الأعمى البخيل) على موضع ٍ يُسمّى (الموروكس)؛ وهي ناحيةٌ مشهورةٌ بالنبيذ؛ وقد كان وقتُ مرورهما وقتَ حصادِ العنب؛ لهذا أهدى أحدُ المزارعين للأعمى عنقودًا.
ففكّر أن يضعه في (الخِرْج) ليأكله وحده لاحقا..؛ (وهذا ما يتبادر - أولا- إلى ذهن البخيل؛ وهي أولُ درجة من درجات الخبث)، لكنه لم يستطع أن يُخزّنه؛ فالعنبُ ناضجٌ جدا، مما يجعل الحبّات تتفعّصُ وتُفسِدُ ما حولها.
هنا انتقل عقلُ البخيل إلى الدرجةِ الثانية من درجات الخبث؛ وهي (التلبس بالكرم)؛ فقرّر أن يدعو (لثريو) ليأكل معه العنب؛ متمثلا بقول: (إذا كان زادُكَ مأكولا فرحّب). وهذا المثلُ له سياق منطقي: وهو أن الترحيب متأخر عن الأكل. وسياق واقعي وهو أن الترحيب يسبق الأكل.
وقد كانت وسيلةُ البخيلِ الأعمى؛ لإقناع (لثريو) بأنه يعيش لحظةَ كرمٍ هي أنه ألقى على مسمَعِه قولَ : (سأجودُ عليكَ بمكرمةٍ، إذ سنأكلُ هذا العنقود معًا، وسيكون نصيبكَ مثلَ نصيبي).
هُنا أخذ ذهنُ البخيلِ يعملُ في الدرجة الثالثة من درجات الخبث؛ وهي (كيفية إدارة الأكل)؛ إذ ما الذي يضمن ألا يأكل (لثريو) أكثر منه؟! لهذا سارعَ لإبرام اتفاقٍ وهو أن يأخذَ كلُّ واحدٍ منهما (عنبةً واحدةً) في كلِّ مرة؛ حتى ينتهي العنقود؛ فنضمن العدل والمساواة!.
ولمّا بدآ يأكلان تحرك العقلُ البخيل مرتفعًا درجة رابعة وهي: (افتراض الغِش)؛ بحكم أن (لثريو) مبصرٌ وهو أعمى، فما الذي يضمن ألا يغشّه هذا المُبصِر؟
هُنا بادرَ الأعمى؛ بنقض الاتفاق فأخذ (حبتين) في كل مرة؛ واستمرّ الحال هكذا.. حتى انتهى العنقودُ. (فالبخيل هنا بادر بالغش ليحلّ سؤال : ما الذي يضمن ألا يغشه هذا المبصر؟! داوى سؤال الغش بالغش.)
هُنا تأكد البخيل الأعمى أن فرضيته في الخُبث استقامت على سُوقِها واشتدّ عودها؛ لهذا صرخ في وجه (لثريو) : يااا غشّاش. أتأكل الحبات ثلاثا ثلاثا. فأنكر (لثريو) ذلك.
فحاججه البخيلُ بالأساس الأخلاقي (الخبث) قائلا: لقد أكلتُ الحبات اثنتين اثنتين، ولم تقل شيئا. مما يعني أنك أكلت ثلاثا ثلاثا.
هُنا سكت الصغير (لثريو) شاهدا ببراعة حُجة الأعمى. (مع أن لثريو كان قادرا على أن يرفض هذه المحاججة قائلا: هذا لا يلزمُ - يا سيدي- فأنت لئيمٌ وأنا كريم؛ فلما نقضتَ العهدَ، لم أبادلك هذا النقض) إلا أنه بُهتَ معجبا ببراعة حجة الأعمى.
هذا السكوتُ شبيهٌ بسكوتِ (النمرود) لما قال له (إبراهيم): (إن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأتِ بها من المغرب) إذ كان بإمكان النمرود أن يقول (أنا آتي بالشمس من المشرق، فادع ربك يأتِ بها من المغرب). فما الذي جعل النمرود يغفل عن هذه الحجة؟!
هُنا نُشير إلى منطق المحاججة من داخلها؛ فالنمرود متلبسٌ بالإيمان من خلال فكرة الكمال المسيطرة على ذهنه، ويحيل مصدرها إلى كائن كامل هو الله؛ لهذا بُهت. مع أن السياق يُصرُّ علينا أنه سياق إلحاد. فالمحاججة أخذت طُرُقها إلى أعماق النفس واتصالها بالمجرد. لا من شيء خارجها لهذا غفل عن أي حُجة تنقض حجة إبراهيم. فكأن إبراهيم حاجج النمرود بأساسٍ أخلاقي، لا بمنطق برهان يقطع الحجة بطريق مغلق.
ولهذا هل يمكن أن يستقلّ الحِجاج عما يعتمل النفس من مؤثرات ميتافيزيقية؟
من هنا كان حوار إبراهيم مع الله؛ عندما قال إبراهيم:
ربِّ أرني كيف تحيي الموتى!
فقال الله: أولم تؤمن؟
قال :بلى، ولكن ليطمئن قلبي.
فقال الله: خذ أربعة من الطير فصرهنّ إليك، ثم اجعل على كلِّ جبلٍ منهن جزءا، ثم ادعهنّ يأتينك سعيا.
فسؤالُ إبراهيم عن (كيفية إحياء الموتى) وجواب الله (أولم تؤمن) ليس مطابقا لسؤال إبراهيم؛ إذ الإجابة هذه تُحيلُ إلى أن السؤال هذا لا ينبغي أن يُسأل؛ لأنه سؤال ملحد لا مؤمن. فإبراهيم كان بإمكانه أن يقول: لا علاقة للسؤال - لغويا- يإيماني، إنما أريدُ أن أعقدَ صلةً بين أفكاري وحواسّي.
إلا أن إبراهيم واصل الحوار مسلما بالإجابة. ولما أراه اللهُ الطيرَ وهي تقوم من الموت بُهت. مع أنه كان بإمكانه أن يقول: ياربِّ هذه ليست كيفية إحياء الموتى، وأنا لم أقل: أَحْيي الموتى أمامي. بل قلتُ: كيف تُحيي الموتى؟! إلا أنه بُهتَ من جراءِ سِحْرٍ حسيٍّ كان مصدره الثغرة الميتافيزيقية، التي صرفته عن سؤاله إلى إجابة أخرى؛ تجيب عن ثغرة أخرى ميتافيزيقية.
من هُنا نُشير إلى سكوتِ (لثريو) وهي تلك القناعات الداخلية التي أسكتته عن فرض حُجّته. وهذه القناعة هي أنَّ الخبثَ من شيم النفوس. (أو هكذا تريده الرواية بسرديتها في ظل درجات الخبث الأربعة)
ذلك هو العكسُ المستنبط –أيضا- مما يُحاجج به بعضُ المناطقة على وجود المبادئ الضرورية في عقل المولود؛ فيقولون: لو أتيتَ إلى صبيين فأعطيتَ أحدهما تمرة واحدة، وأعطيت الآخر تمرتين؛ لبكى صاحب التمرة الواحدة. ألا يدلّ ذلك على أن هذا الصبي يدرك أن الجزء أقل من الكل.
فيأتي السؤال من زاوية أخرى :
لمِ رضي صاحب التمرتين بالظلم؟



أنس

٥ آذار ٢٠٢٠م
  • Like
التفاعلات: فاطمة الفلاحي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى