محمد بشكار - اعْذُروا أُمِّيتي!

اعذروا أُمِّيتي، ولكنني لا أعرف داخل بلدي، اسم عالِمٍ واحدٍ في الطب والفضاء والذرة ولو لمْ يُقسِّمْها، ومن أين له وهو غير المعروف في موطنه بمُنْجز علمي نافع أنقذ البشرية، أنْ يصير ممن طبقت شهرتهم الآفاق، بينما الفَتاوى المُتناسلة يوميا من كل حدب وقب جلباب، جعلتني أعرف أسماء ما لا يُحْصى من الفقهاء، ومنهم التقي الزاهد ولو لمْ يجتهد، وأكثرهم مشعوذ يُدبِّج الأحجبة ويستحوذ بطرق غير شرعية على عقل الإنس مُدعيا طرْد الجن..أفَّاق!

اعذروا أُمِّيتي، فأنا لا أعرف أيضا عدد مراكزنا المتخصصة في البحث العلمي والتقني، أعلم أنها كثيرة ولكن تَشابُه أسمائها يزيد من ضعف ذاكرتي، ليْت أحد هذه المراكز ابتكر لقاحاً مُضادا لبعض الأوبئة التي قضَّت مضجع البشرية، فيروس كورونا مثلا، كنت بشهرته تبيَّنْتُ اسمه في كومة قشِّ المراكز العلمية التي تنتشر كالموائد في الأعراس، وما كنتُ شعرتُ بِأُمِّيتي التي تزداد جهلا باتساع سوق الاستثمار في العقول بالعالم، ولأنَّ أرضنا خصبة بطاقات ذهنية وفكرية كما بثروات في جيوب أخرى، فقد أيْقظتْ في بعض الدول المتقدمة كأمريكا وفرنسا الحنين للإستعمار، فحطت بمراكز للدراسات والأبحاث في الدول المغاربية، لقد فطنوا أن العقول أيضاً ثروات تعود بالنفع على من يحسن استثمار أو استعمار نبوغها، ولا غرابة إذا تَكرَّرتْ نفْس الحُجَّة دون برهان واعتبروها أدمغةً وُجدتْ في أرضٍ خلاء!

أعلم أننا بِتخلُّفنا من أهل الأمس، ومع ذلك أقول إنه غَدَا محتوما تقوية أجهزة الدفاع المناعية، بتشجيع كل الطاقات الشَّغُوفة بالبحث العلمي، الحرب اليوم غير الحرب، فقد تجاوزتْ في شرها حشْد الجنود وتوظيف أفتك الأسلحة وضِمنَها صواريخ ذكية من حيث التَّسْديد والتَّدمير عابرة للقارات، بل إن الحرب اليوم بيولوجية وجرثومية تضخُّ فيروسات عابرة لملايين الأجساد دون أن تُكلِّف دولاراً واحداً، يكفي أن يمُدَّ المريضُ أنفه بالعطس أو يده باللمس، لِيُزْهِق أرواحاً هو من ذنبها بريء!

وإذا كانت الحرب التقليدية تستدعي صناعة الأسلحة التي صارت نووية، فإنَّ الحرب البيولوجية اليوم والتي يمكن لبلدٍ أن يستهدف بوبائها بلداً عدُواً، تتخذ من المختبرات العلمية معسكرات لصناعة الأمراض وتصنع معه طبعاً مُضادَّاته الحيوية لتقِي نفسها في حالة ارْتِداد الخطر، اعذروا أُمِّيتي فأنا منْ بلد على كثرة مراكزها العلمية لا أعرف إلا مجالس الدين العلمية البالغ عددها تسعة عشرة مجلسا، ومع أنَّ الدين لا ينفصل عن الدنيا بل إنهما شقيقان من حيث الرضاعة اللغوية في كل الأحرف، إلا أنه لا ينُوب البحث العلمي والتقني سوى فتاتٍ تُقدَّر نِسْبته المئوية في أحسن المبالغ بصفر تليه فاصلة، بينما تُخصِّص الدولة من جيوبنا باعتبار أن الآخرة خيرٌ من الأولى 162.570.000,00 درهم للمجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية، وهو رقم هزيل رغم كثرة أصفاره الأشبه بالأضلع البارزة لمريض فتك بجسده فيروس كورونا، لأن ثمة مبالغ مرصودة لشؤون دينية أخرى كالمنشورات والتأطير بالمساجد والأماكن الروحية والتعليم العتيق وترميم الخراب والجمعيات والمؤسسات الإسلامية، والشبكة الخاصة بالمساجد مع توفير نجاعتها الطاقية أيضا، وتُكلِّف هذه المرافق الدينية أرقاما لم تُسعفني أمِّيتي لِعَدِّ كميتها بسبب كثرة الأصفار، أذكر مثلا:
- مجموع اعتمادات ميزانية التسيير: 3.284.117.000,00 درهم.
- الاعتمادات المسجلة برسم ميزانية الاستثمار 1.108.554.000,00 درهم.
المهم اللائحة طويلة وقد قعد الشيطان في أسفلها وهو يُوسْوس في أذني: هل رأيتَ كم هي علاقة الإنسان بربِّه مُكلِّفة وباهظة، لكنني أخْزَيْتُه خشية أنْ يُزعزع إيماني، وفكرت في كورونا وما سبقها من أنفلونزات وما سيليها من حروب وبائية، ثم قلت في نفسي إننا مع عقولنا المُهْملة والمهدورة خارج المختبرات العلمية، ومع ضعف الميزانية المُخصَّصة للبحث العلمي بالمغرب والتي لا تحرك شعرة في أقرع لابتكار طاقية، ومع الورق الذي يذبل في الشجر دون أن يجد من يُحوله لمجلات تنشر الأبحاث العلمية المواكبة لاقتصاديات العصر المتطورة، ومع غياب الأساتذة المتخصصين لمراجعة البحوث العلمية للطلبة على مدار السنة، ومع المِنح الهزيلة التي يُقدمها مركز البحث العلمي أو وزارة التربية الوطنية و التعليم العالي، مع هذه الوضعية المأزومة التي تجعل الأدمغة المغربية مشلولة تفكر في عكاز، لا نملك في خضم حرب الأوبئة العالمية والأحوج لتجييش جنود علماء لمواجهة المرض.. إلا مدّ الأكف بالدعاء و الألسنة ببلاغة الوعظ!

(افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليومه الخميس 5 مارس 2020)


L’image contient peut-être : 1 personne

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى