د. محمد البدوي - هل ما زال للشعر سوق ، أم انتصر الشعير على الشعر ؟

لا أحد من المطّلعين على السّاحة الأدبيّة في تونس ينكر تمكّن عبد الواحد السويح من نصّه الشعريّ رغم كل العدول الذي صار يمارسه فيما يكتب وينشر في الصفحات الاجتماعية، فرصيده الإبداعي نثرا وشعرا، وحضوره المتواصل، واشتراكه مع زملائه في تأسيس حركة "نصّ" والتنظير لها، يجيز لنا أن ننطلق في قراءة هذا الكتاب الجديد من جملة من المسلّمات...
إن إيقاع هذه المجموعة الشعرية ومناخاتها مختلف عمّا ألفناه فيما تنشره الساحة خلال العقود الأخيرة، فلم تكن النصوص الشعرية موقّعة على تفعيلات الخليل رغم تمكّن السويح منها، وعوّضها بإيقاعات داخلية متنوعة تقوم أحيانا على تحويل التركيز من حرف الرويّ والقافية إلى جملة من التّرديدات لنفس المكوّن المعجمي في أوَّل كلّ سطر شعري، لأنه يحوّل مركز الاهتمام من إيقاع القافية إلى إيقاع الصورة أو الفكر كما في قصيدة "ما" التي تتحد فيها الأسطر الشعرية مع عبارة "قد أقرأ..." ، أو "العمياء" (كيف) و"رحيل" (باستثناء) و"ندم" (أعتذر) والفقرة العاشرة من " وصايا" (لا تصم) وقد تشتغل بعض النصوص على القفلة وتحويل مركز الاهتمام إلى آخر النصّ، فيتحقق عنصر الإدهاش ويكون الاختلاف كما في قصيدة "بيتان" و"دنيا" ،
والمتأمّل في نصوص هذه المجموعة يلاحظ اعتمادها على عنصر السرد، وتحطيم الأسوار القائمة بين فنون القول الأدبي، فيوفر لهذه الفقرات الشعرية عناصر جذب المتقبل وإغوائه لمتابعة النفس السردي والبحث عن بقايا الحكاية ، فتتعدد الأفعال، ويحضر سرد الأقوال والأفعال على حساب سرد الأحوال كما في نصّ "قصة قصيرة" أو "أجنحة" أو "كرة" و"حياة" و"ليلة العيد" وفي جميعها احتفال ببعض تفاصيل الطفولة الضائعة، وما كان فيها من فقر وخوف وأحلام، وفي أغلب النصوص الواردة في هذه المجموعة نجد نواة قصصيّة يمكن أن تكون منطلقا لعمل سردي أكثر تفصيلا.
والعارفون بتفاصيل الشاعر يدركون حجم ما يؤلف بين هذه المجموعة وما ينشره في صفحته بالفيس بوك وهو يمارس فيها حريته ويصدم المتلقي بجملة من الصور والعبارات التي وإن كانت معبّرة في حد ذاتها، فإنها تبدو نافرة تصطدم الذائقة الاجتماعية ومنظومة القيم الموروثة وتنتصر لما يُعرف بجمالية القبح ، لأنها تتعامل مع المسكوت عنه كما في قصيدة "هذا اللعين" و"استمناء" و"سلّة المهملات" و"سلّة الزبالة" و"في غرفة الانتظار" و"خطيئة" وتصبح العبارات النابية كأنها عادية ويتصدر النشاز المشهد وفي ذلك احتجاج على كمّ الرداءة التي صارت تغزو حياتنا، فالقبح والبذاءة والخور يغزو الحياة اليومية للناس في العمران والسلوك ولغة التخاطب وطريقة التصرف ، فهل سيسلم التعبير الأدبي من هذا السُخف؟
لا أشك في أن الشّاعر لا ينتصر لهذا الكمّ من القبح، ولكنّ إيراده في النص الأدبي من شأنه أن يكون صرخة وصيحة فزع حتّى ينتبه الناس لهذا الجيل الذي يعيش تهميشا بسبب سيطرة السابقين على المشهد الأدبي والثقافي والسياسي والاقتصادي... فتأتي هذه التعبيرات الفردية الصادمة في اللباس والموسيقى والفنون صرخات احتجاج حتّى يُقرأ حساب لهذا الجيل الجديد ويأخذ حظه من التعبير عن طموحاته وهواجسه، وليس غريبا أن يقوم الشاعر بتوظيف بعض التفاصيل المرجعية المتّصلة به كالاسم واللقب والمهنة وأسماء الأماكن وأشياء أخرى فيما يشبه فقرات من السيرة الذاتية:
لستُ أيّوبا يا اللّه / أنا عبد الواحد السوّيح/ رجل طيّب إلى أبعد الحدود /لا أفكّر كثيرا بالجنّة / أريد فقط بعض السّعادة/ فيما تبقّى لي من عمر
إن قصائد هذه المجموعة وإن تمرّدت على المألوف من القول والقيم، فهي لم تأت من فراغ، فصاحبها متمكّن من العربية وآدابها القديمة والحديثة وتمرّس بنصوص كبار الكتاب، وهو اليوم يبحث عن طريق بكر لم تسلكها الأقدام ولا الأقلام من قبل، فهل سيكون له ما يريد ويكون له مريدون ويحقق فتحا جديدا في دنيا الكتابة ؟ أم هي الساحة اليوم يُلهيها الشعير عن الشعر ؟
محمّد البدوي



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى