شيخة حليوى - عشرون، بل أكثر (في المحطّة الأخيرة)

وقفتُ في حديقة الملجأ أكثر من ساعة.

وقفتُ دون حراكٍ أنا وحقيبة جلديّة تتدلّى من كتفي. بماذا كنتُ أفكّر قبل أن أقدمَ على ما فعلتهُ لاحقا؟ في الحارس الّذي بلع ريقه مرّتين وهو يقلّب محتويات الحقيبة؟ لم يسأل ولم أقدّم تفسيرا. ولماذا يسأل؟ ألم يعتد على غرابة الزوّار العابرين من بوابة حديديّة عملاقة وسور ضخم بشع إلى عالم آخر؟

-إنّها المحطّة الأخيرة.

هذا ما قالتهُ عاملة الشؤون الاجتماعيّة دون أن تنظر إلى وجهي، ثمّ كرّرتها وهي توقّع بكلّ برود على أوراق النقل.

- إنّها المحطّة الأخيرة.

ماذا يفعل الناس فيها؟ ألا ينتظرون مثلا كما في محطّات ليست أخيرة؟ لم تُجب عاملة الشؤون الاجتماعيّة عن سؤالي، ليس من اختصاصها أن تعرف ماذا يفعلون هناك، فوظيفتها تتلخّص في التوقيع على أوراق نقل الناس إلى هناك.

بلى، ينتظرون العدم واللاشيء. ومنى تُتقن انتظار العدم، منذ سنوات وهي تفعله.

لهم برنامج ميّت هنا بمواعيد ثابتة ثمّ تتحجّر وجوههم في الغرف البيضاء وفي قاعة الطعام وفي حديقة الملجأ (ليست بائسة كما يليق بالمكان) وفي الليل وهم يحدّقون بالسّقف.

بماذا كنتُ أفكّر وأنا أقف هناك في "المحطّة الأخيرة"؟ في كلّ ذلك.

تخيّلت وجه منى مُتحجّرا في غرفتها البيضاء، في قاعة الطّعام، في الحديقة وفي الليل وهي تحدّق بسقف الغرفة.

كُنت ما زلت أحملُ الحقيبة الجلديّة. لم أستطع أن أحدّد مشاعري تجاه أيّ شيء، كان الأمرُ غريبا ولكنّه مريحٌ جدّا؛ ألّا أشعر بأيّ شيء. بقيتُ واقفة لساعة أو أكثر والأحداث تمرُّ أمامي مُتداخلة، سريعة وغير مُكتملة. كان ينقصني أن أرفع إصبعي وأضغطَ على حدث ما ويتوقّف عند صورة جامدة.

- منى طفلة بجديلة تتراقص على ظهرها وعينين خضراويْن باردتيْن.

- منى تنظر مباشرة نحو الشمس إلى أن تدمع عيناها. تحاول أن تنفلت من يدي وهي تحجب عنها أشعة الشمس القاسية.

- منى نائمة في سريرها. جميلة

- منى تصرخ كالمجنونة، كالمجنونة؟ أقصد تصرخ بهستيريا. ما الذي كان يزعجها وقتها؟

- منى تختارُ طقما جديدا من الملابس الداخليّة للمرّة العاشرة، العشرين، المئة.

- طفلتك تعاني من إعاقة عقليّة.

- ماذا تعني؟

- طفلتك مُعاقة عقليّا.

- ولكنّها جميلة، بل رائعة الجمال.

- صحيح.

لم يقلْ إنّها المحطّة الأخيرة، وهي كانت كذلك منذ خمسة عشر عاما، وأنا كنتُ معها فيها.

كُنتُ أستعرض تلك الصّور وأنا أقفُ وحقيبتي الجلديّة نواجه المبنى الشاحب القديم. لم أفكّر فيها، استعرضتها فحسب، وتوقّفت عند بعضها. كُنت أسمع الأصوات الآتية من الداخل، داخلي أنا، المبنى كان صامتا شاحبا.

اتّصلت بي مديرة المدرسة الخاصّة الّتي كانت منى ترتادها منذ عشر سنوات وقالت بصوت يرتجف: أرجو أن تأتي إلى المدرسة في الحال. صوت منى وصلني أيضا، ربّما لم يكن صوتا بل كان نحيبا متقطّعا ونواحا مُفجعا. خرجتُ من العمل مسرعة وليس في ذهني سيناريو محدّد لما قد حدث.

في غرفة المديرة حاول معلّم ومُعلّمة تهدئة منى الّتي تكوّرت في إحدى الزوايا وتثبيتها في مكانها. تراجع نواحها حينما رأتني، وحلّت مكانه نظرة زجاجيّة باردة تناثرت في وجهي. تصدّعتُ.

قالت المديرة مرتبكة: لا أعرف ماذا أقول لك، منى استغلّت خروج المعلّمة من الصف وخلعت ملابسها وظلّت بملابسها الداخليّة وراحت تعرض نفسها على زملائها وتقبلهم، كانت تسألهم هل تتزوّجني؟ عندي عشرون طقما ورديّا من الملابس الداخليّة. بصعوبة بالغة سيطرنا عليها وألبسناها ثيابها وها أنت ترين حالتها.

- قبل يوميْن تسللتْ إلى مدخل الشّقة ووقفتْ هناك بملابسها الداخليّة تسأل المارّة: هل تتزوّجني؟ وقبل أسبوع اقتحمت غرفة أخيها وقالت لصديقه الذي كان يزورنا للمرّة الأولى: هل تتزوجني؟ كانت ترتدي طقما حريريّا أبيض من الملابس الداخليّة. انهار أخوها. لم يكلمني منذ أسبوع. اشتريت لها الكثير منها، الكثير الكثير، عشرة، عشرين ربّما أكثر.

قلت كلّ ذلك دون توقّف ودون أن أرفع عينيّ عن منى، طفلتي المسكينة، طفلتي المُعاقة، طفلتي المجنونة، طفلتي الجميلة.

كان الجميع ينظرُ إلي بفزع.

أخذت منى وخرجتُ من المدرسة التي أحضرتها إليها قبل عشرة أعوام، مدرسة المجانين كما يُسمّيها أهل الحيّ وسائقو حافلات الطلاّب (المجانين) وعمّال النظافة المقهورون وزميلتي في مدرسة العقلاء. المعلّمون كانوا يباهون بأنّهم يعملون في مدرسة لذوي الاحتياجات الخاصّة وهي رسالة عظيمة. أنا لم أتبنَ أيّا من التسميتيْن، هي مدرسة طفلتي منى، طفلتي التي تجاوزت عامها الثامن عشر. وستبقى مدرسة طفلتي منى حين أمرّ بها بعد أعوام من الآن، حتّى بعد أن لفظتها خارجها بسبب "سلوكيّات غير سويّة" أو "تدهورٍ مُفاجئ" أو ربّما " نهاية مُتوقّعة" كما شخّصها أطباء هذا الملجأ، المحطّة الأخيرة.

هم لا يعرفون شيئا، لا يعرفون أنّ طفلتي كانت تحلمُ بالزواج، أقصد بالزفاف وفستان العرس وطقم ورديّ من الملابس الداخليّة. لا يعرفون أنّها كانت تطلبها بهستيريا وكنت أُلبّي باستسلام وصمت.

تذكّرتُ وأنا أقفُ هناك في حديقة الملجأ أنّ طفلتي لم تعدْ طفلة، وأنّ الدواء الّذي وصفوه لحالتها سلب جمالها وأنّ ملامحها المتحجّرة تفزعني. هوّة عميقة سقط فيها قلبي. خرجتُ من البوابة العملاقة، وفي الشّارع أفرغتُ الحقيبة وكوّمت الأطقم البيضاء والورديّة في زاوية عند السور وأضرمتُ فيها النّار.

- إنّها عشرون، مئة، بل أكثر.

هل هذا ما تمتمت به منى ونحنُ ندخلُ إلى الملجأ قبل أيّام؟

لم تكن طفلتي تعرف العدّ أكثر من عشرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى