عبدالرزاق دحنون - المستطرف السياسي في كتاب الفلسطيني عارف حجاوي

أعتقد -والله أعلم- أنني أتحدث عن صيف عام1997 وكنت أعمل يومها في إمارة أبو ظبي في قرية زراعية صغيرة اسمها "الشويب" على حدود سلطنة عُمان نحط رحالنا في "كرفانات" خشبية هي للسكن والمكاتب والمخازن والورش فتقوم قرية صغيرة تنتهي مع انتهاء مشروع الطرق والخدمات الأرضية التي تُنفذها شركة سيف بن درويش التي أعمل فيها. وبما أننا نتحدث عن المستطرف في السياسة من خلال كتاب "غلط غلط" للفلسطيني الهمام عارف حجاوي، فلا بأس أن نذكر حكاية هذه القرية.

تقع قرية "الشويب" الزراعية في قاع وادي عميق عند أقدام جبل شاهق من سلسلة جبال عُمان الداخلية على ثغور دولة الإمارات العربية المتحدة والجبال هُناك ذات صخور بركانية سوداء لا ينبت فيها الشجر. هبت عاصفة مطرية في إحدى تلك السنين وفتحت السماء، فجأة، قرب الماء، فسالت الأودية وغرقت قرية "الشويب" في الرمل والماء. خربت البيوت وتكسرت السيارات وماتت الأبقار والجواميس والجمال والأغنام والماعز، وغطى الرمل المتراكم مزارع البندورة والخيار والباذنجان والذرة الصفراء.

أُخبر رئيس الدولة الشيخ زايد آل نهيان بذلك، فجاء بطائرة مروحية لمعاينة الكارثة. وسأل شيوخ القرية لماذا تعيشون في قعر الوادي وتتركون هذه المرتفعات الرملية الجميلة؟ أجابوا: نحن نعيش هنا قبل النفط لخصوبة الوادي حيث نزرع الخضار ونربي الماشية. كان الشيخ زايد يسير حافياً على الرمل متكأ على عصاه، فالتفت إلى مساعده وقال: ابنوا لهم قرية جديدة هناك -وأشار بعصاه إلى التلال الرميلة المحيطة- وسلموها لهم دون مقابل تعويضاً لهم عن قريتهم القديمة.

في تلك الصحراء الشاسعة بعيداً عن صخب المدن كان الأنيس راديو ترانزستور صغيراً بحجم الكف استمع منه إلى إذاعات العالم ومنها إذاعة لندن حيث تعرفت إلى الجاحظ الفلسطيني عارف حجاوي من خلال برنامج يحكي فيه عن موسيقى الشعر وأهله وذكر في تلك الأمسية الملحن والمغني اليساري المصري الشيخ إمام مستشهداً بأبيات من قصيدة يغنيها كتبها أحمد فؤاد نجم، فأحببت عارف حجاوي لأنني من المعجبين بالشيخ إمام. وقد كتبتُ عنه أكثر من مرة. ومات صيف عام 1995 وأنا أعمل في الإمارات العربية المتحدة، وقرات نعيه في جريدة الخليج التي تصدر في إمارة الشارقة والتي كنتُ أكتب في صفحاتها الثقافية بين أعوام 1992-1999.

في كتاب "غلط غلط" يتشبَّه عارف حجاوي بأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ -إن التشبه بالكرام حميد- وذكَّرني بالأديب السوري الساخر حسيب كيالي في أحاديثه الإذاعية في إذاعة دمشق ومن ثمَّ في إذاعة دبي حيث كان يُقيم. يقول الرجل في تقديم كتابه:

عزيزي القارئ، كنت ألقيتُ فصولَه، فصلاً في كل يوم، من إذاعة "أجيال" في رام الله وكانت عامئذٍ، عام ألفين وثلاثة، الإذاعة الأولى في فلسطين، وأحسبها -وأنا أحرر هذه المقدمة في عام2014- لا تزال كذلك. هذه مئتان وثمان وستون حلقة هي كل ما أذيع من برنامج غلط غلط، وكما أذيع، وبنفس الترتيب. أنفقت على نص هذا الكتاب ساعات كثيرة تدقيقاً وتشكيلاً، في أيام "الثلجة الكبيرة" في كانون الأول/ديسمبر 2013، وكنت أودُّ لو حذفت منه بعض الحلقات المرتبطة بأحداث لفَّها النسيان، أو لو أضفت ملاحظات إيضاحية، ولكنني لم أفعل هذا ولا ذاك، وآثرت أن أُبقيَ النصَّ على حاله مثلما أُذيع.
عارف أحمد حجَّاوي رام الله يناير/كانون الثاني 2014

يستحسن عارف حجاوي هذا الكتاب ويمدحه كثيراً في جلساته الخاصة والعامة. وله الحق في ذلك، ففي الكتاب لغة عالية حملت على ظهرها حياة العامة في الشارع والمقهى والبيت والمؤسسة والدائرة الحكومية والجامعة وسوق الخضار، وقدمتها في باقات من الحكايات والقصص والملح، منخولة العبارة، عميقة المضمون، "بسيطة كالماء واضحة كطلقة مسدس" على حدَّ تعبير الشاعر السوري رياض الصالح الحسين. اقرأ معي هذه المختارات السياسية الطريفة من الكتاب بعد أن تصرفت قليلاً في بعضها دون التعدي على اسلوب عارف حجاوي لأن التعدي على لغته الرشيقة ولفظه المُستأنس الرقيق جريمة لا تُغتفر.

أحمد فؤاد نجم

جاء الكاتب الساخر أحمد رجب ومعه شاب مهلهل الثياب قميصه فيه زر آه وزر لا. وفي رجله صندل مربوط بخيط قنب حتى يتماسك، ولا يكاد. وشكله عاميٌّ وأمّي، وهو فلاح من الشرقية. عندما وصلا. قال الكاتب أحمد رجب، لأحمد المهركل المشعث: روح اعمل لنا شاي. أحمد فؤاد نجم قال لنفسه: لا أدري لماذا أحضر أحمد رجب هذا الصعلوك معه. ثم جلسوا يشربون الشاي.

أحمد المسكين جلس على الأرض، والأحمدان الآخران جلسا على كرسيَّين. قال أحمد رجب لأحمد فؤاد نجم: أحمد ده بقول شعر. وطلب منه أن يقول قصيدة من الشعر الشعبي. فقال أحمد المهركل: "سنين العزيز رجعت بقحطها المعروف" وهو يتحدث عن الفقر ويشبِّه هذا الزمن بزمن عزيز مصر عندما حل القحط بالبلاد ثم جاء يوسف عليه السلام فأنقذ مصر من القحط بحسن تدبيره. قال أحمد المهركل:

سنين القحط
رجعت بقحطها المعروف
والفقر عمَّ البلاد
قوم يا يوسف شوف
رحنا نجيب الدرا الصفرا
وقفونا صفوف

والذرة الصفراء كانت طعام الدواجن في مصر أيامئذ، ثم حل الجوع ذات عام صار الناس يقفون صفوفاً ليحصلوا عليها. عندما سمع أحمد فؤاد نجم هذا المقطع نزل عن كرسيه، وصار يزحف على ركبتيه ويديه، وجلس قرب الشاعر الشاب الفلاح. وقال له: سامحني.

مارغريت تاتشر

الإعلام الحر يخدم البلد كثيراً. شهدتُ بأم عيني كيف أسقط الإعلام البريطاني مارغريت تاتشر المرأة الحديدية. كانت فعلاً تحكم قبضتها على السلطة، وفي عام 1990 وبعد ثلاث فترات متوالية في رئاسة الحكومة أُسقطت بتصويت حزبي حكومي. كان التلفزيون والصحافة لا يوفران فرصة في عهد تاتشر لتبيان عيوب حكمها. في كل يوم كان هناك انتقادات ونشرٌ لمعلومات وتحقيقات متلفزة وصحافية. بعد أن سقطت تاتشر أعطوها أرفع لقب: صارت البارونة تاتشر. ولم يعد أحد ينتقدها في الإعلام. إعلامنا العربي ليس جريئاً ولا صادقاً، ولكنه محترم كل الاحترام. حتى عندما يصادف أن تفعل الحكومة شيئاً جيداً كأن تطرد مديراً عاماً لأنه اختلس، فالإعلام يصرُّ على التزام الاحترام، ولذلك يورد النبأ بان المدير الفلاني استقال لأسباب صحية.

شطرنج

جلس رجل عربي وأمامه رقعة الشطرنج، ورصف عليها القطع. وجعل لنفسه الحجارة البيض. وصار يلعب وحده. وأخذ يحرك جنوده، ويناور بالفيل والحصان والقلعة والوزير. يلعب وحده. وأخذ يقتل جنود عدوه، ويستولي على القلاع. ثم وزير العدو. ثم كش. مات الملك. وربح اللعبة. مبروك.
في عام سبعة وستين حضرتُ هذه اللعبة على الراديو. أما المحطة فهي صوت العرب من القاهرة. وأما المذيع فهو أحمد سعيد المشهور. كنتُ اتابع معه سقوط الطائرات الإسرائيلية. أتذكر أنني بلغت رقم ستة وسبعين. إسقاط ستة وسبيعين طائرة إسرائيلية. وماذا عن خسائر العرب؟ لا يوجد. وبعد قليل دخلت الدبابات شوارعنا. تعرفون القصة طبعاً. رفضنا ان نصدق أنها دبابات إسرائيلية، وصفقنا لها. رغبنا في أن تكون دبابات عربية جاءت لتحرر يافا وحيفا. وسررنا جداً من الحيلة الذكية للجيوش العربية، فقد رسم القوم على الدبابات نجمة داود السداسية حتى يضللوا الإسرائيليين. بقية القصة معروفة.

كلبة الرئيس الأمريكي

كان الرئيس الأمريكي ليندون جونسون منطلقاً منفتحاً عالي الصوت آمراً ناهياً، ككل رئيس أمريكي. زاره في البيت الأبيض رئيس دولة عربية ومعه وزيران. وعلى مائدة الغداء تناول جونسون الفنجان وسكب فيه قليلاً من الشاي، فما كان من الرئيس والوزيرين الزوار أن فعلوا فعله. ثم تناول جونسون إناء القشدة وصب منه الكثير فوق الشاي، ثم وضع في الكوب قدراً من الزبدة وصار يحرك بالملعقة تحريكاً شديداً. والزوار الثلاثة يفعلون مثله. خطوة بعد خطوة. ثم نظر جونسون حواليه وصار ينادي على كلبته فجاءت، فوضع الكوب على الأرض أمامها. ولعقت الكلبة ما في الكوب بشهية، ولعق الضيوف ما في أكوابهم.

مظفر النواب

لقيته في دار صديق في غرب لندن. وفي تلك الجلسة ذكر لنا أحد الحاضرين كيف نشل النشالون شاعرنا في صبيحة ذلك اليوم. فقد أتى إلى عاصمة بلاد الإنكليز بستة آلاف جنيه استرليني في حقيبة، وقد نشلت منه. لم يبدُ على المظفر أي تأثر. وجلسنا، وسهرنا، وكان معنا مطرب عراقي يتقن الأولوان الشعبية من الغناء، فبدأ يغني بصوت شجي وقوي هزَّ أركان البيت، وهزَّ القلوب بما فيه من عذوبة، وناهيك بالغناء العراقي! وكان هذا المطرب يحثُّ المظفر أن يغني. كان مظفر النواب في الستين من عمره تلك الأيام، وهو يعزف البيانو، وله بالموسيقى علاقة.

كان المظفر يرجئ الغناء، ثمَّ بعد حين بدأ يهمهم. وانطلق يُغني أغنيات شعبية عراقية، وسكت ذلك المطرب، وسكت كل من بالدار. خشعوا خشوعاً لهذا الصوت الهادر الجميل. عندما كنتُ سمعت المطرب الذي غنى أولاً ظننتُ أنه ليس في الدنيا صوت أقوى ولا أحلى منه. وعندما سمعت المظفر يغني أيقنتُ أن المواهب من عند الله يمنحها من يشاء بالقدر الذي يشاء. غنى المظفر بعد ذلك أغاني لأم كلثوم من ألحان زكريا أحمد، ومن ألحان بليغ حمدي. وكان طيب المحضر مليئاً بالعاطفة، وبالعمق، وبالكبرياء.

بعد حين التقيت مظفر النواب في مقهى من مقاهي الشوارع في لندن. كان حائراً زائغ النظرات، مرتبكاً. سألته عن الأمر، فقال إنه فقد دفتر شعر كان دوَّن فيه بعض قصائده. رأيته في ذلك الصباح قلقاً لا يفكر في شيء سوى دفتره الضائع. فقلت في نفسي: سبحان الله، هذا الرجل لم يكترث لستة آلاف جنيه استرليني ضاعت منه. وها هو بائس لضياع دفتر شعر. ولعلكم تريدون معرفة هل عثر على الدفتر أم لا؟ حسناً، لقد عثر عليه. ولعلكم تريدون أيضاً قراءة بعض أبيات مظفر النواب، ولا سيما تلك الأبيات التي يقول فيها: القدس عروس عروبتكم؟ حسناً ها هي:

أقسمتُ بتاريخ الجوع ويوم السَّغَبةْ
لن يبقى عربيٌّ واحدُ
إن بقيت حالتنا هذي الحالة بين حكومات الكَسَبةْ
القدس عروس عروبتكم؟
فلماذا أدخلتم كلَّ زناة الليل إلى حجرتها
ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب لصرخات بكارتها
وسحبتم كل خناجركم
وصرختم فيها أن تسكت صوناً للعرض
فما أشرفكم
هل تسكت مغتصبةْ
لستُ خجولاً حين أصارحكم بحقيقتكم
إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم
تتحرك دكة غسل الموتى
أما أنتم فلا تهتزُّ لكم قَصَبةْ.

تحميل كتاب غلط غلط عارف حجاوي رابط مباشر:

المنعطف مع عارف حجاوي:

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى