أحمد بطاح - الرواية الصحراوية والمدينة

الرواية بنت المدينة؛ لقد ظل هذا القول قائما منذ هيغل، حيث ربط كغيره نشأة الرواية بقيام المجتمع البورجوازي الذي أسهم في نشأة المدينة بمفهومها الحديث. ومن ثم عمل الفن الروائي على رصد تناقضات المدينة وأوجاعها وهمومها وهي تئن تحت وطأة دخان المصانع والحركة السريعة وزحف العمران وتحول المساحات الخضراء إلى اسمنت، إنها غول يلتهم كل شيء بلا رحمة. في خضم هذه الدوامة ارتمى الإنسان محاولا الاستفادة من المدينة، لكنه، في الوقت ذاته، سيجد نفسه أبرز ضحاياها. لقد اشتغل الفن الروائي خاصة في الحقبة الواقعية على رصد صراع الإنسان والمدينة، وهو ما تجسد بشكلي جلي وواضح في الأدب الفرنسي والإنجليزي والروسي، الذي حاولت فيه مجموعة من الروائيين الوقوف على الصراع القائم بين شخصياتهم ومدن باريس ولندن وسان بطرسبرغ، خاصة الصراع المتمثل في شخصيات الأرياف التي تهاجر إلى المدينة لتصطدم بواقع مغاير. وحتى بالحديث عن الحقبة الرومانسية، فإننا سنجد تأثير المدينة على هذا الاتجاه الأدبي، إن الرومانسية بوصفها هروبا إلى الطبيعة هي محاولة للتحرر من المدينة، من وطأة الاسمنت، من العلاقات الجافة التي أصبحت تحكمها.
ولذلك شكلت المدينة مرتعا خصبا للرواية على مستويين، المستوى الأول يتجسد في المدينة كفضاء للرواية، بحيث تعتبر ذلك الوعاء الذي يلم أحداثها، وتدور فيه رحى هذه الأحداث، بحيث تصبح المدينة حلبة للصراع الوجودي والاقتصادي والاجتماعي، فالمدينة أم التناقض، ومحور الصراع الطبقي، كما أنها مكمن طرح الأسئلة الوجودية، نظرا لما تبعث من قلق وضغط وكآبة. وهي الفضاء المفتوح على المستقبل. لقد جسدت القاهرة، على سبيل المثال، دائرة الأحداث في روايات نجيب محفوظ، الذي سعى إلى رصد واقع هذه المدينة، وصراع الفرد مع الوجود فيها، فكانت مدينة القاهرة الخيط الناظم لمجموع ما أنتجه نجيب محفوظ، وحتى حينما سئل لم لم يكتب عن الريف أجاب قائلا: أنا ابن المدينة. أما المستوى الثاني فيتجسد في المدينة باعتبارها مصدر إلهام، حيث إن الروائي الذي يعيش في المدينة فهو يعيش في نهر جارف، إذ لا يمكن أن نستحم في النهر مرتين، فالمدينة هي الحركة والتسارع والتجدد المستمر، عكس الريف الذي يحمل معاني الركود والجمود. إن المدينة تجر الكاتب للكتابة، وتدفعه إلى معالجة التناقضات التي يعيشها بشكل يومي. كما أن في المدينة يكون الكاتب أقرب إلى مستجدات الحقل الروائي، فهي المكان الذي تقام فيه الندوات وهي الفضاء العمومي الذي تطرح فيه القضايا الأدبية للنقاش، وهي المكان الذي يحوي المكتبات والمعارض. ولذلك فإن الروائي الذي يسكن المدينة الحديثة يكون أكثر حظا في إيجاد مواد دسمة للكتابة، وفي تكوين ذاته باستمرار، وفي خلق علاقات تخرجه من دائرة الغمور إلى دائرة الشهرة.
وبالحديث عن المدينة في الصحراء الغربية-جنوب المغرب، فلا نكاد نجد في هذه البقاع مدينة بالمعنى الحديث للمدينة، خاصة ونحن أمام "مدن" تكونت مؤخرا، لا يكاد عمرها يتجاوز القرن على أبعد تقدير. ولذلك فهي مدن لم تراكم من عبق التاريخ شيئا، وتبدو أشبه بمدن ميتة، خاصة إذا قارناها بالمدن العتيقة التي كانت مهد حضارات متعددة، ولذلك فإن علاقة الروائي بهذه المدن هي علاقة جافة لا تتجاوز نوسطالجيا الطفولة والشباب، إنها مدن بلا قلب، فاقدة للحميمية. ومن ناحية أخرى، فإن هذه المدن لا تعيش صخب المدن الحديثة، إنها مدن أبعد من أن تكون مدنا مليونية، فعدد سكانها لا يتجاوز عدة آلاف، لذلك فهي لا تصلح أن تكون مادة دسمة للرواية، ولا تدفع للكتابة بقدر ما تنتج من روتين وركود وجمود، ناهيك عن كون الروائي فيها شخص مقطوع السبيل، فلا جامعات ليطور فيها معرفته ويطلع على ما استجد في الحقل الأكاديمي الروائي، ولا ورش ليطور فيها أداءه في الكتابة، ولا ندوات ليحرر فيها ذاته ويخوض في نقاشات أدبية. ليبقى فضاء التواصل الاجتماعي هو الفضاء الوحيد الذي يتيح له التعبير عن رأيه، وتبقى عصاميته في القراءة هي الوسيلة الوحيدة التي تمنحه قدرا من الاطلاع على جديد الرواية.
وإذا كانت الرواية هي ذلك الصخب الذي لا ينتهي، والإنتاج المستمر للحياة والموت، فإنها بذلك ناعورة لا تكف عن الدوران، وفي هذا الدوران يستطيع الروائي أن ينتج، أن يستمر قلمه في الحياة بمداد لا ينقطع. لكن المدن في الصحراء مدن لم تقترب بعد من المدن بالمعنى الحديث، في غياب دور سينما ومسارح وجامعات ومتنزهات عمومية ومتاحف، إنها جافة حتى من الأنهار، ولكم ألهم نهر السين لكتابة الروايات، وكم ألهم نهر النيل لإبداع القصائد.
يجد الروائي نفسه في المدن الصحراوية حبيس جدران عالية من الروتين الممل، ويسعى إلى تجديد ذاته باستمرار، لكن الواقع المتوقف خارجا يجعل هذا التجدد مثل حمار يدور حول طاحونة، الخط نفسه الذي يزحف عليه كل يوم، ولذلك كان ميلاد الفكرة في ذهن الروائي الصحراوي شيء صعب الحصول، ذلك أن دور المدينة ككيان فاعل في صنع الحدث ودفع الروائي إلى التفكير في مادة روائية جديدة، والتناقض الذي تخلقه في جوفه، والكم الهائل من الأشخاص الذين يصادفهم يوميا شيء غائب في هذه المدن التي ألف فيها الروائي الأحداث والأماكن والوجوه.
ناقش الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار المكان بعمق كبير في كتابه جماليات المكان واختص جزءا كبيرا منه في دراسة البيت، باعتباره المكان الأكثر حميمية من بين كل الأمكنة، هذا المكان الذي يحتوينا، والتي تشكل الأشياء فيه والأمكنة عالما خاصا يؤثر فينا، فالرفوف والأدراج والقبو والعلية كل شيء يحمل ذاتنا. لقد بحث باشلار عن الحميمية في الأمكنة الضيقة، تلك اللامفكر فيها، ولذلك حينما نتحدث عن المدينة تستدرجنا الهوامش فيها، ذلك المضيق الصغير الذي تتسلل إليه مياه البحر في المرسى، أو ذلك المكان الذي يتجمع فيه ماسحوا الأحذية، أو ذلك الشارع الذي يكون من أشد الشوارع فراغا وقت غروب الشمس حتى أنك تمشي فيه دون أن تصطدم بأحد، إنها حميمية المكان المفقودة في هذه المدن.
بشيء من الأسى نسجل تلك العلاقة المتوترة بين الروائي الصحراوي والمدينة الصحراوية، لكن بالرغم من كل ذلك استطاع هذا الروائي أن يخلق عالما روائيا متميزا من شيء أقرب إلى العدم، فجاءت مجموعة من الروايات التي حاولت أن ترصد تناقضات هذه المدن، أو من أجل الوقوف على حالة الصدمة التي عاشها الإنسان الصحراوي الذي وجد نفسه انتقل من حياة البدو إلى حياة المدينة بين ليلة وضحاها. وفي هذه النقطة الأخيرة يكمن ضعف المدينة الصحراوية وهشاشتها في العطاء، لكونها مدينة تحتاج الكثير من أجل أن تعطي وتمنح.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى