فاطمة الفلاحي - حرية الأنا محكومة في عالَم الاستلاب السلعي.. من حواري مع الرفيق غازي الصوراني"بؤرة ضوء" الحلقة الرابعة

  • يبين إرنست بلوخ : أن حرية الأنا وتحقيقها هما مشروع مقرر سلفاً بوساطة الأنا ذاتها. لكن هذه الذات لا تستطيع التجرد من واقعها المحكوم والغارق في عالَم الاستلاب السلعي." *3
- ويبين المفكر اليساري الماركسي غازي الصوراني،

4. لماذا العمل السلعي ينشأ الإستلاب ؟ ، وهل هو من ضروريات استمرار الرأسمال وتوسعه؟

الجواب :

سأتعاطى في اجابتي على هذا السؤال من تشابك وتداخل مفهوم الاستلاب (وكذلك مفهومي الاغتراب والتشيؤ) مع مفهوم الاستغلال حيث يؤدي كل منهما إلى نفس المعنى والمضمون، وبالتالي فإن تعريف الاستلاب أو الاستغلال هو : الاستيلاء على فائض القيمة، وهي عملية تتم ضمن وسائل متنوعة من أهمها عملية الانتاج (العمل) السلعي .

يقول ماركس:"إن فائض القيمة يجب أن يفهم على أساس افتراض أن السلع تتبادل بقيمتها وإلا فلن يفهم أبداً. لكن ماهي السلع؟ هي منتجات العمل التي تتبادل في الأسواق. هذه المنتجات نافعة, فهي ذات قيمة استعمال, وهي قابلة للتداول,فهي ذات قيمة مبادلة.

نشأ الإنتاج السلعي الرأسمالي تاريخياً من الإنتاج السلعي البسيط, ليصبح الإنتاج لسلع أي لمنتجات معدة للبيع في السوق, وليس للاستهلاك الشخصي، وبالتالي فإن أساس الإنتاج السلعي الرأسمالي هو العمل المستأجر مقابل أجر، كما يفترض الإنتاج الرأسمالي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والتقسيم الاجتماعي للعمل. وبقدر تطور التقسيم الاجتماعي للعمل سعة وعمقاً يتطور الاقتصاد السلعي الرأسمالي وفق الصيغة التالية : نقود- سلعة- نقود أكثر، من خلال تراكم الاستيلاء على فائض القيمة، أو الاستغلال أو الاستلاب الناشئ عن الانتاج السلعي.

إن الاستغلال أو الاستلاب الرأسمالي يتحقق من خلال حقيقة بسيطة، هي كون العامل قادراً على خلق قوة عمله, وعلى تجديدها, وعلى العمل مدة أطول مما تسمح قوته فعلاً.وهكذا تعتبر قوة العمل سلعة ممتدة, تجعل الرأسمالي (خاصة في مجتمعاتنا الفقيرة) ، يطيل ساعات العمل أو يزيد من حدة وكثافة العمل ليحصل على إنتاج أكبر بنفس الأجر. والفرق بين ما يحصل عليه العامل من أجر فعلاً وما أنتجه من قيمة فعلاً هو فائض القيمة, يذهب إلى جيوب الرأسمالي وحده.

وإذن فالعامل يقدم نوعين من العمل: عملاً أصلياً يتلقى عنه أجره بالكامل وهذا هو العمل الضروري- وعملاً إضافياً لا يتلقى عنه أجراً, وهذا هو العمل الفائض الناجم عن الاستلاب.

بهذا أتوصل إلى البديهية التي تقول : إن الطابع الفردي للملكية، والطابع الاجتماعي للانتاج ، سمة رئيسه من سمات المجتمع الرأسمالي، وهي تستند بدرجة أساسية إلى الانتاج أو العمل السلعي وملكية وسائل الانتاج، التي تحدد بدورها مجمل العلاقات الاجتماعية في إطار ثنائية تناقض رئيسي بين الملكية الخاصة من جهة، وبين كل العاملين المنتجين للسلعة من جهة ثانية، وهذه الثنائية المتناقضة في المجتمعات الرأسمالية بما تفرزه من شعور لدى العامل بالظلم والاضطهاد وتحول دون تملكه لانتاج عمله، ودون تملكه لحريته واستقلاله الذاتي، أدت إلى توليد وخلق الظروف التي يترعرع وينشأ فيها الشعور بالاستلاب، وطالما استمرت هذه العلاقة بين مالك وسائل الانتاج والعمال المنتجين ، ستظل ظاهرة الاستلاب قائمة في جوهرها، على الرغم من تباين اشكالها الخارجية وممارستها المختلفة في ظروف القرن التاسع عشر عن القرن العشرين عن القرن الحادي والعشرين في إطار تطور الرأسمالية بتأثير التطور الهائل في العلوم والتكنولوجيا والاتصالات أو ما يعرف بثورة المعلومات، التي أفرزت بدورها (في البلدان الرأسمالية المتقدمة) مجتمعاً مختلفاً عن مجتمع الزراعة ، ومجتمعاً مختلفاً عن مجتمع الصناعة، تمثله الثلاثية التاليه : مجتمع المعلومات، ومجتمع المعرفة كأهم مورد للتنمية الاقتصادية ، ومجتمع التعلم والذكاء البشري، ومازالت هذه "المجتمعات" محصورة ضمن ما يعرف بالدول الصناعة الثمانية (G 8).

لكن على الرغم من تقدم دور التكنولوجيا والاختراعات العلمية والمعرفة في تراكم وتوسع رأس المال المالي العالمي ، إلا أن الانتاج السلعي يظل أحد أهم سمات النظام الرأسمالي عموماً، وفي البلدان الفقيرة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وبلادنا العربية خصوصاً، ويظل بالتالي مصدراً رئيساً للاستلاب والاستغلال ليس على صعيد الاستغلال أو الاستيلاء على القيمة الزائدة من العامل/البروليتاري من قبل صاحب العمل فحسب، بل انتشار ظاهرة الاستيلاء على فائض القيمة للشعوب الفقيرة والاستيلاء على ثرواتها ومقدراتها كما هو حال الأوضاع الاقتصادية لهذه الشعوب في مرحلة العولمة الراهنة.

فطبقاً لبيانات البنك الدولي عن التنمية في العالم (أو ما اسميه ظاهرة الاستلاب المعولم)، فإن مجموعة الدول منخفضة الدخل بلغ العدد الإجمالي لسكانها عام 2012 نحو 2500 مليون نسمة، من إجمالي سكان العالم البالغ عددهم 7 مليار نسمة ، وفى المقابل ، بلغت القيمة الكلية للناتج الإجمالي للمجموعة حوالي 2.7 تريليون دولار فقط، من الناتج العالمي المقدر(عام 2012) بنحو 65 تريليونا .

وهنا، من المهم التوقف أمام مظاهر الرأسمالية المتوحشة بالأرقام لكي نجسد ابشع معاني الاستلاب:

1- الفقراء يزدادون فقراً: 1.2 مليار نسمة هو عدد الجوعى في العالم، ينضم إليهم 75 مليون سنويا بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود ، وهذه الزيادة في اعداد الجوعى تقابلها زيادة هائلة في ثروات، الأثرياء الذين ازداد عددهم ليصل عام 2012 الى 11.5 مليون شخص مجموع أموالهم تقدر بحوالي45 تريليون دولار .

2- وعلى صعيد المناطق الجغرافية لا تزال أميركا الشمالية تحتكر القسم الأعظم من الثروات وعدد المليونيرات، حيث يوجد فيها 4 مليون شخص مليونير يملكون نحو 15.5 تريليون دولار. تليها في المركز الثاني أوروبا بعدد مليونيرات بلغ 3.5 مليون شخص تقدر ثرواتهم بنحو 14 تريليون دولار.

3- تنامي الناتج المحلي الإجمالي العالمي من 39.4 تريليون دولار عام 1995 إلى 58.6 تريليون دولار عام 2006 الى 62 تريليون دولار عام2011 يتوزعون على خمسة شرائح كما يلي :

الشريحة الأولى : أغنى 20% (1.4 مليار نسمة) يمتلكون 82.7% من دخل العالم، ما يعادل 51.274 تريليون $ بمعدل 36624 $ للفرد سنوياً، تضم هذه الشريحة الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي واليابان.

الشريحة الثانية : أل 20% (1.4 مليار نسمة) التالية يمتلكون 11.7% من دخل العالم، ما يعادل 7.254 تريليون $ بمعدل 5181 $ للفرد سنوياً.

الشريحة الثالثة: أل 20% (1.4 مليار نسمة) التالية يمتلكون 2.3% من دخل العالم، ما يعادل 1.426 تريليون$ أو 1018$ للفرد سنوياً.

الشريحة الرابعة: أل 20% (1.4 مليار نسمة) التالية يمتلكون 1.9% من دخل العالم ، ما يعادل 1.178 تريليون$ أو 841$ للفرد سنوياً.

الشريحة الخامسة : أفقر 20% (1.4 مليار نسمة) التالية يمتلكون 1.4% من دخل العالم ، ما يعادل 0.868 تريليون$ أو 620$ للفرد سنوياً !!!!.

4- 110 دولة فقيرة هو عدد الدول التي يضمها "نادي الفقراء" إذ ارتفع عددها من 25 دولة في عام 1971 إلى 48 دولة في عام 1999 وصولاً إلى 110 دولة عام 2010. فقد تزامن انتصار الليبرالية الاقتصادية وسياسات الخصخصة وبيع القطاع العام في الدول الفقيرة مع ارتفاع مطرد في عدد الفقراء والجوعى.

5- هناك مليار شخص دخلوا في القرن الواحد والعشرين وهم غير قادرين على القراءة أو توقيع أسمائهم .ويعيش اليوم 1.3 مليار شخص بأقل من دولار في اليوم و3 مليارات شخص بأقل من دولارين. وهناك 1.3 مليار شخص لا يصل إليهم الماء النظيف و 3مليارات لا تصل إليهم خدمات المجاري وملياران لا تصل إليهم الكهرباء، ويوجد في المجتمعات النامة 800 مليون شخص لا يحصلون على الطعام الذي يكفيهم، بينما هناك 500 مليون يعانون، بصورة مزمنة، سوء التغذية و 17 مليوناً يموتون كل عام من أمراض لا شفاء منها...بالاضافة الى(27) مليون شخص يعانون العبودية على الرغم من نبذها قبل 200 عام.

في ضوء هذه الوقائع ، أصبح من غير الممكن التعاطي مع هذه المتغيرات أو فهمها أو الاقتراب منها دون فهم واستيعاب ظاهرة التخلف والتبعية من جهة، وظاهرة العولمة الرأسمالية باعتبارها الإطار المرجعي لكل هذا الاستغلال والاستلاب والهيمنة من جهة ثانية.

أخيراً ، إن رأس المال لا يعرف السكون، وإذا ما تعرض لأي شكل من أشكال التوقف أو السكون، فإنه يكف عن كونه رأسمالاً، إذ أن الحركة والنشاط الدائمين من خلال عملية الانتاج المادي السلعي، يشكلان المصدر الأساسي الوحيد لتراكم رأس المال عبر مراكمة القيمة الزائدة أو فائض القيمة والاستيلاء عليها، ومن ثم تبلور وتحقُقْ عملية الاستغلال (أو الاستلاب) الذي يتلخص تعريفه في كافة الموسوعات العلمية كما يلي: الاستغلال هو الاستيلاء على فائض القيمة.

بناءً على ذلك، فإن الاستلاب أو الاستغلال يمكن تحديده علمياً حسب كارل ماركس في أنه يتيح فصل معسكرين فصلاً بيّناً: المستغِلّين الذين ينهبون فضل القيمة (القيمة الزائدة) ، والمستغَلَين (بفتح الغين) الذين ليس لديهم ما يبيعونه سوى قوة عملهم.

ولكن بالرغم من الدور المباشر للاقتصاد في نشوء الاستلاب أو الاستغلال الطبقي، إلا أن الماركسية تتحدث عن أشكال متعددة من الاستلاب الاجتماعي والديني والسياسي ، وهي أشكال فرعية من الأصل الاقتصادي أو الاستلاب الأساسي الذي تتعرض له الطبقة العاملة في سياق نمط الانتاج السلعي أو الرأسمالي، حيث يرى ماركس بحق أن العمل يتحول من قوة مُحَررِّة للإنسان إلى نشاط مستلب أو مُشتَغَلْ في ظروف الانتاج الرأسمالي .

إن مفهوم الاستلاب – عند ماركس- يرتبط ويتحدد بالتشويه الذي يصيب فكرة حرية العمل التي تتحول إلى عملية بيع إجباري من العامل إلى صاحب العمل، حيث يتحول العمل هنا إلى وسيلة للعيش ويفقد مفهوم الحرية الفردية معناه الحقيقي بعد أن أصبح الاستلاب أو الاستغلال هو سيد الموقف، بعد ان يتجرد العامل من نتاج عمله، بل على العكس يصبح نتاج عمل العامل بمثابة قوة معادية تسيطر تماماً عليه، لأن منتوجه السلعي بات ملكاً لصاحب العمل – الرأسمالي الذي قام بشراء قوة عمل العامل، وفي هذه المعادلة يتضح فقدان العامل حريته وسلوكه ونشاطه اثناء العمل لحساب تلبية احتياجاته وأسرته لكي يستمروا أحياء.

إذن الاستلاب ضرورة من ضرورات استمرار الرأسمال وتوسعه، ففي النظام الرأسمالي لا يمكن أن يتحقق التراكم أو الحصول على فائض القيمة، إلا من خلال عمل العامل، وهذا في حد ذاته ابشع مظاهر الاستلاب، حيث يصبح العمل أو الشغل وسيلة وأداة لاستلاب الذات وقهرها وإذلالها في ظل شروط الانتاج الرأسمالي التي تقوم على شراء قوة عمل العامل، وهنا تجلت عبقرية كارل ماركس حين أكد أن مملكة الحرية لا يمكن أن تبدأ في الواقع إلا حين تنتهي تلك العلاقة الاستغلالية أو الاستلابية بين العامل ورأس المال، من خلال الثورة الاشتراكية والقضاء على الملكية الفردية لوسائل الانتاج وتحويلها إلى ملكية جماعية ديمقراطية ومؤنسنة ، تضمن أن يكون العمل والانتاج ، خاضعاً للحاجات الإنسانية ومعبراً عنها وعن كرامة الانسان.
__________________
*3 من كتاب إرنست بلوخ " مبدأ الأمل : إرنست بلوخ "1885 - 1977" فيلسوف ماركسي ألماني. تأثر بكل من گيورگ ڤلهلم فريدرش هيگل وكارل ماركس.

* * *
انتظروا الحلقة الخامسة - التمرد الثوري في مقاومة الحكومات المستبدة واسقاطها " بؤرة ضوء"
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

الاستلاب،الاستغلال، الاستيلاء،
الاغتراب،التشيؤ...
مفردات رجَّتني رَجاً...

ألم ترتعش يدك وأنتِ تنحتينها؟
قرأته وكأنني في مدينة الأشباح
مسيرة موفقة
 
أعلى