سعيد فائق Sait Faik - السعادة.. نقلهاعن التركية: محمّد وليد ڨرين

في المساء لا أخرج، حتى ولو تعلق الأمر بالخروج إلى الشارع. موقدي مشتعل ، جريدتي وكتبي إلى جانبي...أقول لنفسي ربما هذا هو الشيء الذي يسمونه السعادة. هناك أيام كأني أفكر فيها في السعادة دون أن أفكر في ذلك تقريبا. أرقد باكرا ، أقوم باكرا ، وأتجول في الطرق وحيدا. ثم يأتي ذلك الشيء الرهيب الذي يسمونه الملل ويستحوذ على نفسي ويخنقها، يخنقها ثم يخنقها...فالسعادة لا تكمن في هذا الشيء. أين تكمن إذا ؟ ربما تكمن في تأسيس أسرة. أقول لنفسي أن السعادة تكمن في أن أرزق بذرية كثيرة ، ثم أرجع عن كلامي ، ثم أقول لا ، إنّ السعادة لتكمن في المغامرة. لا ، ليس ذلك ، ليس ذلك.

في الأسبوع الماضي ، وبينما كنت أمشي في طريق خالية ، صادفت رجلا مسنّا. في شهر ديسمبر الجميل والمشمس ذلك ، جلسنا أسفل جدار مقبرة. كنا نشبه ضبّين عملاقين. قلت له أنه لا وجود للسعادة في هذه الدنيا. قلت له أن لدي ما آكله وما أشربه. عندي مسكن. عندي الفحم. عندي حبيب وصديق ، وسأصبح غنيا إن أردت ذلك: سأمتلك سيارة ، وسيكون عندي هذا وذاك. ولكني مصاب بالملل. قلت له أنني أنفجر وأموت ضجرا.

فحكى لي هذه القصة:
قال لك زمان كان كاين واحد السلطان عندو بنت. كانت بنتو شابة بالبزاف.جاء الوقت باش تتزوّج. في واحد الليلة شافت في منامها واحد الشاب عامل كي السبع. وجهو كان يبان. كان لابس الاكحل، في راسو عمامة حمراء وعندو سبتة خضراء تبرق في حزامو. كان وجه الشاب صفر وعينيه حزان. قال للأميرة:
- يا أميرتي، نحبّك كي المهبول، نموت عليك. بالصّح ما نقدرش نجي لعندك. سلكيني، ربّي يحفظك.
قالها واختفى.

عندما استيقظت الأميرة مضت بسرعة إلى البادشاه (السلطان). فحكت له منامها وقالت له أنها هي أيضا تعشق هذا الشاب عشقا جنونيا، وأنه يمكنها الزواج منه.
أرسل البادشاه رجاله إلى كل مكان، ولكنهم لم يجدوا هذا الشاب في مملكته. فقام البادشاه بإرسال جيوشه إلى بلدان أخرى، وخرجت سفنه لتفتح بلدانا وجزرا أخرى. ولكن لم يصادف أي رجل يطابق وصف الأميرة. وقام الدلّالين في كل ناحية معروفة من العالم بالإعلان عن أن البادشاه يبحث عن رجل قامته كذا، وحاجب عينه كذا، ويرتدي كذا وكذا. وبما أن الأميرة هي الوحيدة التي تعرف أن الشاب النبيل الذي ظهر لها في منامها عنده في يده اليمنى خاتما، حكم على طالبي الزواج منها الزائفين بعقوبات.

لم يتم العثور على الشاب الذي رأته الأميرة في منامها.
في النهاية، قال البادشاه لابنته بعد سنتين من البحث أن رجلا مثل ذلك التي تريده لا وجود له على سطح الأرض، وأن منامها منام فقط من المستحيل أن يتحقق، وأنه لو كان ذلك الشاب موجودا، لعثر عليه رجاله، وأنه لو كان يحبّ ابنته لكان قد أظهر نفسه الآن. ثم أضاف قائلا:
- يا بنتي، ما نسعاش واحدة اخرى من غيرك انت. لازم تتزوّجي. ما لازمش تبعي منامات كيما هادو. ما نقدروش نخلّو بلادنا بلا وارث. أنا درت الشي اللي طلبتيه منّي. بالصّح راكي تشوفي بلي هذا الرجل ما كانش، ما يسعاش. معناتها بلي انت شفتِ منامة برك. دوك نصيب لك واحد الأمير يكون خير من الشاب اللي شفتيه في المنام...
ولكن الفتاة لم تنتصح بكلام أبيها.

غلقت على نفسها في غرفتها، وبكت، ثم بكت. وبينما كان أبوها في ناحية ما يبحث لها عن زوج انتقلت الأميرة المسكينة إلى رحمة ربّها. فبكى البادشاه كثيرا، ثم تم تحضير موكب جنائزي يليق بمجد الأميرة الشابة، وبهذه المناسبة، ومن أجل أن تكون روح ابنته سعيدة، تم إطلاق سراح جميع المسجونين، وتم الإعلان عن حداد ليس في بلده فحسب، بل في كل البلدان. تم تحضير مكوب جنائزي كبير.
خرجت الجنازة من القصر، وبينما كانت السلطانة الشابة تنقل في موكب كبير إلى إقامتها الأبدية، وسط التهليل والتكبير، ظهر أمام الجنازة شاب فوق حصان أسود، يرتدي ملابس سوداء، على رأسه عمامة حمراء ، ورباط أصفر يشدّ خاصرته. كان ذلك الشاب هو الذي رأته الأميرة في منامها. ترجّل عن حصانه وعانق تابوت الأميرة وعينيه تفيضان دموعا. كانت دموعه تشبه حبّات لؤلؤ. ثم تقدم نحو البادشاه وصافحه بيده اليمنى. عندما تصافح الرجلان، رأى البادشاه في يد الشاب اليمنى الخاتم الذي وصفته له ابنته.

فسأله قائلا:
- آه يا وليدي، راك توخّرت بزّاف. وين كنت؟

فجاوبه الشاب وقال:
- كنت أقبع في السجن بأمر من عندك في برج من أبراج القصر...
وحينها عرف البادشاه وهو ينظر إلى وجه الشاب أن ذلك الشاب هو من بين أشجع بايات أحد البلدان التي فتحها.
ثم قال لي الرجل المسن:
- هذه هي الحكاية يا ابني. لو كان الأميرة الشابة خمّت شويّة، لو كان راهي قدرت تعرف وين راهو الشاب اللي كان يحلّلها ويطلب منها تسلّكو من محنة. لو كان جاها في البال تروح تزور الحباس (السجون)، لو كان راهي لقاتو ويكونوا وصلوا للهدف تاعهم، وهكذا تكون حكايتنا كانت رايحة تخلاص بربعين يوم وربعين ليلة عرس وحفلات.
أظلمت السماء. وكان الجو يبدأ بالبرود. قام الرجل المسن من مكانه. مشى خطوتين أو ثلاثة. توقّف. التفت تجاهي وقال:
- معناتها بلي مفتاح السعادة للأميرة كان في الحبس.
ثم مضى بعشرة خطوات نحو الأمام. توقّف من جديد، والتفت ثانية نحوي. قال لي:
- أنا تاني مفتاح السعادة تاعي لهيها...على خاطر عندي وليدي في الحبس...

أنا الآن أمشي وحيدا في الطريق المظلم وأفكر: "معناتها السعادة راهي في زيارة الحباس، على حساب الشوفة". أفكر في جميع السجناء. نفسي في المساء تشبه نفس سجين. ها هي الشمس تغرب الآن.
ضوء يميل لونه إلى البنفسجي يدخل من نوافذ السجن. مسجون يغني أغنية حزينة. جميع السجناء جالسون ويفكرون في أحبابهم. هم نادمون على أغلب الأشياء التي فعلوها. أنتظر قانون عفو. متفائل أنا. لقد زال عليّ الملل. أقول لنفسي منذ أيام أن السعادة تكمن في التفكير في السجناء.

* صدرت هذه القصة في جريدة "حريّت" Hürriyet(الحريّة) التركيّة، يوم 7/5/1948).




Sait Faik
سعيد فائق (1906-1954)
نقلهاعن التركية: محمّد وليد ڨرين (مترجم من الجزائر)

Sait Faik سعيد فائق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى