جمال الدين العمراني - عويشة..

في تلك الليلة الممطرة ظلت عائشة شريدة الذهن تحملق تارة في الجدران و تارة في الباب الحديدي و تارة أخرى في وجوه زميلاتها في الزنزانة ... تتنهد و تخرج ترجيعة حزينة تضع يديها على بطنها المنتفخ و تقول : ما ذنب هذا الذي يوجد في بطني أن يقبع في السجن قبل أن يرى النور ...؟

و ما مصيره في هذه الحياة الظالمة ...؟

و ظلت تسترجع ماضيها و كيف انها لم تذق فرحة الطفولة عندما ماتت أمها و هي لم تتجاوز ست سنوات من عمرها .. و بعد ان تزوج ابوها بعد مرور شهرين على فاجعة موت أمها ... كانت زوجة أبيها تقهرها و تنهرها يوميا ..حتى المدرسة غادرتها بسبب

الأشغال الشاقة التي كانت تمارس عليها .. و ظلت تخدم زوجة أبيها كأنها خادمتها .. و عندما تشتكي لأبيها ظلم زوجته لا يعيرها إهتماها .. و ظلت على هذه الحال حتى وصلت سن الرشد ..

و في أحد الأيام دخل أبوها المنزل و ناداها " عويشة .. عويشة ..” كان يناديها بهذا الاسم و هو إسم تصغير لعائشة ، نظر في وجهها الحائر و قال : أنت الان أصبحت راشدة و بإمكانك العمل ، فرحت لبرهة عندما سمعت العمل ، لكن سرعان ما اختفت فرحتها عندما استطرد قائلا : لقد حدثتي عنك أحمد سمسار الخادمات و قال لي أنه وجد لك عملا بالمدينة عند أسرة ميسورة مقابل ثلاث مائة درهم في الشهر و هذا مبلغ لا يستهان به . قبلت بسرعة ظنا منها أنها ستضرب عصفورين بحجر واحد : الإبتعاد عن زوجة أبيها الظالمة و كسب المال يغنيها عن الإرتباط بأبيها .

بعد مرور يومين قدم السمسار مبكرا و ركبا حافلة الركاب المهترئة نحو المدينة ... ظلت عائشة تنظر من نافدة الحافلة نحو البعد تارة و تارة أخرى في وجوه الركاب التعيسة .. في قرارة نفسها كانت سعيدة بهذه الرحلة نحو المجهول ... وصلت الحافلة الى المحطة الطرقية بعد رحلة طويلة دامت خمس ساعات ، و ركبا سيارة أجرة صغيرة ... كانت مندهشة من العمران و الضجيج الذي يملأ المدينة ..

وصلا الى مقر عملها .. نزلت مسرعة و بعد طرق الباب استقبلهما رجل مسن ستعرف فيما بعد أنه البستاني " بّا محمد ” . و عند دخولهما ظلت عائشة منبهرة بهذا البيت الشاسع ..و بعد مرور أكثر من نصف ساعة دخلت صاحبة البيت " الحاجة سعدية و بعد التعرف عليها ذهب السمسار و تركها مع صاحبة البيت . أدخلتها الحاجة سعدية المطبخ و قالت لها هذا مكان عملك و أطلعتها على حجرة توجد في الحديقة و قالت لها هذا مكان نومك ..

ظلت السعادة تغمر قلب عائشة لأنها لم تتصور في يوم من الايام أن ستسكن مثل هذا القصر .. بعد مرور شهر على بداية عملها كخادمة جاء أبوها فجأة و فرحت بقدومه رغم ما قاسته من مرارة العيش معه . استقبلته الحاجة سعدية و ناولته أجر إبنته و هنا صدمت عائشة و هي التي كانت تظن أنها ستذخر هذه النقود من أجل مستقبلها ..

و لكنها حمدت الله على نعمة العيش بين أحضان هذه الأسرة التي كانت تتكون من الحاجة سعدية و زوجها الحاج علّال ، و البستاني " با محمد “ الذي كان كثيرا ما يعطف عليها .. و عند بدء العطلة الصيفية فوجئت بقدوم إبن الحاج و الحاجة من فرنسا ... و هنا انقلبت حياة عائشة رأسا على عقب و هي البنت البدوية المحتشمة ...

كانت كل مرة تشتغل في المطبخ يقترب منها عِصام الإبن المدلل و يقول لها أنت جميلة جدا ... و يضع يده على نهديها .. فتبتعد و يقترب و .. تبتعد .. لكنه كان لصيقا بها ... و في أحد الليالي كانت نائمة في الحجرة المخصصة لها فجأة أحست بيد تلمس جسدها فارتعدت خوفا و دعرا قائلة : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ... ظنا منها أنها تحلم أو كابوسا ثقيلا يرتادها..

لكن بعد برهة أحست هذه المرة بجسد يلتصق بجسدها فنهضت و قالت من ..!؟ فسمعت صوت عصام يقول لها لا تخافي إنه أنا ،لكنها قامت بنهره و دفعته لكنه أمسكها بشدة و اضعا يده على فمها ... و بعد أن ضاجعها و أفرغ نزوته الحيوانية انسل من الفراش تاركا عائشة تعاني حزنها على جرحها الجسدي و النفسي ...

و في الصباح لم تتفوه بشيء لأن عصام وعدها بالزواج .. و ظل يأتي عندها كل ليلة يفرغ نزواته ..لأن عائشة كانت طامعة في العيش في هذا المنزل الواسع العريض كزوجة مُعززة مكرمة ..

بعد إنقضاء العطلة الصيفية فوجئت عائشة برحيل عصام إلى فرنسا لإتمام دراسته الجامعية . ظلت عائشة تنتظر قدومه في عطلة نهاية السنة .. و عند رجوعه صارحته بالزواج لكنه تنكر لها و قال لها : أنا أتزوج بخادمة هل جننت ..!؟

و هنا سقط كلام عصام على عائشة كالصاعقة .. ذهبت الى المطبخ و حملت سكينا

و طعنت عصام عدة طعنات أردته قتيلا ، و جلست بجانب الجثة و هي تصرخ بأعلى صوتها قتلته .. قتلته ..

لم تستفق عائشة إلا و هي في مخفر الشرطة و الكل يسألها : لما قتلته .. لما قتلته ..!؟ ظلت مصدومة لا تتفوه بكلمة .. الى ان أتى أبوها إلى مركز الشرطة فعانقته و قالت : لقد انتقمت لشرفي .. لقد انتقمت لشرفي ..

و هاهي عائشة تقبع وراء القضبان هي و جنينها المحكوم عليه بالسجن بجانب أمه .. و لا أحد يعرف مصير هذا الطفل بعد أن يرى النور في السجن ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى