د. قيس كاظم الجنابي - النهضة الفكرية عند طه حسين

توطئة:
تعد مرحلة طه حسين (1889-1973م)، وعباس محمود العقاد، هي الحلقة الوسطى من حلقات النهضة الفكرية بدأً من مرحلة التنوير الأولى / قبل الحرب العالمية الأولى، التي كان الاصلاح الديني أولآً مرتبطاً بجمال الدين الأفغاني ، ثم أعقبه تلميذه محمد عبده، وهو من الساردين المتنورين، وكان طه حسين يمثل المرحلة الثانية ،فكان أكاديمياً ومتأثراً بالغرب بحكم دراسته واطلاعه على اللغة الفرنسية، واللاتينية ، فشكّل مع عباس محمود العقد ثنائياً مهماً في كتابة المقالة الأدبية، وفي تنوير الأجيال خلال حقبة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، فقد كان غالب نتاج طه حسين بعد الحرب العالمية الأولى، وكانت كتاباته المتنوعة في النقد والتاريخ والترجمة والسيرة والصحافة والسياسة مثار جدل واهتمام لم يهدأ أواره الى حد الآن.
موثبات:
كانت الموثبات الأولى، من الأزهر، حيث درس طه حسين على يد محمد عبده، تلميذ جمال الدين الأفغاني، وكان الأزهر مدرسة شيعية فاطمية بقيت نحو قرنين، فلما غلب صلاح الدين الأيوبي على الفاطميين، أصبحت مؤسسة دينية تابعة للدولة العباسية، ثم ناله التجديد في دروس الرياضيات والعلوم الطبيعية وغيرها.
وقد تصدى محمد عبده لإصلاح الأزهر، وتطبيق علومه على الأمة، فتلقى مقاومة شديدة من لدن المحافظين انتهت بإضافة مبادئ الهندسة والجغرافية والعلوم العقلية والانشاء والأدب، ثم نشأ من تلاميذه طائفة حسنة من مستقبلي الفكر ومحبي الاصلاح على العلوم الحديثة.(1)
وكان الشيخ محمد عبده، زعيم نهضة اصلاحية لا خوف منها على الدماء ،أو الأرواح، وأكثر نهضات الأمم في سبيل اصلاحها لا تخلو من إهراق للدماء، فهو رجل عظيم يجدر بالمسلمين أن يبكوه ،وأن يقتفوا آثاره في التوفيق بين الاسلام والمدنية الحاضرة وتنقية مما ألم به بتوالي الأزمان، وذلك ميسور لمن أطلق فكره من قيود التقليد واسترشد بما يهديه اليه العقل الصحيح بالإسناد الى العلم الصحيح. على أننا نرجو أن لا نعدم هذه النهضة من يخلف الامام الفقيد في الانتصار لها والعمل بها.(2)
وفي هذا الصدد كتب محمد عبده عن شيخه الأفغاني:” جاء الى هذه الديار في سنة 1288هـ [1871م]رجل بصير في الدين ، عارف بأحوال الأمم، واسع الاطلاع جم المعارف ، جرئ القلب واللسان، وهو المعروف بالسيد جمال الدين الأفغاني ، اختر الاقامة في مصر، فتعرف عليه في بادئ الأمر طائفة من طلبة العلم، ثم اختلف اليه كثير من الموظفين والاعيان . ثم انتشرت عنه ما تخالفت آراء الناس فيه من أفكار وعقائد، فكان ذلك داعياً الى رغبة الناس في الاجتماع به لتعرف ما عنده”.(3)
وقد اعتبر محمد عبده الصحافة وسيلة للتقدم الحضاري والنظام العالمي . فهي تخبر الناس بأسباب التقدم وتجعل الدول المجاورة على علم بأخبار بعضها البعض . وبقي يؤكد دائماً على أنها تؤدي مهمة وعظية تنتقد النقائص وتشيد بالفضائل؛ وكذلك لأنّ محمد عبده يشبه النشر بخطيب المسجد الذي يعتلي منبر الوعظ وينفخ في بوق الملاك اسرافيل، والذي يستطيع أما أن يتسبب في هلال البشر الأحياء أو أنه يبعث الحياة في الموتى.(4)
وعن علاقته بالأفغاني يقول محمد عبده:” وقد صاحبته من ابتداء شهر محرّم سنة 1278هـ [1861م] ، وأخذت أتلقى عنده بعض العلوم الرياضية والحكمية والفلسفية، والكلامية، وأدعو الناس الى التلقي عنه كذلك. وأخذ مشايخ الأزهر والجمهور من طلبته يتقولون عليه وعلينا الأقاويل ،ويزعمون أن تلقي تلك العلوم قد يفضي الى زعزعة العقائد الصحيحة. وقد يهوي بالنفس في ضلالات تحرمها خير الدنيا والآخرة، فكنت اذا رجعت من بلدي عرضت ذلك على الشيخ درويش ، فكان يقول لي: انّ الله هو العليم الحكيم ،ولا علم يفوق علمه وحكمته ،وان أعدى العلم هو الجاهل وأعدى أعداء الحكيم هو السفيه وما تقرب أحد الى الله بأفضل من العلم والحكمة، فلا شيء بممقوت عند الله ولا شيء من الجهل بمجهود لديه الا ما يسميه بعض الناس علماً، وليس في الحقيقة بعلم ،كالسحر والشعوذة ونحوهما اذا قصد من تحصيلهما الاضرار بالناس”.(5)
وكان محمد عبده كما يقول محمد رشيد رضا:” سليم الفطرة ، فطري الروح، كبير النفس ،وصادف تربية صوفية نقية، زهدته في الشهوات والجاه الدنيوي وأعدته لوراثة هداية النبوة، فكان زيته في زجاجة نفسه صافياً يكاد يضيء ولو لم تكن تمسسه النار، فمسته شعلة من روح السيد جمال الدين فاشتعل نوراً على نور”.(6) وكان محمد عبده يرى أن التحديث والنهضة، كان بفعل كثرة الأجانب ووصول الجرائد الأوربية الى طلابها من الأوربيين ،ومخالطتهم للعامة والخاصة فمهدوا طريق العلم، فزاد تشوق الناس الى الوقف على حوادث تلك الحرب[ بين الدولة العثمانية وروسيا سنة 1293هـ] وسرى هذا الشعور الى بعض الجرائد العربية التي كانت لا تزال الى هذا العهد مقصورة على ما لديهم، فحدث بين العامة نوع من الجدال لم يكن معروفاً من قبل ، ثم استحدثت جرائد كثيرة لمباراة ما سبقها في نشر الأخبار ،ولم يكن الأمر مقصوراً على حوادث الحرب، بل تعداه الى معرفة ما يبدو في سائر الأمم في سيرتهم السياسية والاجتماعية ،وزاد ذلك معرفة الأحوال المالية في مصر.(7)
وكان أمام طه حسين ثلاثة رجال قبل ظهور سلامة موسى على الساحة، لهم أثرهم عليه، وهم:
الأول، جمال الدين الأفغاني، شيخ استاذه محمد عبده، الذي بعث في نفسه الحرية العقلية.
الثاني، مصطفى كامل الذي أذكى جذوة الحرية السياسية .
الثالث ،قاسم أمين الذي أحيا الحرية الاجتماعية وقرأ سعد زغلول، وهذا الحديث، فوجد على طه حسين ،لأنه لم يذكره بين هؤلاء العظماء.(8)
أما سلامة موسى، فهو من رواد النهضة العربية، لما تمتلكه موضوعاته من اهتمام بالجوانب الانسانية، والأفكار والتيارات الحديثة ، كالاشتراكية والوطنية ،وهو يكتب موضوعاته في غالب الأحيان بطريقة مقالية ، وكان كتابه (تربية سلامة موسى) الذي صدر عام 1947م، مثار اهتمام وجدل مستديمين ،لأنه اخترق المألوف العربية ، وحاكى التيارات الحديثة في كتابة السيرة الذاتية، وقد بدأ بالكتابة عام 1909م بمقال نشرته المقتطف عن الفيلسوف الألماني (نيتشه)، وهو فيلسوف عدمي يميل الى الإلحاد، ولكن كتابه ( الأدب والحياة) يشتغل على جانبين:
الأول، النهضة العربية بعد الحرب العالمية الأولى.
الثاني، كتابته المقالة الأدبية القصيرة التي تختلف عن مقالات العقاد وطه حسين، والتي شاعت في هذه المرحلة والتي تتصف بالطول والمماحكة والحوار والالحاح في مناقشة الأفكار، ومحاولة اثارة النقاش ،والابتعاد عن المسلمات ،وتثوير الحية الانسانية ،وضرورة احداث التغيير، فبالرغم من أن عنوان الكتاب (الأدب والحياة)،الاّ أنه في الأساس كتاب يتناول قضايا اجتماعية بحتة، لابدّ من ملاحظتها، وهو يتسم بقدرة فائقة على الاقتضاب والتقليل من الكلام الفائض ،ولكنه لا يمتلك قدرات ومؤهلات طه حسين ولا العقاد، من جميع النواحي ،ولا ما امتلكه محمد عبده، ولا الأفغاني، ومقالاته قصيرة وتناسب الصحافة اليومية.
زحزحة المُسلَّمات:
كانت دراسة طه حسين في الجامع الأزهر، مدعاة لقراءة المناهج والعقليات الدينية والتقليدية التي تقف بوجه التحديث والنهضة؛ لهذا كان لابدّ من تجاوز المعارك الأولى مع الإرث الأزهري في مصر، فتأكد أنه( لا خصومة بين العلم والدين)،و(لا مصالحة بين العلم والدين أيضاً)،لأن لكل منهما حيزه وماهيته الخاصة، فحيّز الدين هو الشعور والعاطفة وماهيته الثبات والاستقرار ،وحيز العلم العقل وماهيته التبدل والتطور. ولا مصالحة بينهما، لأن لكل منهما مواضيعه والوسائل التي يبرهن بها عن صحتها.(9)
ولكن طه حسين أراد أن يربط العلم بالحياة؛ لأن العلم متطور والحياة متغيرة، وبهذا وجه ضربة لرجال الدين يريدون أن يربطوا الدين بالحياة ويزيحوا العلم عن المجتمعات ، فطرح شعاره المعروف (الجديد في مواجهة القدماء)، فكان كتابه( في الشعر الجاهلي) الذي صدر سنة 1926م، فاتهموه بالكفر والارتداد عن الدين؛ فقد كان على وعي تامٍ بالطريقة التي تؤمن له نشر الحداثة ومواصلة النهضة، من خلال ضربه للركائز التي ينتمي اليها الذين يقدسون التراث، وان يكشف الغطاء عمّا هو خفي، ومستور والانطلاق نحو رؤية جديدة، تستخدم المناهج الحديثة معززة بمواقف ورؤى طرحها النقد العربي ، فكانت نظرية الانتحال خير وسيلة لتحقيق ذلك ،وكان ابن سلام الجمحي قد طرحها بوقت مبكر من خلال كتابه (طبقات فحول الشعراء)وتشكيكه بشعر أهل اليمن القديم. ولما كان طه حسين يميل الى نظرية (الشكّ) التي طرحها الفيلسوف (ديكارت)؛ فإنه قد أصاب مقتلاً عظيماً في شكوكه تلك.
لقد أصدر طه حسن عام 1926من كتابه ( في الشعر الجاهلي) ضمن مطبوعات دار الكتب المصرية، فاتهم وحوكم، على ذلك بتهم متعددة ، فحدد معالم منهجه في التفكير ، مشيراً صراحة الى هدف (اسلامي) يؤيد الشعر الجاهلي سلفاً، والحقيقة أن الشعر ليس جاهلياً ، بل صيغ في صدر الاسلام ليبرر الهدف الاسلامي.(10) وقد سويت هذه القضية ، لكن الكتاب لم يفرج عنه ، الا بعد وفاة طه حسين، اذ أنه اضطر الى تعديله واصداره بعنوان ( في الأدب الجاهلي)، فلما توفي أعادت نشر الكتاب مكتبة المثنى ببغداد بالأوفسيت، وقد نبهنا الى هذا استاذنا الدكتور خليل العطية وحرضنا على شراء الكتاب، وكان يدرسنا النحو آنذاك.
لقد توّج طه حسين استثماره لمناهج المستشرقين، بدراسته عن الشعر الجاهلي(في الشعر الجاهلي) التي بناها على مبدإ الشك، للوصول ال اليقين، فأنتج خطاباً نقدياً متحرراً من الخوف؛ وكان خطاباً صادماً لمن يقدس الماضي ويعبد ثقافة الأسلاف، وكان يستثمر في طروحاته طروحات الناقد العربي القديم محمد بن سلّام الجمحين الذي فجّر ثورتين في نقد الشعر العربي، فيحينه، وهما: أولاً، نظرية الانتحال.
والثانية، اختلاف لغة حمير (اليمن) عن اللغة التي روي بها الشعر العربي ،وهي لغة قريش التي رسخ هيمنتها القرآن الكريم، فأصبحت هي لغة العرب التي لا يعرفون سواها.
ومن هذه المنطلقات بدأ طه حسين، في سردياته النقدية النهضوية (في الشعر الجاهلي) عام 1926م، والتي قال فيها:” وأول شيء به في هذا الحديث هو أنني شككت في قيمة الشعر الجاهلي وألححت في الشك، أو قل ألحّ عليَّ الشك، فأخذت أبحث وأفكر وأقرأ وأتدبر، حتى انتهى بي هذا كلّه الى شيء إن لم يكن يقيناً فهو قريب من اليقين”.(11) فكان بالتالي متيقناً بأنّ مت نقرأه من شعر جاهلي، هو ليس من شعر الجاهلية ،وانما هو شعر منتحل صنعه الرواة بعد الاسلام، ثم توسع في حصر ما هو صحيح الرواية أو قريب منها بالقول:” وأكاد لا أشكّ في أن ما بقي من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جداً لا يمثل شيئاً ولا يدلُّ على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي”.(12) مصرحاً بان نتائج ذلك ستكون خطرة لهذه النظرية ،وهو يشير الى انّ تعصب القبائل لشعرائها هو الذي زاد من نسبة الشعر الجاهلي المنحول، كما أن قصائد شعراء اليمن كأمري القيس وعمرو بن كلثوم، جاءت بلهجة وعروض وقوافٍ مقاربة للألفاظ المستعملة في معانيها، كما نجدها عند شعراء المسلمين ،وقد حاول طه حسين الرد على منتقديه، بأنه جعل القرآن هو ديدنه في الرد عليهم، فوضعه أمامهم ليصور الحياة العربية قبل الاسلام، لكي يقنعهم ،ولا يسمح لهم باستخدام المقدس ذريعة لتكفيره، ووصفه بالزندقة؛ وهو الذي خرج بنظريته وطرحها النقاد العرب في العصر العباسي ،ولكن ليس بهذه الصرمة والحدة، وهي أن العصبية وما يتصل بها من المنافع السياسية، وقد كانت أهم الأسباب التي حملت العرب على انتحال الشعر وأضافته الى أهل الجاهلية، مقتفياً خطى ابن سلّام ومتتبعاً تأثير الدين على انتحال الشعر، ثم القصص وتأثيرها على ذلك ، معولاً على قيام القصاص بجمع الأخبار والأحاديث ويلفقونها.(13)
وللشعوبية دورها في انتحال الشعر؛ مما يعني وجود صراع بين العرب وخصومهم من الموالي الذين تشبعوا بثقافتهم فعملوا على تشويهها وتغيير معالمها، وكان ديدنهم بغض العرب وبغض عصبيتها وتاريخها وتراثها، ثم ظهر فيما بعد تيار الزندقة في عهد الخليفة العباسي المهدي.
وبسبب هذا الكتاب تعرض طه حسين الى الطعن، والمحاكمة سنة 1927م، والاتهام بانه يتبع منهجاً أوربياً لم يكن سائداً ،وهو (المنهج الديكارتي)؛ وهو منهج فلسفي اكثر منه منهجاً أدبياً أو نقدياً، وقد رأى خصومه أن الطريقة الوحيدة للنيل منه، هو مواجهته مع المقدس(الدين)؛ فأشاروا الى عدة قضايا مهمة في هذا الجانب، وهي أنه أهان الدين الاسلامي بتكذيب القرآن، وتعرضه للقراءات القرآنية السبع المجمع عليها والثابتة لدى المسلمين جميعاً، وأنه طعن على النبي ،أنكر أن للإسلام اولية في بلاد العرب.(14)
في السيرة:
ولما كان طه حسين بصيراً، فإنه قد” تعود أن يأخذ العلم بأذنيه لا بأصابعه، وهو من أجل ذلك يجد مشقة كل المشقة في تتبع هذه النقط البارزة حتى يؤلف منها الكلمة، ثم يؤلف من الكلمة وأمثالها كلاماً يمكن أن يعمل فيه عقله وفهمه وبصيرته”.(15)
لقد جسّد كتاب (الأيام) لطه حسين سيرته الذاتية منذ طفولته ، لكنه لم يستخدم ضمير المتكلم في سرده، وانما كان يقول:” يذكر صاحبنا السِّياح، والمزرعة التي كانت تنبسط من ورائه”.(16) وقد تعرض لتربيته الريفية ودراسته للقرآن الكريم، فأصبح يلقب بالشيخ، يتحدث عن هذه السيرة بشكل أفقي ،وأحياناً يستطرد، ويطرح بعض الصور والعادات ، وكل ما يمت الى طبيعة التصور الشائع آنذاك، بمصر عن التعليم ، اذ يقول:” للعلم في القرن ومدن الأقاليم جلال ليس له مثله في العاصمة ولا بيئاتها العلمية المختلفة”.(17) فقد كان العلماء يذهبون ويعودون الى القاهرة ،ولا يحفل بهم أحد، ولكن طه حسين ، حيث يقول:” وكان صاحبنا متأثراً بنفسية الريف، يكبر العلماء كما يكبرهم الريفيون ،ويكاد يؤمن بأنهم فطروا من طينة نقية ممتازة غي الطينة التي فُطِر منها الناس جميعاً”.(18)
لقد كان يؤرخ لأيام الصبا والتكوين الثقافي والنفسي، فكانت سردياته هذه تعبيراً عنها، وتعبيراً عن حركتها الأهواء والمؤثرات، وكان انتقاله من الريف الى القاهرة، بمثابة تحوّل مهم فكان ” هذا الطور أحبُّ أطوار حياته تلك اليه وآثارها عنده”.(19)
وكان تأثير هذه المرحلة مهماً عليه لأنه يكمل دورة تعليمه الديني، في الفقه والنحو والمنطق والبلاغة والفلسفة ، فاستحوذ على قدر كبير من علوم العرب، وتراثهم وأصبح بحاجة ماسة الى علوم الحداثة، ومتغيرات الثقافة التي حدثت في أوربا، فأصبح يتقوى لمعرفة برنامج المدارس الثانوية الفرنسية “وأزمع ان يدرس التاريخ والجغرافيا والفلسفة وهذه الخلاصات الموجزة التي كانت تُلقى الى التلاميذ عند الآداب الجنبية الأوربية قيمها وحديثها”.(20)وكان يرنو الى الدراسة في السوربون ،وهكذا كانت حياة طه حسين.
لقد اختار طه حسين (السيرة النبوية) ليفك مغاليق الأسرار والمقدسات ،ويوغل فيها لأنه يريد أن يخترق المألوف ويؤسس لنفسه سردية خاصة على الأعمال الكبرى، لأنه يريد أن يكشف عن الجانب الشعبي المرتبط بالقص الشعبية ، في السيرة النبوية والسىرديات المقدسة، فهو يقول في مقدمته لكتاب (على هامش السيرة) :” ولم يقف الهام هذا التراث العظيم عند الكتّاب والشعراء الذين ينمقون النثر ويقرضون الشعر، في اللغة العربية الفصحى، بل جاوزهم الى جماعة من القصاصين الشعبيين الذين تحدثوا الى الناس في صور مختلفة وأشكال متباينة ، بما كان لآبائهم من مجد مؤثل”.(21)
فتنبأ أن قوماً ما سيضيقون بهذا الكتاب ،ولهذا يستخدم ضمير المتكلم في سرد بعض فصول الكتاب ،وخصوصاً حادثة غزو الحبشة لليمن ،وتحرك ابرهة عامل ملك الحبشة على اليمن، بوصفه حديث الشيخ الذي يروي الأحداث ؛ لهذا يصف حركة نُفيل بن حبيب الخثعمي وهو يرنون الى الفيل فيأخذ أذنه ويُسرّ فيها كلاماً، ثم يُرسها ويشتد هارباً في الجبل ، فيعلق طه حسين معلقاً:” وتثير حركة هذا الرجل في نفسي شيئاً من العجب، فما علمت أنه يعرف منطق الفيلة، وما علمت أن الفيلة تعرف منطق العرب عجبت، وليت عجبي لم يتجاوز هذه القصة ،ولكني رأيت بعد ذلك ما يقضي على كل عجب: رأيت بعد ذلك أشياء ما قدرت قط أنني سأرى بعضها رأيت بعد ذلك أشياء ودَددت لو لم أرها قطّ”.(22)
يتنوع هذا السرد لدى طه حسين فينتقل من ضمير الغائب الى ضمير المتكلم ، وهو يتصل بالانا الحاضرة المتضخمة في نفس طه حسين الذي يريد أن ينسب هذه السيرة لنفسه، أو صورة منها ؛ فالهامش يحاول أن يصبح متناً ومركزاً، ويثير في نفس المتلقي صورة حيّة من القناعات المضمرة.
وفي أعماق نفسه الرافضة لكل ما هو ساكن ،ومؤدلج، وصامت من التاريخ لأنه يرى بأنّ التاريخ متغير، يتغير مع حركة الزمن و مع أسلوب فهم المتلقي له ؛ بمعنى أن النهضة التي يرسمها هي عدم الركون الى الثوابت ،وعدم الاستسلام للغائب؛ لأن القارئ يحمل معه (أناه)، وحضوره الذاتي في كل زمان ومكان، والقراءة هي إعادة صياغة للتاريخ ، وطه حسين يحاول أن يعيد قراءة السيرة ، في هوامش اختارها لتكون هي متن السيرة؛ لهذا اتخذ اسلوب القصة وسيلة لسرد هامشه عليها ، وهو في ذلك يتأمل التراث اليوناني (الغربي)، ويحاول أن يقارنه مع ملاحم العرب، فقد قدّم لهذا الهامش من السيرة وهو مارٌ بذكر تمثيلية / مسرحية، تحمل التسلسل (38) من نوعها من مؤلفات(جيرودور)، وهي أسطورة تتصل بمولد هوقل (أي البطل)، فصورها (سوفوكلس) قصة تمثيلية في القرن الخامس عشر قبل الميلاد. ومازال الشعراء والكتّاب من اليونان والرومان والأوربيين المحدثين يتأثرون بها ويذهبون مذهبه أو غيره، في تصوير هذا الموضوع، حتى انتهت القصص فيه شعراً ونثراً الى هذا العدد الضخم.
أي أنه يقرن سرديات السيرة بسرديات المسرح اليوناني ،والبطل (هرقل) برجل السيرة، وبالمسرح الأوربي قديمه وحديثه ،كما فعل الشاعر اللاتيني (بلوت)،والفرنسي( موليير)، وكان (جيرودور) قد عرض تمثيليته تلك في باريس سنة 1929م، فكانت مثر اعجاب المشاهدين.(23)
ومن هنا قرن بشارة ولادة النبي، بما فعلته النصرانية المدعومة من الدولة الرومانية بالنصارى الذين امتحنوا في دينهم حينما كانت الدولة الرومانية وثنية، فامتحنوا امتحاناً يسيراً، فصبروا حتى قتلوا، فقدموا ضحاياهم الى (جوبيتر) في محاولة لربط حادثة نصارى نجران مع قضية الاضطهاد الديني والصراع بين اليهودية والنصرانية؛ حيث سيحصل الصراع بين العرب المسلمين والنصارى في مكة، ثم بينهم وبين اليهود في يثرب ، ثم يتخذ حكاية (راهب الاسكندرية) وسيلة للمقارنة بين زمنين ودينين وموقفين.
قصص ولكن:
لم يكتب طه حسين رواية أو قصة قصيرة، كما يتصوّر البعض في كتابه (الأيام)، الذي كان جزءاً من سيرته الذاتية، أو في كتابيه:(دعاء الكروان )،و(المعذبون في الأرض)؛ وانما كتب حكايات بصفة مقالات أو ما أشبه ذلك، ولكنه كتب سرداً يعد في جوهره وسيرته، جزءاً من سرديات النهضة الفكرية العربية ، عبرت عن نهوض فكري ، وشحذ للهمم في الانتصار للحياة والانسان، أو الانتصار للطبقات الدنيا من المجتمع؛ في مقدمة كتابه (المعذبون في الأرض)، وصفه بأنها أحاديث ، رأى أن تصدر في كتاب ، لأن الحكومة القائمة لم تحفل بها، وهو يبث صور الفاقة والمعاناة، من جهة؛ فضلاً عن كونه أديباً يكشف الظلمة الكثيفة عن السواد الأعظم من الناس ،والكتاب يتكون من احدى عشرة حكاية ، تسعة منها عنوانها كلمة واحدة ،والاثنتان منة كلمتين؛ وهذه اشارة مضمرة الى قوة تأثيرها وسهولة تداولها وحفظها والتأسيس عليه.
ففي حكايته( المعتزلة) يشير الى أن ما يكتبه هو مقال ، وليس قصة/ حكاية ما؛ فيقول:” ومن أجل هذا كله اخترت أن أتحدث الى القراء في هذا المقال عن أم تمام وأسرتها المعتزلة ،لأن أم تمام كانت تصور المحافظة الميامنة أبرع تصوير وأصدقه وأقواه، فهي من أهل الصعيد الأعلى ،وأهل الصعيد محافظون كما يعلم القراء ، لم يفسدهم العلم، ولم تنحرف بهم المعرفة عن الطريق القصد، ولم تعلمهم الحضارة وما كثر فيها من البدع أن في الأرض جوراً يجب أن يرتفع عنها”.(24)
في المقالة
كتب طه حسين المقالة الأدبية والمقالة السياسية ،والصحفية أحياناً، فكانت كتاباته تمثيلاً لنسيج فكري ،وأسلوب نقدي يقترب ، في غالب الأحيان، من المقالة الأدبية؛ فحتى كتابه (المعذبون في الأرض)، هو عبارة عن مقالات ذات طبيعة قصصية، أكثر منه قصصاً، تحتوي على عناصر بناء القصة بالمفهوم المتعارف عليه، مع أنه اطلع على الأدب الفرنسي اطلاعاً عالياً، كما أن كتابه (حديث الأربعاء)، يجنح نحو المقالة ،وإن كانت طويلة نسبياً ،وذات رؤية تحليلية، وفيها اقتباسات واحالات طويلة لا تتناسب مع حجم المقالة ،ولكنه في كتبه الأخرى، مثل ( من حديث الشعر والنثر)، جعل كل فصل عبارة عن عدة مقالات ،وجعل لكل منها عنواناً داخلياً، ولكنها يمكن ان تعد مقالة أدبية قائمة بذاتها؛ ففي الباب الثالث (الكتاب الثالث) المعنون (أسباب نحل الشعر)، يقطع الباب الى موضوعات متسلسلة تؤدي غرض البحث.
وفي كتابه( فصول في الأدب والنقد) يبدو طابع المقالة وأسلوبها واضحاً، بالرغم من صعوبة ترويض النقد الأدبي الأكاديمي العميق الى أسلوب وهيكل المقالة الأدبية، ولكن عنوانات الكتاب تشير بوضوح الى أنه عبارة عن مقالات / فصول ، في موضوعي الأدب والنقد، وهما يمثلان مسيرة طه حسين في مناقشاته للأدب، وانتقاله من موضوع الى آخر.
ولكنه في مقالته (فيض الخاطر) التي أهداها الى أحمد أمين، لأنه تنال فيها كتاباً له بهذا العنوان، ويبدو حجم وهيكل وبناء المقالة واضحة ، مع أنه يجنح الى اثارة الكثير من الأسئلة ، فكانت هذه الأسئلة تنويهاً الى نزعة نقدية عميقة في طبيعة بناء المقالة ذاتها.
كما جاء كتابه(ألوان) بصفة مقالات أدبية رصينة ، كتبت لتعبر عن أسلوب طه حسين في تناول الثقافة من أوجه مختلفة ،وهو من النادر أن يميل فيه ال ى اقتباس النصوص ،لأنه يدخل في الموضوع مباشرة، ولعل عنوان الكتاب يوحي بالتنوع والانتقال من ميدان الى آخر. وفي كتابه( نفوس للبيع، مرآة الضمير الحديث)، تتقلص المقالة وتنتقل من الجانب الأدبي الرصين والدقيق الى فضاء أوسع، فيه شيء من السياسة والعودة الى التراث وها يكشف عن غزارة ثقافته واحساسه بضرورة اداء دوره النهضوي.
أما كتابه(خصام ونقد) فإنه كتاب ذو نزعة حوارية تحاول استدراج المتلقي الى قضية الصراع بين القديم والحديث، وهذا هو موضوع مهم بالنسبة لتيار النهضة العربية الفكرية وقدرتها على تقليص هيمنة الماضي على الحاضر.
اما كتابه( خواطر)،الذي نشر أول مرة سنة 1965م، فتهيمن عليه المقالة الأدبية، من خلال عرضه وتعريفه ونقده، لما كان يقرأه العميد من كتب، فيبدي ملاحظاته وهو متسلح باللغة الانشائية المتينة، لها ديباجة غنية بالوصف والتأثير، وهو كاتب انطباعي بامتياز في هذا الجانب ،ولكنه يعد كتاباً يفتقر الى مقدمة تنوه للقارئ بطبيعة الكتاب، ولكنه يعد كتاباً سردياً / مقالياً من نوع خاص ،وهو كاتب لماح ومثير ،ولكنه لا يميل الى العنف وتصعيد حدة الموقف ، بينه وبين ما ينقد علا خلاف ما طرحه في كتابه(خصام ونقد).
المذكرات:
لقد حرص طه حسين في (مذكراته) على كتابتها بضمير الغائب (هو)، تجاوزاً لحضور (أناه) المتضخمة بسبب فقدانه حاسة البصر، وهذه ملاحظة ذكية تعبر عن اعتقاده بضرورة أن تكون مذكراته وسيرته جزءاً من المشهد التاريخي والمعرفي والانساني، وقد كان يمثل الجيل الثاني من النهضة العربية الفكرية، بعد جيل الأفغاني، وتلميذه المقرب محمد عبده، وثلة من مريديه، من أمثال :علي عبد الرازق في كتابه ( الاسلام وأصول الحكم)،والكواكبي وكتابه (طبائع الاستبداد)؛ فكان محمد عبه ومحمد رشيد رضا بوصفهما متممان لدور جمال الدين الأفغاني، غير المتأثر بالغرب ،والذي أنتج اصلاحه من الداخل، وبقي يرفض التدخل الأجنبي الخارجي، ويعوّل على التحولات الداخلية واصلاح أسلوب الحكم الاثنوقراطي العثماني المتآكل .فقد ارتبط دور طه حسين بالتحولات المتأثرة بالخارج، بعد حصوله على البعثة الى فرنسا، فاستكمل المؤثرات الخارجي التي اقترنت بحملة نابليون على مصر.
والى جانب المذكرات فإنّ للأوراق والمراسلات قيمتها في تسجيل وتوثيق حياة طه حسين ” ليست فقط من كونها وثائق أدبية بالغة القيمة والأهمية ،وانما لمصداقيتها باعتبارها كتبت بتلقائية تجعلها بريئة من كل قصد يستهدفه النشر، كتب معظمها شباب ورجال لم يكن معظمهم قد بلغ مرحلة الشهرة بعد، ولم يقدر أصحابها يوماً أنها ستنشر ، فكتبوها لـ”طه حسين” معبرين عن آرائهم ومواقفهم بحرية، ومن هنا كانت تشكل مصدراً مهماً ليس فقد لدراسة ” طه حسين” وآثاره وتراثه ،وإنما لدراسة التاريخ الثقافي والأدبي لمصر المعاصرة، كما تمثل كنزاً لنقاد الأدب ومؤرخيه، فضلاً عن أنها، في حدّ ذاتها، تقدم رؤى فكرية ومشاعر انسانية فياضة ،وأدباً رفيعاً”.(25)
لقد بدأت رحلة طه حسين الأولى في التأثر بالدراسة بالجامع الأزهر، وفيه يقول:” كان صاحبنا الفتى قد أنفق أربعة أعوام في الأزهر، وكان يعدّها أربعين عاماً، لأنها قد طالت عليه من جميع اٌطارها كأنها الليل المظلم، وقد تراكمت فيه السحب القاتمة الثقال ، فلم تدع للنور اليه منفذاً”.(26) فقد كان الأزهر مؤسسة دينية ثقافية غير معنية بالحداثة ،وان كانت معنية بالإصلاح وتدريس الفقه والتفسير وغيره؛ وكان التحديث بدأ يتوضح عبر اللباس؛ فقد ” كان الاساتذة المصريون يختلفون فيما بينهم اختلافاً شديداً، كان منهم المطربشون والمعممون والذين سبقت العمامة الى رؤوسهم ثم انحسرت عنها وجاء مكانها الطربوش”.(27) وهذا ما أحدثه سلاطين الدولة العثمانية، حين جعلوا الزي تعبيراً عن الحداثة وتبنوا الطربوش اشارة سيميائية لها مغزى، مع أن مناهج البحث والدراسة وأساليب ادارة البلدان ما زالت ثابتة على التقليد العثماني.
لقد تلقى طه حسين الدعم من المنظومة السياسية التي واقفت على ارساله الى فرنسا لغرض الدراسة التحديث، وهناك التقى بالتيار الاستشراقي، فقد كانت لهجتهم المصرية” تملأ أفواه الطلاب بالضحك، وكان منهم الذين يلوون ألسنتهم بالعربية يقلدون هذا الاستاذ او ذاك من أساتذتهم الايطاليين والألمان. ولم ينس الفتى يوماً قرر فيه الطلاب أن يضربوا عن دروس الاستاذ ناللينو الايطالي، لأن ايطاليا أعلنت الحرب على تركيا، وأرسلت سفنها غازية لطرابلس”(28)
لهذا قرر أن يتعلم الفرنسية حتى لا يعود الى سجن لافونتين، في قاعة تدريس اللغة الفرنسية؛ فلما سافر أخذ يتزود بالعلم من مناهله الأولى، ولأنه بصير ، فقد ” تعود أن يأخذ العلم بأذنيه لا بأصابعه ،وهو من أجل ذلك يجد المشقة كل المشقة في تتبع هذا التقط البارزة حتى يؤلف من هذه الجملة وأمثالها كلاماً يمكن أن يعمل فيه عقله وفهمه وبصيرته”.(29)
لهذا اختار صنوه أبا العلاء المعري مادة لدراسته، والذي ” ملأ نفس الفتى ضيقاً بالحياة وبغضاً لها، وأيأسه من الخبر، وألقى في روعه أنّ الحياة جهد كلّها ومشقة كلّها، وعناء كلّها”.(30)وكانت التحولات لديه قد بدأت بالخروج من الأزهر بملابس أوربية قاصداً فرنسا، متمثلاً تقاليدها وحياتها وفكرها بصورة طوعية لا قسرية كما أرادها بونابرت.
لقد كانت رحلة السفينة، محاولة للاتصال بالغرب والعيش فيه والزواج من نسائه، محاولة جازمة لرفض الماضي والبداية برحلة جديدة، رحلة التحوّل منهجياً لقراءة التراث العربي ،والتخلص من مقدسات لأسلاف، وقد حصلت الحرب العالمية الأولى، وهو متوطن على الدراسة فكانت نتائجها هي التي تحسم مستقبله ومستقبل مصر التي كانت خاضعة للنفوذ البريطاني.
لقد كان طه حسين نسيج وحده جسداً وروحاً وثقافة ، يمثل النهضة خارج اطرها المحلية، لفرادة وضعه وتطوره العقلي والنفسي ؛ فقد كان يبغض سعد زغلول الزعيم الوطني المناهض للاستعمار البريطاني وزعيم حزب الوفد المصري، وينتقد المنفلوطي بالرغم من كونه من المجددين، الذين كان لهم دورهم في الترجمة وكتابة المقالة والقصة التجريبية؛ ولكن بأسلوب رومانسي فج، وغير رصين، وهو يخدم فئات عمرية معينة ولا يصلح لبناء خطوة نهضوية كبيرة.
كانت فكرة طه حسين هي ان تكون النهضة جوهرية تقترن بالحبّ والزواج، حيث تصبح الحداثة جزءاً من كيانه ووجوده ،ليلقي عن جسده جلباب التقليد ويرتدي سرديات المنية الحديثة، في ظل ثقافة فرنسية حقيقية، بعد أن ارتاد المسارح ومعاهد الموسيقى واللهو، فقد ” اتخذ الفتى زي الأوربيين ،وما أسرع ما تعلم الدخول فيه والخروج منه، الا شيئاً واحداً لم يحسنه أعواماً طوالاً، وهو هذا الرباط السخيف الذي يديره الناس حوا اعناقهم، ثم يعقدونه بعد ذلك من أمام عقدة يتأنقون فيها قليلاً أو كثيراً”.(31)
دشن طه حسين المرحلة الثانية في زواج بين حضارة الأزهر ومصر مع حضارة فرنسا؛ فكانت دليله الى ذلك المرأة التي أبصر بعينيها تلك الحضارة فكانت رفيقة دربه ، التي تقرأ له ثقافة أمتها، هذا الخروج قاده الى الاحساس بانّ النهضة هي نهضة ثقافية تجمع بين دراسة التاريخ والأدب ، حيث سمع وقرأ من أساتذته أنهم ” يعرضون ويفسرون تاريخ الأمم القديمة والحديثة ،وما اختلف عليها من الأحداث التي تطورت لها نظم الحكم على اختلاف العصور. وكان شديد التأثر بدروس الاستاذ دوركيم في علم الاجتماع. وكان الاستاذ دوركيم قد أنفق عاماً كاملاً يدرّس لتلاميذه مذهب الفيلسوف الفرنسي سان سيمون الذي يقوم على امور الحكم الصالح المنتج الذي يحقق العدل ويكفل رقي الشعب ويتيح للإنسانية أن تتقدم الى أمام ن يجب أن تصير الى العلماء لأنهم هم الذين يستطيعون أن يلائموا بين نتائج العلم على اختلافها وبين حاجات الناس وطاقاتهم واستعدادهم للتطور والمضي في سبيل الرقي”.(32)
ولهذا رأى بأنه ليس غريباً عليه أن يكون متأثراً بالثورة الفرنسية، وبثقافة فرنسا كلّها، حاملاً معه زوجته وطفله الوليد الهجين من ثقافتين، ومن هنا كان اختياره ابن خلدون مادة لدراسته بعد أن قضى ردحاً من الزمن مع أبي العلاء المعري سجين المحبسين، لقد كان ابن خلدون مفتاح العرب الى الغرب، مثلما كان مفتاح الغرب الى العرب، فكانت اطروحته للدكتوراه عن فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، وكان يعرض على استاذه المستشرق الفرنسي (كازانزفا) ما يكتبه، وكان دوركيم استاذ علم الاجتماع دليله الى هذه القراءة، لهذا كانت قراءة أبي العلاء وابن خلدون متصارعة أيما صراع في ذهنه ،لبعد الشقة الزمنية والنفسية ،والنوع الثقافي ، واحد منهما شاعر ،والآخر فقيه ومؤرخ ورحالة وفيلسوف ومؤسس علم الاجتماع عند العرب، متنوع الثقافة ؛يجمع بينهما شتات من الفلسفة في ظل نسق من الخطاب المضمر هو السخط ،والاهمال والحسد والعداء المستحكم من الأعداء.
لم تكن (مذكرات طه حسين) هي الخطاب السردي الوحيد له، فلديه كتاب (الأيام) ،و(المعذبون في الأرض)، وكتابات ومقالات أخرى عديدة، وخصومات وأعداء ومعارك كبيرة؛ فقد كان طه حسين نفسه مزيجاً قوياً ” من حضارتين متغايرتين: حضارة الشرق وحضارة الغرب، وعصارة طيبة من معهدين مختلفين :” الأزهر” و”جامعة باريس” فأصوله ما برحت راسخة في ثقافة الأزهر تستخلص منها عناصر غذاء لا غناء عنه ولكن فروعه تسامقت في حضارة الغرب يتنسم منها الهواء ويستمد النور”.(33) لهذا صار المنهج الديكارتي ،أو منهج الشك من أجل اليقين هو المنهج المفضل لديه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تاريخ آداب اللغة (زيدان)،4/ 18-19.
2- تراجم مشاهير الشرق،1/ 361.
3- مذكرات محمد عبده، ص46.
4- الاصول الاجتماعية والثقافية (كول)، ص169-170.
5- مذكرات محمد عبده، ص34-35.
6- ديوان النهضة، ص65.
7- مذكرات محمد عبده، ص47.
8- مذكرات طه حسين، دار الآداب، ط2(بيروت، د.ت)، ص226.
9- طه حسين وتحديث الفكر العربي : د. فيصل دراج، مركز دراسات الوحدة العربية – أوراق عربية(بيروت،2011م)، ص11.
10- النهضة والسقوط (شكري)، ص 254.
11- في الشعر الجاهلي: طه حسين ، تقديم د. عبدالمنعم تليمة، دار رؤية للنشر(القاهرة،2007م)، ص70.
12- في الشعر الجاهلي، ص 71.
13- ينظر: في الشعر الجاهلي، ص96 ، 133، 161.
14- محاكمة طه حسين، تح خيري شلبي ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت، 1972م)،ص9-11.
15- مذكرات طه حسين، ص 132.
16- المجموعة الكاملة ” طه حسين، الشركة العالمية (بيروت ،د.ت)،1/ 18.
17- المجموعة الكاملة،1/78.
18- المجموعة الكاملة، 1/ 78-80.
19- المجموعة الكاملة، 1/ 167.
20- المجموعة الكاملة، 1/ 581.
21- المجموعة الكاملة، 3/ 9.
22- المجموعة الكاملة،3/ 125.
23- المجموعة الكاملة، 3/ 9.
24- المعذبون في الأرض: طه حسين، دار المدى – جريدة الاتحاد ، طبعة خاصة (دمشق، 2009م)، ص 60.
25- طه حسين ، جدل الفكر والسياسة: أحمد زكريا الشلق، المجلس الأعلى للثقافة (القاهرة، 2008م)، ص 181.
26- مذكرات طه حسين، ص7.
27- مذكرات طه حسين، ص63.
28- مذكرا طه حسين، ص70.
29- مذكرات طه حسين، ص132.
30- مذكرات طه حسين، ص137.
31- مذكرات طه حسين، ص 168.
32- مذكرات طه حسين، ص52.
33- معارك طه حسين الأدبية : سامح كرّيم، دار القلم ، ط2 (بيروت، 1977م)،ص 56.


أعلى