حسن لختام - البحث عن مكان لدفن السيد مسعود

كنت أنتظر بفارغ الصبر قدوم "الأتوبيس" ليلقي بي قرب الجامعة. ذلك اليوم كانت عندي محاضرة مهمة في "علم اللاهوت". بعد طول انتظار ظهر الشبح، فرميت بنفسي داخله كبقية الحشود. صراخ وازدحام، وسب وشتم بين الركّاب..لامكان للوقوف ولو برجل واحدة. كان "الأتوبيس" يتقدّم ببطء شديد، وكانت درجة الحرارة لاتطاق. كنت أشعر بالإختناق، حتى أنني قرّرت في لحظة من اللحظات أن أقفز من النافذة ، وأنفذ بجلدي وروحي من تلك المأساة. لكني تراجعت عن قراري.. فإن قمت بحركتي الجريئة تلك ، سيتهمونني -بالتأكيد- أنني سرقت شيئا ما من أحد الركاب، وأحاول الهرب عبر النافذة.. لذا قرّرت النزول عند أول محطة. بدأت أتقدّم بصعوبة بالغة نحو باب الخروج. كنت أقاوم أمواجا بشرية هائلة لكي أتقدّم بخطوة واحدة.. فعلا، كان الأمر لايصدّق. فجأة أثار انتباهي صندوق خشبي، ليس بالغريب عني، يحمله أربعة أشخاص على أكتافهم. أصابتني الدهشة، ولم أصدق ما رأته عيني. تساءلت في نفسي قائلا:
-هل أنا على وعي أم سكران؟
تأكدت أني لم أتناول شيئا يفقد العقل ذاك الزوال، فغالبا ما كنت أتناول كمية كبيرة من النبيذ ذي المفعول القوي. همس أحد الركاب في أذني قائلا:
-سمعتهم يقولون أن حارس المقبرة منعهم من القيام بعملية الدفن;إنهم لايتوفرون على شهادة التصريح .
تجمّدت في مكاني، ولم أنطق بكلمة. ثم أضاف الراكب، الذي كان ملتصقا بي من شدّة الإزدحام، وهو ينظر إلى النعش بفضول زائد، قائلا:
-سمعتهم يقولون كذلك أنه توفي إثر سكتة قلبية مفاجئة، بعد سنوات عديدة من القهر والإستبداد في حق أبنائه وذويه، وكل خلق الله. إنه يدعى السيد "مسعود" والذين يحملون النعش هم أبنائه.. طالما تمنوا من الزمن أن يعجل برحيله، ويخلّصهم من طغيانه وجبروته.
"الأتوبيس" يتقدّم وهو مكدّس بمختلف الأجساد الآدمية..أياد تقبض بقوّة بالمشاجب، وأخرى تتمسّك بالنعش تفاديا للسقوط أثناء اهتزاز "الأتوبيس" بسبب الحفر المتناثرة على طول الطريق.
توقف "الأتوبيس" أمام مستودع الأموات. ترجّل الأشخاص الذين يحملون النعش، وانطلقوا مسرعين داخل المستودع.
دفعني الفضول، لمعرفة نهاية تلك القصة الغريبة، إلى أن أقفز خارج الأتوبيس بحركة خفيفة وسريعة، غير آبه بالركّاب. تهاطل عليّ وابل من السب والشتم بسبب حركتي البهلوانية التي أزعجت كل من كان يعترض طريقي. تابعت سيري، ولم أعر أدنى اهتمام لتلك الشتائم واللعنات. انطلقت مسرعا داخل مستودع الأموات. توقف الأشخاص الذين يحملون النعش أمام مكتب الطبيب المختص. ارتكنت بزاوية مقابلة لهم، وبدأت أراقبهم دون ان ألفت الإنتباه .بدأنا ننتظر.. طال الإنتظار، ولم يظهر الطبيب المزعوم.
تدخل طبيب آخر لحل المشكلة، شرط معاينة الجثة. فوجىء أن الجثة قد أُخد منها القلب والكبد، وأعضاء داخلية أخرى. تفاديا للمشاكل قام الطبيب بتسليم الأبناء شهادة التصريح بدفن الميّت. حُملت الجنازة على الأكتاف، وانطلق الجميع مهرولين باتجاه إحدى مقبرات المدينة. صرخ أحد المارّة قائلا:
-ليس من السنة التعجيل بالدفن.
ردّ علية شخص آخر بثقة عالية في النفس قائلا:
بلى، إنه من المفروض والمؤكّد التعجيل بدفن الميت.
تابعنا سيرنا، ولم نعرهما أدنى اهتمام. فقط اكتفيت بالردّ عليهما في قرارة نفسي قائلا:
-لاحاجة لنا بالفتاوى..ادّخرا فتواكما لنفسيكما..أو اذهبا إلى الجحيم.
بعد فترة، وصلنا المقبرة وهمّ أولاد السيد مسعود بالدخول. لكن الحارس منعهم من ذلك. أخبرهم بأنه تمّ إيقاف الدفن بتلك المقبرة منذ مدّة طويلة.. نصحهم بالتوجه إلى إحدى المقبرات الحديثة العهد، تتواجد خارج المدينة.
بعد أن استعاد الحاملون للنعش أنفاسهم، انطلقوا، مرّة أخرى، مهرولين باتجاه المكان المحدّد..
أطلقت بدوري العنان لساقيّ خلفهم.. كنت ألهث من شدّة التعب، وبدأت أحس بوخز يؤلمني في باطن قدمي. تمنّيت أن تنتهي تلك التراجيديا في أسرع وقت، حتى أتمكن من العودة إلى الجامعة لحضور المحاضرة المرتقبة ذلك اليوم.
أخيرا، وصلنا المقبرة التي دلّنا عليها الحارس. لحسن الحظ -هذه المرّة- نجح أولاد السيد "مسعود" في إيجاد قبر لوالدهم.
وُري جثمان السيد مسعود" وانتهى أمره. لكن، بقي قلبه بكل مكنوناته..بما فيها ذاكرته.

مراكش 2006

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى