حنان درقاوي - بنت الرباط.. قصة قصيرة

نزلت من مكتبي بعمارة السعادة بمركز المدينة حيث كنت اختنق وذهبت لاكل كفتة في مدخل باب الاحد. لمحت صديقة قديمة، رجاء، لم ارها منذ زمن لكنني تعرفت عليها منذ الوهلة الاولى. كانت في كامل اناقتها المعهودة. تتابط ذراع شاب اسمر اللون، قصير القامة. استغربت فهذه ليست نوعيتها من الرجال فهي حسب ذكرياتي تحب الرجال بيض البشرة ذوي الهامات الطويلة. اقتربت مني مندفعة:
- والله غيوب هذه.
- انت التي غبت ياعدوة، فيما غيبتك؟
- فيما ترين....
التفتت الى الشاب الذي كان لا يرفع عينيه عنها. ارتني خاتما مذهبا من ثلاث طوابق.
- اقدم لك محمود الرمضاني، خطيبي ورجل حياتي. زفافنا خلال ايام، محمود فنان تشكيلي بل هو الفنان التشكيلي القادم.
- مبروك عليك الف مبروك.
رجل حياتها؟ ماهذا العبث؟ التقيتها قبل سنوات وكانت تقول نفس الشيئ بصدد ذلك الشاعر الوسيم الذي سيسطع نجمه ذات يوم وستصير زوجة الشاعر. هكذا كانت تحلم ايامها. كانت تتشبت به ليس لوسامته بل لكونه معروفا وهي تدرب يديها الكريمتين على التحيات ووجهها الجميل المدور على الصور. كانت قبل سنة تحلم بشاعر وهاهي اليوم تقدم لي فنانا هو رجل حياتها. حلم جديد طبخته على جناح السرعة. لم تكن تبحث عن الحب يوما. لم اقابل فتاة بتلك الشفافية في حياتي. كانت تريد رجلا معروفا، مشهورا. يدخلها الى ايام العاصمة ولياليها. قدمت من حي المحيط، حي متوسط لكن همها هو ان تدخل بيوت الاحياء الراقية كاكدال والسويسي وحي الرياض وحتى مركز المدينة تجد فيه شياكة ما في حين اجد فيه زحمة وضجيجا عارما. رغم عملي في وسط المدينة لم استطع ان اتالف مع الحياة فيه. المهم انها تريد رجلا معروفا ومهيا للاغتناء. تريد رجلا تنظر اليه الاخريات، كل الاخريات ويبقى معها هي لانها الاجمل.
اخذتني على جنب وحدثتني عن رجل حياتها:
- التقينا في حفل افتتاح معرضه بباب الرواح. كل اهل الرباط كانوا حاضرين فالوزير نفسه افتتح المعرض، تصوري الوزير نفسه. سلمت عليه واخذت معه صورا مع الوزير بشخصه ومنذ ذلك اليوم لم نفترق، لااقصد الوزير اقصد محمود طبعا. الوزير متزوج منذ زمن كما تعرفين. ولولا ذلك لنظرت اليه هو الاخر عل وعسى.
كانت تنظر الى كل رجل مهم نظرة اغراء. لايهمها السن ولا الشكل. كانت تريد رجلا ذا سلطة وكانت تحركها رغبة فظيعة في الاقتناء. هوس في الاقتناء كانها تخفي بذلك قلقا ما، قلقا من وجودها بكامله. المهم ان تشتري، لايهم ماتشتريه: فسا تينا لاتلبسها ابدا، كتبا لاتقرؤها. حين لاتقتني تحلم بكل مايمكن ان تقتنيه اذا ما اتمت زيجة ناجحة مع بطاقة ائتمان لاتنضب.
اقترحت علي ان اجري حوارا مع رجل حياتها وان اخصص له صفحتين في المجلة التي اشرف عليها.
- ستعجبين بفنه لامحالة.
- تتركينني احكم على اعماله بحرية يالئيمة فهو رجل حياتك انت اما بالنسبة لي فهو فنان شاب وربما تكون له موهبة حقيقة، من يدري؟
كنت لتعلقي بالمشاعر اود ان اسالها عن مشاعرها الوقادة تجاه الشاعر واين اختفت. تذكرت ماكانت تقوله منذ ايام الكلية:
- انا بنت من الرباط وبنات الرباط يعرفن مصلحتهن ونحن لانجري وراء الحب اذا كان فيه فقر وغم.
كنت اقدر فيها ذلك الوضوح لهذا قبلتها من الوجنتين وانصرفت. فكرت في امر هاته الرباطية، امراة جميلة، متعلمة. تعمل ولاتستطيع ان تستقل بذاتها. ربما يكون الاستقلال غير لازم للمراة، يكفي ان تظل رهينة منظور الرجل لها. نظرتها لجسدها الجميل تتاسس على عدد المعاكسات اليومية والمجاملات التي تتلقاها من رجال يرونها وليمة في سرير. لم تكن تفكر في كل هذا كانها مبرمجة على فكرة واحدة : ان تلتقي الرجل المشهور. كنت اشفق على هذا الرجل المشهور الذي ستلتقيه ذات يوم لامحالة. لاشك ان ذلك التعيس سيصد ق اهاتها ولوعتها اليه فيما هي لوعة الى شهرة وسلطة وهمية تصير حقيقية اذا ماكانت بطاقة البنك من لون ذهبي. كنت اود ان اصرخ ايام لوعتها بالشاعر، ان اقول لها بان تثور على هاته البرمجة لكنني كنت اكتفي بالتساؤل عن طفولتها وكيف تشكلت شخصيتها المتناقضة بين استقلال فعلي اسسته من خلال عملها كمبرمجة حواسيب وبين هذ الضعف الكبير وقبوعها المستسلم في خطاطات لم تصنعها. البنت الجميلة تفكر في زواج ناجح اولا. تظل طيلة حياتها تعمل من اجل هذا وحين تتزوج عليها ان تحافظ على الزوج المهم الذي تنظر اليه الاخريات.
بعد اسبوع، كانت تستقبلني على درج معرض باب الرواح. سعدت بحضوري وبالة التصوير وعدة التسجيل خاصة. حوار اخر ستعلقه في الالبوم الكبير وتفخر لانها زوجة الفنان. كانت تشرف على كل شيء في المعرض في تفان غريب. تذكرت انها في ايام الكلية كانت تكتب شعرا رقيقا وحبذا لو ركزت مجهودها في تطوير تلك الموهبة. لم تكن مبرمجة على هذا على مايبدو او ربما ليس لديها من قلق الوجود مايكفي لتتكفل بتجربة شعرية اوربما هي ليست بحاجة من اصله للكتابة وللموهبة. تكفيها موهبة زوجها لتدخل ايام العاصمة ولياليها على حد قولها. اي خوف يدفعها للتصرف بهذا الشكل في حياتها ؟ ربما اصولها المتواضعة هي التي ولدت بداخلها هذا النهم للاشياء البراقة. من الصعب ان تكبر محروما في مدينة مثل الرباط، مدينة مليئة بالمغريات وحيث الفروق الطبقية معلنة بدون خجل كانها حرب يعلنها الاغنياء على الفقراء. تاسست شخصيتها على شاكلة الرباط عامة. مدينة المظاهر والاشياء البراقة. مدينة النفاق الاجتماعي، مدينة لاتتوفر على عمق غير قدرة البعض على الاقتناء وعوز معظم اهاليها عن اطعام اطفالهم. هي هكذا الرباط، مدينة قاسية، لاترحم احدا وتبرمج الجميع من اجل هدف واحد: الارتقاء ولو على حساب المشاعر وما المشاعر في هاته المدينة؟ هي مايتشبت به الفاشلون مثلي، اكتفي بعملي كصحفية في مجلة لايشتريها احد.
اخذتني على جنب وتحادثنا بوضوح عن هذا الزوج المهم:
- هو ليس بوسامة الشاعر ولست مهووسة به كما كنت مهووسة بالشاعر. هو مقبول شكلا. انا بصدد تغيير شكله تماما. رميت بسراويل الجينز التي كان يلبسها واشتريت له طواقم سوداء واقمصة بيضاء. انه انيق الان بفضلي، اليس كذلك؟
- واذا قرف من هذا، اذا قرف من تسلطك على حياته يامجنونة؟
- لن يقرف فالرجال اطفال يحبون ان نعتني بهم، اصبري علي قليلا وسيصير خليفة القاسمي في هذا البلد.
- انه اول معرض له وهو شاب.
- الجميع قالوا انه موهوب وحتى الوزير حضر الافتتاح وهذا مؤشر.
- دعيني اكتشفه اذن.
دخلت المعرض متشككة لكنني انبهر ت بعمله. لديه موهبة حقيقة في اختيار الالوان ودقة في الخطوط، رسم تعبيري فاتن لايترك تفصيلا الا نقله، قوة تشكيلية كانها لوحات فنان مكتمل وليست لوحات بدايات. المؤكد انه موهوب وفي هذا لم تخطى صديقتي.
اجريت الحوار معه وكان في قمة الخجل ففكرت لسبب ما ان زواجهما لن يدوم ، لااعرف لماذا. شيئ ما ينقص هذا الفنان الوافد من مدينة مراكش. ينقصه جشع فناني العاصمة ونهمهم بالشهرة وهو لهذا لن يكفي نهم صديقتي.
اشرفت هي على كل شيئ من احضار كؤوس الشاي والعصير كربة بيت امينة تشرف على بيتها وكنزها الذي هو فنان حياتها. كانت من حين لاخر تريني اللوحات وتعلق بصوتها الشجي. اجمل شيئ فيها صوتها. ارتني لوحة في مدخل المعرض وقالت:
- سيدة غنية ابدت اعجابها بهاته، ستقتنيها في الاسبوع القادم.
اكيد، الاهم هو ان يتم اقتناء اللوحات والا لامعنى لكل مجهوداتها في الاشراف على كل شيئ.
اوقفتني امام لوحة تعبيرية جميلة
- السيد الوزير توقف طويلا امام هاته بالذات، اه لو يقتنيها.
قلت لها
- ماهي لوحتك المفضلة انت؟
- لوحتي المفضلة هي الفنان نفسه ياصديقتي. لقد فزت به قبل ان تطير به بنات العاصمة.
ضحكنا وعدت لاتمام الحوار الذي كان شيقا فقد كان عند هذا الفنان قلق وجودي حقيقي ومعرفة خاصة بالفن التشكيلي وبالتقنيات والالوان. المثير هو انه لم يكن منتبها لموهبته. كان متواضعا جدا ويقول انه فنان شاب وهذا اول معارضه وامامه الوقت الكثير قبل ان يكتمل عمله الفني.
سعدت انه في العاصمة لايزال هناك فنان متواضع امام عمله.
هنا تدخلت الرباطية:
- بل انت فنان كبير ياعزيزي.
- كما تشائين عزيزتي.
انهيت حواري وانصرفت. تبادلنا ارقام الهاتف ودعتني للعشاء في بيت الفنان حيث استقرا منذ اسبوع، بيت بحي الاوداية المشرف على البحر وهو اجمل احياء الرباط حسب ظني رغم شعبيته.
ذهبت في اليوم الموالي للعشاء فوجدتها في قمة اناقتها. كانت قد دعت بعض الرباطيين الى العشاء احتفاءا برجل حياتها، الفنان الكبير.
الامسية كانت عبارة عن جداول من النفاق الاجتماعي التي لاتنضب ومن الاراء الجاهزة عن الفن، الكتابة والرسم والسياسة لكنها كانت تعطي الانطباع بان من يقولها فنان او مثقف كبير. الاهم في امسيات العاصمة هو هذا الانطباع بالذات. لايهم العمق، الاهم هو ان تعطي الانطباع بان لديك ماتقوله حتى لو لم تكمل الجمل. عادت هي باطباق لذيذة وانواع عديدة من العصائر. الحاضرون كانوا في اغلبهم فنا نين ومثقفين وفيهم موظف سامي. سعدت للحضور فهذا هو تماما الوسط الذي تود ان ترتبط به. اسرت لي ان حي الاوداية لايناسبها لكنه سيكون مجرد مرحلة انتقالية في حياتها.
اخذتها عن جنب وسالتها عن موعد الزفاف فاخبرتني بقربه.
مرت السهرة وسط المجاملات والاكل اللذيذ. تحدثنا عن اعمال الفنان وظلت هي سيدة السهرة. تصورت مع الجميع وربتت على اكتاف الحضور. اقتربت منهم فهم اشخاص مهمون واكرمت المسؤول السياسي ايما اكرام.
سالتني عن الحوار فاخبرتها انه ينزل الاسبوع المقبل مع صور جميلة. شكرتني وقالت انها ستضيفه الى البوم المعرض وهو ضخم جدا. غالبت ضحكة قاهرة فقد كانت في الزمن الماضي تجمع قصائد الشاعر وظهوره الاعلامي في البوم صور كبير.
توطدت علاقتنا بعد هذه السهرة وصرنا نلتقي اما في مكتبي او في منزلها بالاوداية. اقامت حفل زفاف من الطراز العالي في احدى اجمل قاعات الحفلات بالعاصمة. كانت جميلة الجميلات وكان كل شيئ ناجحا الا ان الفنان كان يظهر عليه جزع ما. فكرت انه القلق الذي به بشكل طبيعي يزداد ليلة زفافه.
حين عادت من شهر العسل اتصلت بي جزعة وطلبت ان نلتقي. التقينا في مكتبي فقالت:
- زوجي زوجي......
- ماذا به زوجك؟
- لاينتصب، انه لاينتصب، كارثة.
- لم تجربيه من قبل ؟
- كنت عذراء ولم اكن لاقبل. مالعمل؟
- تعرضينه على الطبيب طبعا.
عملت بنصيحتي. زار زوجها الطبيب فبدات مشكلته تنحل لكن الادوية سببت له نوعا من الانهيار العصبي والتعب الذهني الذي جعله ينفر من الرسم ويمزق معظم لوحاته. كانت الرباطية تنهار كلما مزق لوحة من لوحاته. كانت احلامها تموت كلما اخبرها انه ليس فنانا وليس موهوبا ولايريد ان يرسم. كانت تجن حين يخبرها انه لايريد ان يكون عرضة لعيون الاخرين يحكمون عليه وعلى اعماله. لايريد ان يحيي اشخاصا لايحبهم بالضرورة. لايريد ان تلتقط له صور مع اشخاص لايعرفهم. اخبرها انه سيغير مهنته وطلب منها ان تستعد للرحيل الى مدينة مراكش، مدينته الجميلة حيث حرارة العيش.
حين سمعته ينطق مراكش طلبت الطلاق.
حين التقيتها مرة اخرى كان قد مضى اسبوع على طلاقها. كانت ذاهبة الى عرض فيلم في المركز الثقافي الفرنسي. رافقتها واسرت لي بجدية:
- هناك تلتقين مثقفي الرباط، اساتذتها الجامعيين ورجالها المهمين. لن تمر السنة قبل ان اتزوج من رجل لايصاب بانهيار. لابد ان في هاته العاصمة رجلا بالمواصفات التي ابحث عنها.
طمانتها الى وجود هؤلاء الرجال. اخبرتها ان عليها فقط ان تدخل العرض وتشارك في النقاش فهي ايضا مثقفة او على الاقل تعطي الانطباع بذلك. بعد العرض تختار من رجال العاصمة من تهوى نفسها.
في نهاية العرض رايتها تاخذ شابا وسيما، ابيض البشرة، عالي الهمة على جنب، اخبرتني فيما بعد انه:
- مدير مقاولة في السينما، سيصبح معروفا ذات يوم وغنيا ايضا. يربحون كثيرا في السينما، اليس كذلك؟
- هو كذلك يابنة الرباط.
تركتها لهوسها وتمنيت فقط ان يكون هذا المدير قادرا على الانتصاب بما يكفي لنهم صديقتي الرباطية.

حنان درقاوي - كاتبة من المغرب
أعلى